مهما علا الجدل حول قناة الجزيرة الفضائية، ومهما شكك البعض في أهدافها، ومصادر تمويلها، وعلاقاتها...إلا أن تأثيرها على المحيط العربي والإسلامي بات أمرا لا مجال للشك فيه. وعلى الرغم من تلك الحقيقة إلا أن العديد من الحكومات العربية، وفيما يشبه السباحة ضد التيار، لا تزال تمانع في تقبلها. وقد اختلفت العلاقة بين كلتيهما على مرور الأربعة عشرا حولا الماضية بين التجاوب الحذر والمنع البات. ولعل النموذج التونسي اسطع نجم يمكن أن يهتدي به في لجة تلك الأمواج المتلاطمة في بحر علاقة الجزيرة بالحكومات العربية. فقد منع النظام التونسي اعتماد أي مراسل لها منذ بداية بثها في أواخر سنة 1996 حتى سقوطه المخجل في 14-01-2011. ومع تفاقم مشاكل ذلك النظام البائد التي تنبشها الجزيرة من بعيد، لكي توصلها إلى التونسيين، وتفتح عيونهم عليها، رد نظام بنعلي المتشدق آنذاك بنظرية "الاستبداد المفيد الذي يساوي : الخبز + العصا" بتنويع المشهد البصري التونسي بإطلاق عدة قنوات أرضية وفضائية، علها تشتت تركيز المواطن التونسي عن عملاق الصحافة العربية. ولم يلبث أن شدد الخناق على الصحافيين والأفراد الذين يدلون بتصريحات للجزيرة سواء تعلق الأمر بتصريحات إخبارية أو تحليلية أو مجرد آراء فردية على أي من برامجها. ورغم كل ذلك إلا أن الجزيرة حرصت على متابعة الشأن التونسي بشكل يومي تقريبا ؛من خلال برنامجها الإخباري "حصاد المغرب العربي" من مكتبها في الرباط أولا، وبعد إغلاق هذا الأخير من خلال برنامج "الحصاد المغاربي" من الدوحة. وقد اطلع الرأي العام العربي المتابع لتلك النشرة الإخبارية على مدى ما يعانيه التونسيون من قمع يومي، وأيضا من مؤشرات اقتصادية (تقارير صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات ذات الاهتمام بجوانب التنمية البشرية، السياحة...)، واجتماعية ( تقارير نفس المنظمات حول نسبة الأمية ، نسبة البطالة ...)، والأهم من ذلك كله هو مؤشرات عزوف الشباب عن السياسة (عدم انتماء غالبية خريجي الجامعات للأحزاب السياسية )، وعدم التسييس هو في حد ذاته سياسة أي أن هؤلاء الشباب أصبحوا يشكلون حزبا سياسيا غير معلن اجتمعت عليه قلوبهم وعقولهم، شعاره الرفض وهدفه التغيير و مطيته "الفيس بوك" "وتويتر". كما أن الجزيرة بتتبعها لتلك المؤشرات أعطت فكرة واضحة المعالم عن شمولية وفساد النظام البائد في تونس ، من خلال تحكم أفراد العائلة في اقتصاد وسياسة البلد. ووضعت تحت المجهر سياسته في تكميم الأفواه ، من خلال المتابعات القضائية للصحافيين التونسيين تحت ذريعة ملفات الحق العام المفبركة. بعد "نجاحه" في إسكات المعارضة وخلقه لمعارضة كارطونية بامتياز. ومن رماد ما تبثه قناة الجزيرة استنارت عقول الشباب التونسي على المخارج المطروحة ولم يكن من بد من "الانترنت". وهنا لعبت صالونات "الفيس بوك" و"تويتر"، وطبعا موقع الجزيرة التفاعلي الذي تربطه علاقات وثيقة مع تلك المواقع. إلى أن حصلت الثورة التي أشعلها فتيل عربة البوعزيزي بشريط مدون لا يتعدى بضع كلمات وفتيل وقطرات من البنزين . انتقلت الجزيرة مباشرة إلى التغطية الموسعة ، خصوصا في برامجها التفاعلية على موقعها ، لتلمس مدى ما وصلت إليه الأوضاع، وقد كانت فعلا أول من أعطى مساحة مهمة لصوت الجمهور التونسي، في مدن تعتبر هامشية إلى حد بعيد كسيدي بوزيد وغيرها في الجنوب . ومع سقوط نظام بنعلي كانت أول قناة إخبارية أوردت خبر "هروبه"، المفاجئ لكثير من أصحابه الذين تبرؤوا منه، لا لشيء سوى لأنه "خان عهد الاستبداد" . لتتحول الجزيرة من متتبعة للحدث إلى صانعة له بامتياز، خصوصا بعد أن دفعت بجهابذة مراسليها، ومعلقيها من التونسيين الذين شابوا في الغربة. فكانت أول من لمح إلى المادة56 و57 من الدستور التونسي، وأول من بدا يكشف الأسماء التي يجب أن تزول بزوال النظام. وبدأت تكشف عورات النظام البائد الواحدة تلو الأخرى. ولم تلبث ان فتحت الجدل حول إمكانية "عدوى" الثورة إلى الإخوة الأشقاء ، ولم يلبث رجع الصدى أن جاء من مصر، وهو ما تفاعلت معه الجزيرة أيضا ، ما دفع بنظام مبارك للتشويش عليها في "النايل سات" ، و قطع الانترنت. وهو ما دفع "كوكل"، وتويتر"، و"الجزيرة" إلى خلق مصادر بديلة تغني حتى عن وجود شبكات التغطية . وفي ليبيا حصلت الجزيرة على وضع آخر بعد مقتل احد مراسليها هناك واعتقال أفراد من طاقمها، إذا انتقلت من وضعية صانع الحدث إلى معني به. وفي اليمن فتغطية الجزيرة متوازنة بين المعارضة والقبائل والحكومة اليمنية ، رغم أن محاولات الرئيس اليميني اتهامها بالعمالة لأمريكا وإسرائيل . إنها الحرب إذن، والدوام للأجدر ولمن له الحق في وصول المعلومة في الوقت المناسب ، وبالطريقة الأسهل، ومن لم يفهم فالجزيرة ليست قناة إعلامية فقط بل هي إخطبوط من العلاقات الأفقية والعمودية، بالمتابعة والتفاعل، والمشاركة، وعلى الأنظمة العربية الذكية التي تريد ان تستمر اعتبارها، معهم وليست ضدهم، من قبيل إنها تساعدهم على الوصول إلى الخبر، وان لم يكن فإنها تصنعه لهم، قبل أن يصل السيل الزبى، وعلى رأي الشاعر العربي زهير ابن أبي سلمى : وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِلُّ لأَهْلِهَا قُرَىً بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ