كل سنة، ترتفع الأسعار، وتتراجع القدرة الشرائية، وتُدفع فئات جديدة من المجتمع إلى دوامة الفقر. المندوبية السامية للتخطيط تعلن من جديد عن أرقام كارثية حول التهاب أسعار المواد الأساسية وارتفاع كلفة العيش. لكن ما أعلنته المندوبية في مذكرتها الأخيرة ليس مفاجئا، ولست في حاجة لاستعراض ما ورد فيها من أرقام كارثية حول إنهاك القدرة الشرائية للشعب، لأن انعكاس تلك الأرقام يصطلي به المواطن يوميا، ويتحسسها في النار الملتهبة في جيبه. يتحدث الخطاب الرسمي عن الأزمات العالمية والجفاف كمبررات، لكن الواقع يقول إن الفقر في المغرب عابر للظرفيات، وهو نتيجة لبنية اقتصادية وسياسية تخدم أقلية على حساب الأغلبية. فالأسعار لا ترتفع بالصدفة، بل لأن السوق تُترك للمضاربين، ولأن الدولة تحرر الأسعار دون آليات لضبطها، ولأن "الإصلاحات" لا تمس إلا جيوب الفقراء، بينما تستفيد الأقلية النافذة من الامتيازات والاحتكار المريح. هذه الوضعية ليست استثناء، بل هي النتيجة الطبيعية لنظام مخزني قائم على الريع، حيث السلطة والثروة متداخلتان بشكل لا يترك مجالا لأي عدالة اقتصادية أو اجتماعية. غير أنه لا ينبغي أيضا إغفال أن ما سرع عملية التفقير الممنهج ورفع منسوب المعاناة الشعبية، هما قراران أساسيان أسلما الشعب لهذه الآلة المفترسة عن وعي كامل بطبيعة النظام الريعي الذي لا يمتلك لا الإرادة ولا السياسة ولا المؤسسات التي تضمن وجود دولة عادلة: قرار الخوصصة الذي حول القطاعات الحيوية إلى مجال مفتوح لاستنزاف جيوب المواطنين عبر تسليع الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والنقل، دون أي رقابة أو التزام بالمصلحة العامة. وقرار وقف دعم المواد الأساسية عبر التفكيك التدريجي لصندوق المقاصة، وهو القرار الذي جعل المواطن وحيدا في مواجهة تقلبات الأسعار، في بلد تتحكم فيه أقلية نافذة في الأسواق وتفرض الأسعار وفق مصالحها. الخطر ليس فقط في هذه القرارات ذاتها، بل في توقيعها وإقرارها رغم العلم المسبق بأن الدولة المخزنية بطبيعتها لا يمكنها أن تضمن تطبيقها بشكل عادل. فقد كان من الواضح منذ البداية أن هذه السياسات ستتحول إلى أدوات لإثراء القلة وإفقار الأغلبية، لأن من اتخذوا هذه القرارات يعلمون جيدا أنهم لا يملكون سلطة فرض التطبيق السليم لها حتى لو صحت من حيث المبدأ وسلمت النوايا. نسمع كثيرا عن "الدولة الاجتماعية"، لكن أي دولة اجتماعية هذه التي تُثقل المواطن بالضرائب دون أن تقدم له تعليما مجانيا جيدا، أو صحة تضمن له الحد الأدنى من الكرامة؟ أي دولة اجتماعية هذه التي تترك الخدمات الأساسية تنهار، وتجعل من السكن والتعليم والصحة امتيازات للنخبة، بينما يُدفع الملايين إلى الهامش؟ الحقيقة أن ما يحدث ليس فشلا في بناء الدولة الاجتماعية، بل غيابا مريعا لها، وتعويضها بدولة الإفقار التي تضمن لطبقة معينة تراكم الثروة، بينما تترك الأغلبية تكافح للبقاء. ويكفي لمساءلة طبيعة الدولة طرح الأسئلة الحارقة التالية: من يحكم الاقتصاد في المغرب؟ من يحدد الأسعار؟ من يراقب الأسواق؟ من يملك الشركات الكبرى؟ من يستفيد من السياسات الاقتصادية؟ الإجابة في غاية الوضوح: إنها نفس الشبكة التي تجمع بين السلطة والثروة، وتتحكم في القرارات الكبرى، ولا يمكن أن تسن قوانين تضر بمصالحها. لذلك، ليس غريبا أن نجد الاحتكارات في كل شيء، من المحروقات إلى الغذاء، بينما المواطن يُطلب منه "الصبر" والتأقلم مع الغلاء. الخلاصة أن الفقر في المغرب ليس نتيجة عشوائية، وليس مجرد تأثير جانبي للسياسات الاقتصادية، بل هو أداة تحكم بإبقاء الناس في حالة انشغال دائم بلقمة العيش لمنعهم من المطالبة بحقوقهم الكبرى، من حرية وكرامة وعدالة. إن ما يحتاجه المغرب ليس خطابات عن "الدولة الاجتماعية"، بل إصلاحات حقيقية تعيد توزيع الثروة، وتضع حدا للاحتكار والمضاربة، وتخضع كل المتورطين في الفساد للمحاسبة الفعلية. وإلى ذلك الحين تبقى الحقيقة المُرّة هي: في المغرب، الفقر ليس قدرا.. بل سياسة ممنهجة.