قراءة في الرواية : سعيد المرابط 09 ديسمبر, 2015 - 03:36:00 ظلت سنوات الجمر و الرصاص، حكايات مبتورة في أدب السجون بالصحراء، شفهية المعالم، لم تعرف تدوينا يشملها، يصورها من كل الزوايا، تتأرجح بين الأفواه، تتوالى و تتواتر، و حتى من يحكي كان مقتضب البوح. يحكي غرائب لو وضعت أمامها غرائب الألف ليلية و ليلة، لبهتت هذه الأخيرة أمامها، لهولها و فضاعتها. و كانت رفوف الأدب الصحراوي، تنتظر إنبلاج نص يدبج برصاص قلم الرصاص، أو برماد الجمر، وقائع تلك الحقبة السوداء، التي ستظل ندبة جرح على جبين الإنسانية. باكورة الدكتور عبد الرحمان خواجة، هي مولود جديد من جنس السرد، الذي يغويك، يغريك، لتمضي مشرئبا في حناياه. تتبع الخطى المكبلة بعقال غلت جيدا بحقد. ليس عملا روائيا يروي أحداثا درامية من مخيلة الكاتب، يتصارع فيها الخير و الشر، النور و الظلام. مثل تلك التي نراها دائما في الدراما الرخيصة. و لا تمتات خافتة، لحشرجة ميت رفع عنه غطائه، ليرى ركب الرحيل قد دنى، ببصر من حديد. أراد به أن يخلد تجربته الذاتية، كنوع من التوق للبقاء في وجه جرافات النسيان، إنها بكل بساطة البساطة، تجربة تمخض بها رحم الواقع الذي عاناه شعب. و عانته هويته المنبوذة و المعرضة للمحي الممنهج. هو كتاب آخر يخرج إلى النور، ينبش في كومة الظلام، يسلط عليه الضوء و على الزنازن القاتمة، حتى ينمحي الغموض. يروي بضمير المتكلم العارف، تفاصيل القصة الكاملة، التي حيكت في غيهب دهاليز الجلادين. في حق المعتقلين الصحراويين. أولئك الذين راحت، حياتهم، أعمارهم، أجسادهم و أنفسهم قربانا، لينعم كهنة القصور في معابدهم براحة مصنوعة من دم و ماء. دم الأبرياء و ماء العيون. الدكتور عبد الرحمان خواجة، يحكي عن جدران أكلت سنوات من عمر أناس، أبرياء، إلى حد تكون فيه البراءة جريمة مقارنة ببرائتهم، أو جرمهم، حسب قاموس الجلاد، مذكرات خرجت للنور من رحم دياجير القلاع رغم الرجفة، الخوف و الخجل، أرق الأنامل قبل مغازلة الأقلام، تعطل العقول عن فعل البوح، قبل العروج بالذاكرة إلى غياهب الماضي السوداوية التي تصيب العقل بالدوار، حينما يهم إستعادة تواترها و سيرورتها بالشكل الكامل. لقد إهتمت الرواية النادرة الصنف، و المضمون في المنتوج الأدبي الصحراوي، بتقديم صورة عن أقبية السجون، السيئة السمعة و الإسم، بألوان كاحلة سحنتها، جريئة التحليل، حزينة حد الضياع، بأسلوب أدبي سلس و جذاب. حاول الجلاد تصحيح خطأه، و طلب الغفران لذنبه، لكنه ما زال يعوم في بحر خطأه، بحر من دم و عرق شهيد و مسجون و مختطف إنطلقت أحداث النص الروائي في السنوات السود من السبعينات. حين كان الكاتب الراوي، طالبا في السنة الثالثة للطب. و كان مكانها مدينة الرباط. وقت الدجى، الذي يخبره اللصوص، لكن اللص هنا لم يكن سوى مخبر خبر سرقة أعمار البشر. لتتضح أشياء كانت خافتة و مجهولة إلى حد ما، منتصبة هنا في النص أمام عيني القارئ، بعد ما كادت تصبح في تجاويف النسيان أو المجهول. كذياك الأمر الذي صدر في الظلام الدامس، بإعتقال كل من هو طالب صحراوي. كفعل إنتقام يردع ما كان يتمخض عنه الجنوب الكئيب من حراك ثوري. يثيرك لأول وهلة، عنوان الرواية، المعلق على دفتها الأمامية، "ليال بلا قمر". يغويك ظلام المعنى للحظة، حين تفترض أنه يختزل في ثناياه حكاية مشبوبة بالحب. فطالما كانت الليالي لمجتمعات البدو، مقمرة أو غير مقمرة، وقتا للسمر و الشدو و السهر. لكن سرعان ما ترتعد جوانحك من هول الصدمة، حين تسقط عيناك على إسم "درب مولاي الشريف"، لأنه يفتح باب عقلك على مصرعيه، على كل ما سمع من أشياء في ذياك المكان المظلم حد العتمة، و تكتشف أنه مكان تتسامر فيه أرواح الجلاد الشريرة، بشدو آهات الألم المعبق برائحة الدم المغسول بدم. و تسهر عيونها المفتوحة عن آخرها، على أن لا ترف و لا تغمض عين، متعبة من فرط البكاء و ملوحة الدمع. تناقض و تنافر هنا و هناك، بين ليال رومنسية مقمرة، و ليال جحيمية مدمرة. دمرت فيها حيوات من عاشوها، فخرجوا منها، لكنها لم تخرج منهم. ليال بأقمار، و ليس فقط قمرا واحدا، أقمار هاته الليالي إستحالت عيونا حاقدة، و وجوها عابسة مكفهرة، مكشرة عن أنيابها. كذئاب جائعة و متعطشة للدم. ليال هي فعلا مشبوبة بالحب، حب الموت من أجل الحياة، حب حياة تشبه الحياة، مفقودة هنا في تسييج مكان جعل الموت، راحة أبدية بكل المعاني. من ثقل المكان الذي تكومت فيه الأرواح و الأصوات على بعضها البعض غصبا و قسرا. لكن الموت هنا ممنوع و بعيد المنال، إحتمال سابع في النرد. لأن الجلاد يستمتع بكل سادية بألمك. في قلوبهم حقد يزداد كل يوم ليتحول إلى خميرة من البارود، يشعلونها في أجساد المعتقلين المنهكة و المنتهكة، من فرط التعذيب، كأن له عندك ألف ثأر و ثأر. سحب من من عيونهم الباردة كل بذرة رحمة. هنا يقف الجلاد عند عتبات النص الروائي، مهانا، و مهددا بالموت إن كان حيا، و مكفنا بالعار إن كان قد لحق بمن إغتالتهم أحذيته الخشنة. هنا يقف الجلاد بكل عريه، أمام جرمه المقيت كقط في يومه الأول. هنا شهادة هادئة متوازنة، سكرها الباسم الحاكي مر، وعلقمها المتوحش المهووس بتفتيت الإنسان وهدره يحلو بشغاب قلب يتمسك بأهداب الحياة، ونبض طالب في أوج عمره المتقد بعنفوان الشباب، خطفته يد الظلام من مدرجات حلم، بأن يصبح طبيبا يداوي جراح الإنسان، لكنه هنا يبحث عن إنسان يستمع لآهات جراحه المنغمسة حد العمق في تجاويف الذاكرة، هنا أيضا يتشاقى و هو يتكوى بنار المحبرة، ليستحيل اليراع مشرط طبيب خبير، يشرح أسئلة الوجود : ما هو سر لذة العودة؟ العودة إلى البيت، العودة إلى الرحم، إلى جنة مفقودة؟. شهادة تطرق أبواب الخوف والتجاهل والتخلي لتقول: ها أنا أخبركم، فما أنتم فاعلون! اصطادني السجن فتصديت له بكل طاقتي، لكنه اخترقني، رضعته وامتص رحيقي. السجين هنا يفترش جسده وروحه وعقله على أرض الإنسانية التي غفلت عنه. يريد أن يستوطنها، أن يستعيد مساحته منها، أن يجمع صرخته إلى آهاتها. ها أنا أروي حكايتي: لست بطلا لأحرركم ولا رسولا لأفتديكم، ألمي الكثيف هو ألمكم الممدد وقهري هو العار الذي يجللنا حيث يتضخم وحش الاستبداد ويوغل في نهشنا كلما تمادينا في صمتنا، ها أنا أنسل من نفسي أمامكم قطبة قطبة، بعدما وخزتها إبر سجون "درب مولاي الشريف"، و"قلعة مكونة"، الرهيبة، وتركت فيها ثقوبا وندوبا. دعونا نكتشف سر العروة التي توثقنا، علها تستر عرينا الإنساني. حاول الجلاد تصحيح خطأه، و طلب الغفران لذنبه، لكنه ما زال يعوم في بحر خطأه، بحر من دم و عرق شهيد و مسجون و مختطف، و يشنق على مقصلة الحكي المر كألم التعذيب الذي كان يتفنن فيه، و يردح فوق أرضية الذكرى التي فاضت عليها دماء كثيرة فقدت لون حمرتها.