تزامنا مع انحسار الجليد السوفياتي وانكشاف مظلة المعسكر الشيوعي عن مناطق نفوذ واسعة، وفي خضم الترقب لحقبة جديدة من بسط "السلام الأمريكي" عبر العالم، تفتقت بعض الأدبيات الغربية عن مفاهيم جديدة أثارت حينها توجسا وتحفظا شديدين لدى نخب العالم الثالث عموما، والعربي بوجه خاص، عكسا هوة الثقة الفادحة بين النخب الوطنية في هذه البلاد والقوى الغربية والأمريكية على وجه التحديد. من هذه المفاهيم "قانون التدخل الانساني" الذي استبقلناه منذ بداية التسعينات بنفور واضح بوصفه صندوقا أسود ينذر بكل السموم والألغام، ومسوغا سياسيا- قانونيا شيطيانيا لاستئناف الممارسة التوسعية باسم شعارات نبيلة كحماية المدنيين وتقديم الاغاثة للمحاصرين بالكوارث الطبيعية والحروب وتفعيل التضامن الدولي. وتعاظمت هذه التوجسات حين مر عرابو هذا المفهوم الجديد من النظرية الى الفعل من خلال فرض حظر جوي جنوب وشمال العراق بدعوى حماية السكان الشيعة والأكراد من بطش نظام صدام حسين بعد غزو الكويت. بدا التدخل باسم الانسانية اعادة انتاج لرسالة الرجل الابيض التي غطت حملات الاستعمار الكلاسيكي في القرون الماضية. ولم يبدد مواقف المتشككين والرافضين تعاقب حلقات مريرة من سلسلة حروب الابادة العرقية والدينية التي عرفها العالم خلال تسعينات القرن الماضي في منطقة البحيرات الكبرى بافريقيا ويوغوسلافيا السابقة، والتي وضعت الضمير الانساني أمام الاختيار الصعب والأزلي بين الخط الأحمر للسيادة كركن تأسيسي لقانون العلاقات الدولية الحديث وبالتالي ضرورة احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وحرمة الحدود الوطنية من جهة وواجب حماية حقوق الانسان والتضامن مع مجموعات بشرية تعيش قساوة المعاناة داخل رقع جيوسياسية يفترض بمقتضى العقد الاجتماعي المؤسس لفلسفة الدولة الحديثة أن تكون ملاذا آمنا وفضاء للتمتع بالحقوق الأساسية لا مذبحا للتنكيل والتقتيل من جانب سلطة حاكمة مستبدة، كما يجري حاليا في ليبيا وبشكل تصعيدي ينذر بالأسوء في سوريا، من جهة أخرى. كان مفهوما أن النخب الوطنية السياسية والفكرية، التي ترفع لواء النضال من أجل التحديث السياسي والحرية والديموقراطية وصيانة حقوق الأفراد والجماعات، في وجه أنظمة مستبدة، لم تكن مستعدة لوضع بيضها في سلة استراتيجيات أمريكية وأوروبية مشبوهة تغلف تدخلاتها الامبريالية بشعارات أخلاقية جذابة. ورغم ذلك، كانت أبواق الدعاية الرسمية تترصد أي تقاطع بين مواقف المعارضة الداخلية ومواقف القوى الكبرى، في هذا المعسكر أو ذاك، لوصمها بالاستقواء بالخارج والتواطؤ مع الخصوم ضد المصالح الوطنية. جاء مخاض الربيع العربي ليطرح تحديا كبيرا على قناعات مدعوة الى التأقلم والا سقطت في دوغمائية تلعنها حقائق اللحظة التاريخية. لقد كانت دعوة الثوار الليبيين، من خلال المجلس الانتقالي، الى تقديم دعم عسكري ومادي دولي للشعب الليبي في المواجهة مع القذافي، لتفجر انقساما فكريا وسياسيا بين القواعد الشعبية الحاضنة لمنهج التغيير في الساحة العربية اجمالا لولا أن دبابات القذافي وصواريخه المنهمرة على الأهالي العزل لم تترك مجالا للتعلق الأعمى بمبادئ باتت هي نفسها سندا للنظام في البطش بشعبه تحت عنوان الحق السيادي في التصرف داخل الحدود الوطنية. والحال أن مفهوم السيادة تبلور كركن للقانون الدولي موجه لحماية حق كل كيان سياسي في تدبير شؤونه بكل حرية داخل وعاء جغرافي محدد وتجاه قاعدة سكانية مخصوصة برابطة الجنسية. أما وقد أصبحت السيادة في عرف المستبدين صك ملكية لمصائر الشعوب ورخصة مطلقة لتوزيع بطاقات الحياة والموت على مواطنيهم، فإن القراءة الحرفية لمبادئ القانون الدولي تفضي الى نفي فلسفة هذا القانون وعلة وجوده من الأًصل، فيصبح تشريعا لرحلة نكوصية الى عوالم الغاب بدل مواكبة تطور الاجتماع الانساني نحو مستويات أرقى للتنظيم والحكامة. لم تكن النخب السياسية والفكرية الوطنية في العالم العربي على خطإ في معارضتها لتشريع التدخل الدولي العابر للحدود، كما لن يجعلها الحماس للاطاحة بالقذافي وغيره من المستبدين تنتقل مرة واحدة الى الضفة الأخرى لفتح الباب أمام فوضى تدخلية تعيد سيناريوهات عهود الحماية والانتداب والوصاية. غير أنها، يقينا، مدعوة للتفاوض مع جيل جديد للممارسة القانونية والسياسية الدولية، ينبثق في اطارها المعامل الحقوقي والديموقراطي شرطا طارئا يعيد تعريف حقوق السيادة التي يتصرف فيها الحكام باسم شعوبهم. لن يكون المناضلون والثوار من أجل الحرية والديموقراطية أعوانا للقوى المهيمنة وكتيبة طليعية في تغلغلها الى أوطانهم، لكنهم لن يسدوا على شعوبهم نوافذ التضامن الدولي في عصر يتقاسم فيه البشر عبر وسائط العولمة أحلام الرفاهية والاستقرار والتقدم والحرية. وكما ورد في عبارة لمعارض سوري مغترب تبطن اشارات دالة "لن نأتي فوق دبابة أمريكية، لكننا لن نعطي نظام دمشق صكوك غفران مجانية". السؤال بعد اليوم ليس هو هل تملك القوى الوطنية المقاومة حق الاستعانة بالدعم الدولي، بل كيف يتعين تأطير ممارسة هذا الحق سياسيا وقانونيا من خلال ضمانات وآليات تحول دون انحراف عمليات تضامنية الى سياسات تدخلية مصلحية ضيقة. لاشك أن الاحترازات المحيطة بتحريك الفعل التضامني الدولي، من شكله الأولي الاغاثي الى مظهره العسكري، تنصرف الى تبلور قوة وطنية ذات مصداقية وتمثيلية وطنية واضحة، والتثبت من اتخاذ سلوك النظام القائم طابعا عنفيا ممنهجا مهددا لسلامة ومستقبل وجود الجماعة السكانية المعنية، وتحديد مهمة مدققة الجوانب للعمل التدخلي تنحصر في اسناد الارادة الشعبية المنظمة في التغيير لا الحلول محلها، فضلا عن تأطير هذا التحرك ضمن تحالف عالمي واسع يجمع بين الشرعية المعيارية والفعالية الميدانية. شعوبنا لا تريد غزاة من الخارج..ولا طغاة في الداخل. صحافي-باحث