12 سبتمبر, 2016 - 12:51:00 يواصل موقع "لكم" نشر قراءة تحليليلة على حلقات للكتاب الجديد للمفكر عبد الله العروي "استبانة"، الصادر حديثا في الدارالبيضاء وبيروت. القراءة من إعداد الدكتور عبد الرحيم خالص، وهو باحث في القانون العام ومُهتم بالفكر المغربي المعاصر. وفيما يلي الحلقة التاسعة (ما قبل الأخيرة): تاسعا: حال ومآل الوطنية المغربية اليوم! عَرّفنا معنى الوطنية سابقا، وتحدثنا عن الوطنيين أو ما نسميهم برجال (ونساء) الحركة الوطنية، من محرري دفتر المطالب ومحرري دفتر المطالب المستعجلة إلى محرري وثيقة الاستقلال، في علاقتهم بالمخزن ودائرة السلطان، وكل من ساهم في نشوء الحركة الاستقلالية عموما؛ والآن سوف نقوم فيما يشبه نوعا من التقييم والمقارنة بين ما عرفه مغرب الحماية وما يتوق إليه مغرب اليوم من حماية للبلاد والعباد. ليس بمفهوم الوصاية الفرنسية بالمغرب، بل بمفهوم البلوغ السياسي الذي يمكن المغرب من ممارسة كافة حقوقه التاريخية وحرياته الطبيعية في سبيل حماية وضمان مستقبل الأجيال الحالية والأجيال المقبلة. لقد كان جيل العروي، كوطنيين، ينظرون إلى حماية المغرب كوطن، من ثلاثة زوايا، كانت تتجاذبها ثلاثة تيارات: - تيار يرى في الاستقلال نهاية لنظام الحماية وانعتاق من ربقة التبعية، "وهذا الهدف تحقق سنة 1956" (ص 129)؛ - وتيار يرى في الاستقلال مرحلة ثانية من بعد مرحلة الإصلاحات الجوهرية، بحيث "لا مفر من وضع برنامج إصلاحي محدد يتوج، بعد تطبيقه بنجاح، بالإعلان عن الاستقلال" (ص 129)؛ - ثم تيار، أخير، يرى في الاستقلال، "تحرير الفرد المغربي من القهر، من استبداد حكام المخزن ومن الاستغلال الطبقي، أكان من طرف المغاربة أو الفرنسيين، ومعروف أن الأول أقسى وأفظع من الثاني" (ص 130). يتضح إذن بأن جيل العروي، ولا سيما الطلبة، كان يحاول المشاركة في تحديد مصير البلاد من خلال تحديد الآلية المناسبة للاستقلال مع توفير الجو المناسب لذلك. لقد كان الاستقلال بالنسبة لهم، الهدف المشترك والمبتغى العام والنهائي عن حالة التدهور واليأس والأزمات التي يتخبط بها المغرب. فبالرغم من تحقيق "فسخ عقد الحماية" (ص 130) إلا أنه لا زال الاستقلال الفعلي الذي يحمي المغاربة من "آلام الفقر والجهل والمرض" (ص 131) لم يتحقق بعد! فما الأسباب التي وضعت المغرب في هكذا موضع لا يُحسد عليه؟ وهل من حلول اليوم؟ أم أن بعض الحلول قد فاتها الأوان؟ من الذي يتحمل المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لما بعد الاستقلال؟ والتي لا تزال تبعاتها تجر ويلات الفشل على المواطن المغربي إلى اليوم؟ هل الحركة الوطنية التي لم تحسم تياراتها لا في طبيعة ولا في زمن الاستقلال المطلوب؟ أم في المخزن الذي عجل بالاستقلال خوفا مما تخفيه بقية الأيام، وخوفا من أن تستعيد فرنسا قوتها وتتعمق في المغرب أكثر فتعمق جراحه أكثر وأكثر؟ أم في الصراع الذي دار بين الإثنين حول السلطة الرمزية والسلطة الفعلية، مما موقع المواطن في خانة ثالثة؟ في نظري المتواضع، هناك خلل وقع على مستوى انتقال الحركة الوطنية وتحولها من حركة اجتماعية إلى حزب سياسي لحظة استقلال المغرب. فمن حركة اجتماعية ذات أهداف اجتماعية وسياسية تتبنى سياسة الدفاع عن الوطن والدود عن المواطنين المغاربة تحت شعار الوطنية المغربية إلى حزب سياسي يشارك في ممارسة السلطة السياسية بعد الاستقلال مباشرة، جعل المواطن في المرتبة الثانية بعد مرتبة بناء المؤسسات السياسية التي بإمكانها فيما بعد توفير الظروف والشروط التي يحتاجها المواطنون لتلبية حاجياتهم ومطالبهم الاجتماعية والاقتصادية. الخطأ وقع عندما لم تحتفظ الحركة الوطنية بهامش من الاستقلالية الاجتماعية عن السلطة السياسية، وبالضبط عن سلطة المخزن؛ وبالتالي، اكتفائها بممارسة دورها التحريري والتوعوي على مستوى الفكر والثقافة والمجتمع عوض التحول إلى حزب سياسي على حساب المجتمع ولو من دون قصد مسبق. لكن يمكن القول مع العروي، وبشيء من التحفظ من جهتنا، بأنه: "لم يكن في مقدور أحد أن يتجاوز ما رسم على اللوح والذي كان يقضي أن يكون الحزب في خدمة رمز الأمة الذي أنقذ المجتمع من التفكك والاندثار" (ص 132). لكنه، يمكن في نفس الوقت، أن يتحول جزء فقط من الحركة إلى حزب سياسي، بينما يحتفظ جزء آخر بدور التربية الوطنية للتعريف بما فتئت الحركة الوطنية تكتسبه - وبجهدها الجهيد - في سبيل استقلال المغرب وحماية سكانه وأراضيه، تحت شعار الوحدة الرمزية والبشرية والترابية للمغرب. بمعنى آخر، تحت شعار: الملك، الشعب والوطن؛ أما الله فهو فوق الجميع. إن تأثيرات ذلك الاختيار المصيري لحظة الاستقلال لدى مختلف مكونات الحركة الوطنية، هو ما لاحظناه من انشقاقات حزبية، مباشرة بعد الاستقلال، وبالضبط لدى حزب الاستقلال الذي كان يضم العديد من رموز الحركة الوطنية التي وقعت وثيقة المطالبة بالاستقلال (ص 133). فإذا كان السبب، في نظرنا، هو إبعاد الشعب كوحدة بشرية، عن ملازمة بقية الوحدات باعتبارها وحدات متكاملة لأنها وحدات مصيرية، فإن الأخطر من ذلك، هو إمكانية صناعة عدو غير مفكر فيه؛ عدو، قد يتم استخدامه تحت فكرة "فرق تسد" لماما، لكن لا يصعب وضعه تحت الخدمة دائما. وهذا يعني تشييع التفرقة بين الشعب عوض تشييع الانسجام والتآلف والتضامن والتعايش المشترك بين مختلف تلاوينه الثقافية: العرب، الأمازيغ، الصحراويين، الريفيين، اليهوديين وبقية الفئات الأخرى... الخ. اليوم، ولحماية المغرب المعاصر من الانشقاقات الحزبية والصراعات الإثنية والعقائدية والقبلية والجغرافية والجنسية، وما يشبهها من تمايزات وفروقات لا توحيدية، يجب محاربة التمييز على أساس الانتماءات القبلية إلى انتماءات لا قبيلة، أي إلى الوحدة الوطنية؛ وفي مقابل ذلك، يمكن للانتماء الأيديولوجي أن يحل محل الانتماءات الضيقة لأنه سيخدم الفكر والأفكار والثقافة، وهذا ما نحن إليه اليوم أحوج من أي وقت آخر. وإذا استطعنا أن نحط الشعب على السكة الصحيحة اليوم، في إطار وحدة الانتماء الوطني مع إمكانية الاختلاف الأيديولوجي (أو بدونه)، فإننا سنكون في الطريق إلى الاستقلال الحقيقي فكريا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا... بل وعلى جميع المستويات. نقول كل ذلك، ولا نريد إقصاء أحد من التاريخ كرما أو ظلما. لكن كنا نمني النفس، ونحن من جيل الاستقلال مع أواخر السبعينات، أن يتشارك الجميع في بناء هذا الوطن، وقبله بناء الوطنية، ثم بعده بناء المواطنة. إذن، فالتطور، ليس بالشيء السهل، بل هو سيرورة تاريخية ومسار في الحاضر ثم مسلسل تطول حلقاته عبر المستقبل. فهل يمكن لشخص واحد أو زعيم واحد أن يجسد لوحده كل هذا التاريخ؟ أو هل بإمكان فرد واحد أن يتزعم ويقود ويصنع التاريخ لوحده؟ وعلى مستوى الوطنية والوطن: هل يمكن تجسيد السيادة الوطنية في رمز واحد، زعيما كان أو هيئة سياسية أو حركة اجتماعية؟ وماذا عن البقية؟ وما موقعها في تاريخ المغرب المعاصر؟ هل كان من الضروري، أن تختفي أو تندمج أو تذوب الحركة الوطنية بكل رمزيتها في داخل التصور الذي تم فيه تصور النسق السياسي المغربي لما بعد الاستقلال؟ هل كان لها رأي أم لا؟ هل كان تحولها إلى حزب سياسي برضاها أم لا؟ إن الوضع الذي أصبحت تحتله الوطنية في مغرب الاستقلال، هو ما دفع بالعروي "إلى دراسة أصول الوطنية المغربية بهدف استشراف مستقبلها"؛ والنتيجة التي انتهى بها، هي أن الوطنية كأدلوجة "لا تعدو أن تكون استحضارا وتنميطا لمسار تاريخي متميز" (ص 136)؛ مما يفرض عليها، اليوم، العودة بكل قوة لخدمة الحاضر والمستقبل، وكفاها تخلفا عن خدمة الواقع. وهذا هو دور النخبة المغربية التي تتربع على مختلف مراكز القرار السياسي إذا كان بالفعل يهمها مستقبل هذا الشعب، مستقبل هذه الأمة ومستقبل هذا الوطن؛ وإلا اعتبرت بالفعل، وهي كذلك، كما يؤكد العروي، "أقل "وطنية"" (ص 137) من النخبة الوطنية التي قادت الحركة الاستقلالية عهد الحماية. فهل النخبة الحاكمة اليوم، واعية بالنقص الحاصل لديها في الوطنية؟ وهل هناك أولا وقبل كل شيء/ كما يزعم العروي، فرق بين الوطنية في عهد الحماية والوطنية في عهد الاستقلال؟ وما طبيعة ذلك الفرق؟ ولماذا هو موجود في الأصل؟ وهل هذا الفرق الموجود بين وطنية الأمس ووطنية اليوم، يعي به شباب اليوم؟ وهل لديهم بدورهم تصور معين للوطنية؟ وما هو هذا التصور إن وجد؟ وهل لديهم في الأصل وعي فكري وثقافي يمكنهم من مناقشة هكذا مواضيع؟ وما هي المواضيع التي يهتم بها أو تهم شباب اليوم؟ حسب العروي، إن شباب اليوم، في المغرب المعاصر، ومع التطور الحاصل في وسائل وآليات التكنولوجيات الحديثة، يعد مستواهم من الوعي "عال من الوجهة التقنية، واطئ من الوجهة التاريخية والسياسية. وقد تكون هذه سيمة كل النخب الحاكمة حاليا. الاجتماعيات طغت على التاريخ، في حين أن العلاقة معكوسة عند الوطني الصرف" (ص 138). ما نفهمه من عبارات العروي، هو أن الوطني هو من يفهم في "التاريخ" عكس "الاجتماعيات" بالنسبة للنخب الحاكمة؛ وأن الشاب الوطني الواعي، هو الذي يكون على علم بالأحداث التاريخية والأفكار السياسية! هل هذا صحيح بالفعل؟ ولماذا يخنق العروي تصوره للوطني كنخبة أو مستوى وعي الشباب في علاقتهم بمعترك التاريخ والسياسة فقط؟ لماذا وكيف؟ إن ما بين مغرب الحماية وحماية المغرب المعاصر، سوف "تستمر الوطنية المغربية باستمرار الوضع الذي نشأت وترعرعت فيه" (ص 142)؛ ولكن، ماذا لو أن البعض، لا يرضيه ذلك الوضع ويتوق لوضع أفضل؟ وهذه طبيعة بشرية تفترض الاختلاف في الرأي والقناعات كما تفترض الاختلاف في الآليات والغايات. ماذا سيكون ردكم سيدي العروي في مثل هذه الحالة؟ أو كيف تتصورون مغرب الغد، مغرب الأجيال المقبلة، تعليما وفكرا وثقافة ووعيا ووطنية؟ هل ستتطور وضعية نخبه وشبابه عما عرفته وضعية مغرب الحماية وما تعرفه وضعية المغرب المعاصر؟ أم أن وضعية وطنيتهم ستكون أضعف مما عرفته وضعية وطنية أجدادهم وآبائهم؟ نحن نتمنى ونأمل ونتصور الأفضل، وما التمني والآمال والتصورات، بلا فعل وإرادة، بغايات محققة. نُريد الجميع، ومن الجميع، في سبيل الجميع، وخدمة للجميع، أن يتحدوا في سبيل الغايات التي ستحمي المغرب المعاصر مما سقط فيه مغرب الحماية.