07 سبتمبر, 2016 - 10:55:00 يواصل موقع "لكم" نشر قراءة تحليليلة على حلقات للكتاب الجديد للمفكر عبد الله العروي "استبانة"، الصادر حديثا في الدارالبيضاء وبيروت. القراءة من إعداد الدكتور عبد الرحيم خالص، وهو باحث في القانون العام ومُهتم بالفكر المغربي المعاصر. وفيما يلي الحلقة السادسة: سادسا: توضيح ما بين الوطنية والمقاومة من غموض! هل من السهل تعريف الوطنية؟ أم هي من البديهيات التي لا تحتاج إلى أي تفسير أو توضيح؟ يقول العروي: "من السهل الاستظهار بالبديهيات: الوطنية هي شعور وسلوك وتطلع. الشعور هو الاعتزاز بالذات وبالأجداد. السلوك هو الإيثار والتضحية. التطلع هو طلب الحرية والتقدم والرفاهية" (ص 83). لكن، هل هذه الوطنية، بهذا التعريف، هي المتوفرة في عهد الحماية؟ في إجابة استنكارية، يتساءل العروي: كيف يمكن للوطنية، مهما يكن مضمونها، أن تكون بعد أن لم تكن؟ إذن فالوطنية بهذا المعنى "ربما" لم تتبلور في عهد الحماية؛ وذلك، راجع إلى أن الوطنية، في التعريف السابق أعلاه، "صحيح لكن في فترات محددة ومن زوايا مختلفة، وربما متعارضة" (ص 83). إذن، الوطنية يمكن أن تتواجد أو تظهر في فترات محددة دون أخرى! وهذا يبرر التساؤل الاستنكاري للعروي: كيف يمكن للوطنية، مهما يكن مضمونها، أن تكون بعد أن لم تكن؟ إذن فهي لم تكن في فترة محددة ولكنها موجودة في فترة أخرى. فما هي تلك الفترات التي تواجدت فيها والتي لم تتواجد فيها؟ إن هذا التعريف، تعريف مجرد وعام، لا يمكن أن ينطبق على كافة الفترات الزمنية التي قطعتها الوطنية المغربية، ولا يمكن أن يفيدنا بأي شيء في تفسير وفهم الحالة المغربية عموما. وهذا ما يؤكده العروي قائلا: "الوطنية شعور فردي وحركة اجتماعية وإيديولوجية سياسية. من كل هذه الوجوه هي ناشئة؛ لها جدور وأصول؛ لها أيضا بواعث وعوائق، دوافع وموانع. أيّ تعريف مجرد للوطنية لا يفيد كثيرا لفهم حالة خاصة كالوطنية المغربية. قد نجد في التعريف العام جانبا مفيدا لكنه محاط بجوانب كثيرة لا تنطبق على الوضع المغربي" (ص 84). في حين أن هذا الأخير، تحكمه العديد من المحددات ذات الجدور الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالوطنية المغربية؛ ويجملها العروي في ثلاثة: - المخزن كدولة تقليدية؛ - والعلماء كطبقة مخزنية؛ - ثم ثقافة الطبقة المخزنية (أي ثقافة العلماء). وهذه المحددات الثلاثة، لم تُأثر في المرحلة التمهيدية لتكَون الوطنية المغربية قبل الحماية، بقدر ما كان هدفها منصبا في إنهاء الحماية لتتربع على عرش السلطة المستقلة؛ ولو أنه حدث وتحولت الحركة الوطنية إلى حزب وطني قبل انتهاء الحماية لكان بإمكانها تحقيق الشيء الكثير، في عهد الاستقلال؛ لكن ضعفها ولأسباب عديدة، مكنها من لعب أدوار ثانوية، سواء بعد الاستقلال أو قبله؛ وكأن الأمر، يتعلق بمعادلة حسابية ذات طابع سياسي. أطرافها هم رجال الحركة الوطنية ورجال المخزن كسلطة ومؤسسة وثقافة. وإذا جاز لنا إعادة توضيح الوطنية، في خلاصة، يمكن لنا تفسيرها كما يلي: هي الشعور بالانتماء كذات فردية، والدفاع عن الانتماء كذات جماعية، في سبيل الانتماء إلى ذات (مؤسساتية) أيديولوجية. ويمكن اختصار ذلك – حسب فهمنا المتواضع – في ثلاثة مراحل أساسية، كان من المفروض على أي وطنية، ولاسيما الوطنية المغربية، قطعها قبل أن يتم الحكم عليها بالنضج والاكتمال، وهي: - مرحلة بناء الذات، ويكتسيها الإحساس بضمير الواجب الذي يفرض عليها الاعتزاز بالذات والافتخار بالأجداد؛ وفيها، يتم الشعور بوجود شيء اسمه وطن، يجب الانتماء إليه كذات فردية؛ - مرحلة إشراك الذات مع الذوات الأخرى، التي لها نفس الإحساس والتي مرت بالمرحلة الأولى؛ وذلك، بهدف بناء الذات الجماعية؛ وفي هذه المرحلة، يمكن الحديث عن التحول من الشعور إلى السلوك عبر إنشاء حركات اجتماعية أو سياسية لها هدف تقوية الإحساس بالانتماء إلى الوطن كذات جماعية مشتركة؛ - مرحلة تنظيم الذات وتسييرها من خلال مؤسسات، وذلك بإخضاع مكتسبات الانتماء والاتحاد لامتحان الحركة الوطنية، من خلال التحول إلى مؤسسات منظمة لتسيير الجماعة الوطنية التي هي الوطن؛ وذلك بشكل من التدبير الحر والمستقل في سبيل وحدة وصالح الأمة. إن ما يزكي هذا الطرح المقدم، حسب استنتاجنا وفهمنا ل "مفهوم" الوطنية، هو قول العروي: "كان من المفروض سلفا أن تتحول الوطنية من حركة إلى حزب، وهذا ما حصل سنتين بعد الاستقلال" (ص 85). ومن هنا، يتضح أن المرحلتين السابقتين، قد تحققتا إلى حد ما في ظل الحماية، لكن فشل الحركة الوطنية بالتحول إلى حزب سياسي يفاوض بجانب السلطان في مصير البلاد والعباد، قبل الاستقلال، هو ما ساهم في عدم تبلور المرحلة الثالثة إلا بعد سنة 1956، وبالضبط سنة 1958. فلو أن الحركة الوطنية استطاعت التحول إلى حزب سياسي لربما استطاع المغرب، نزع استقلاله قبل 1956 بسنوات عديدة. إذا كان كل ما سبق، ينصب في مسار محاولة تعريف الوطنية، وبخاصة الوطنية المغربية، فماذا عن المقاومة؟ هل هي "وطنية" لكن بمفهوم مغاير أو مواز لمفهوم الوطنية كما أسردنا سابقا؟ أم أن المقاومة مرحلة من مراحل الوطنية؟ أم أن المقاومة والوطنية تتكاملان فيما بينهما؟ أما مسألة الجهاد، فتلك مسألة أخرى، لا نود الحديث عنها في هذا المقام باعتبارها ذات مرجعية دينية أكثر مما هي ذات أيديولوجية سياسية؛ وشتان ما بين المرجعية والأيديولوجية! عموما، يمكن القول بأن المقاومة والوطنية، تختلفان من حيث السياق والظرفية والشروط التي تصنع أو تساهم في بلورة كل منهما. وإن هناك تقارب بينهما، تفرضه العديد من تجارب العالم التي عرفت تدخلا أجنبيا في شؤونها الداخلية، سواء في شكل احتلال واستعمار أو في شكل حروب مباشرة. إن طبيعة الحدث أو الواقعة، هو الذي يحدد طبيعة الفعل الذي يوجهه المعني بالأمر في اتجاه الحدث أو الواقعة. فالمقاومة، تفترض وجود فعل مسبق، أشبه بفعل الهجوم؛ وهذا الأخير، يفترض منطقيا رد فعل مقاوم. وعليه، فالمقاومة رد فعل ضد فعل "أجنبي داخلي أو خارجي"، يستهدف أمن واستقرار ووحدة وممتلكات وتراب... المقاوم. أما الوطنية فلا تفترض وجود فعل "هجوم" مسبق؛ بل تفترض وجود وضعية متأزمة ومنحطة وميؤوس منها، تفترض بدورها إحساسا ذاتيا بواجب تغييرها بالقلب، من خلال قناعة بضرورة التضحية بالنفس والنفيس لتغييرها بالعقل، في أفق تحقيق وضعية مستقرة وآمنة ومستقلة. مع العلم أن الوطنية لا تفترض الوضعية السيئة دوما، بقدر ما يمكن للوطنية أن تكون في ظرف غير متأزم، ولا يتطلب سوى ما يتطلبه الإحساس الطبيعي بالانتماء إلى وطن، يعتبر مهد الجماعة الوطنية التي يعيش فيها وبين أفرادها وعلى ترابها. ورغم هذا الفارق الواضح بينهما، إلا أن الوطنية قد تعرف في بدايات تبلورها، وفي حالة وجود أجنبي مفروض عليها، مقاومة، تعد جزءا لا يتجزأ منها. وفي ختام هذه المحطة، نستحضر قول العروي: "ميزة أو خاصية الوطنية المغربية في أهم فتراتها هي أنها إفراز للمخزن أي الدولة المغربية العتيقة، بدون أن يمثل المغرب بأي شكل استثناء. (...) لا أدعي أن الوطنية المغربية كانت مخزنية طوعا واختيارا. بالعكس أقول إنه لم يكن ممكنا في الظروف القائمة آنذاك أن تظهر وطنية ذات مواصفات مغايرة" (ص 90-91). وربما، يقصد ب "وطنية ذات مواصفات مغايرة"، المقاومة التي يتجنب العروي اقترانها بالوطنية. وهذا ما يفسر رفضه لاعتبار "مقاومة" محمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف حركة وطنية. وهو يؤكد: "المقاوم في جبال الريف أو في الأطلس أو في واحات الجنوب يقاوم ليس إلا" (ص 85-86). وهذا قول لا نتفق معه فيه لماما. ولنا فيه آراء ومناقشات يمكن أن نثيرها فيما بعد. ولذلك، أتساءل: ماذا لو أن هذه المقاومات "المحلية" انتصرت وعمت كل التراب المغربي ودفعت بالأجنبي لمغادرة المغرب واستقلال هذا الأخير تحت زعامة المقاومين، أيا كانت انتماءاتهم أو أيديولوجياتهم، (قبل 1956)، أما كان لنا أن نصفهم بالوطنين وأن نسمي الذي دفعهم وساعدهم على الانتصار بالوطنية؟ أليس اليوم، يُعاد الاعتبار - يوما بعد يوم - لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، باعتبار مقاومته ثورة وطنية بملامح ريفية؟ ألا يُعتَد بمقاومة موحا أوحمو الزياني باعتبارها ثورة وطنية بملامح أطلسية أمازيغية؟ في نظرنا المتواضع، يجب إعادة النظر بحثا وتنقيبا في التاريخ المغربي لإعطاء "المفاهيم" و"الأحداث" و"الشخصيات"، حقها المستحق بين المركز والأطراف. فليس كل من قاوم من المركز يعد وطنيا ومن قاوم من الأطراف يسمى مقاوما، هذا المقاوم الذي في لحظة من اللحظات كاد أن يُنعت (أو بالأحرى سَبق أن نُعِت) بالخائن! التاريخ لا يوزع المسميات والألقاب عبثا. التاريخ يشهد شهادة الحي الذي لا يموت ولو بفناء صُنّاعِه؛ بل، هو الذي يشهد بشهادة الأحداث والوقائع التاريخية التي تبقى في الذاكرة، في الوثائق، في المآثر، في الجغرافية وفي الضمير الحي للتاريخ المعاصر. سيدي العروي، إن الوطنية تتطلب تعريفا جديدا، يرد الاعتبار لكل من "شَعَر" و"استَشْعَر" ثم "أَشْعَر" بالوطن، سواء سميت، هذه العمليات أو المحددات، بالمقاومة أو الوطنية. فلسنا نحن من يوزع الأحكام على "هوانا"؛ بل، التاريخ من يحكم على الأحداث والوقائع والأفعال والأقوال بحسب منطقها الزماني والمكاني الذي ولدت فيه وتفاعلت معه. إن المؤرخ يُناقَش في قوله ورأيه، ولكن يُحتاط في الأخذ بحُكمه. فقد يعيد التاريخ نفسه، لكن المؤرخ لا يستطيع أبدا أن يعيد نفسه! لأن حُكم المؤرخ، إن أخطأ التاريخ، قاتل؛ وإن أصاب فهو عادل. وما بينهما، يُستوجب الاحتياط اللازم. وهذا في رأينا، ليس إلا تحفظ الباحث الواجب "موضوعيا"، وليس تخطيء في حق الباحث المؤرخ "ذاتيا". فالتاريخ مليء بالأخطاء، لأن أغلب التاريخ المكتوب، ليس إلا تاريخ الانتصارات والمنتصرين. يكتبون ما يخدم مشروعيتهم بعد الانتصار ولاسيما مشروعية التاريخ، وينسون أن التاريخ أيضا هو مشروعية الحاضر والمستقبل.