في ظل الحراك الإجتماعي الذي يعيشه المغرب هذه الأيام، تتلاحق عدد من الزيادات غير المبررة للأسعار يوما عن يوم، بطريقة تتنافى مع أبسط شروط الحكمة والتدبير الجيد للظرفية، التي تحتم مراعاة القدرة الشرائية للمواطنين المستنزَفة أصلا، وفي سياق يتميز بضغط مهول على ميزانيات الأسر مع قدوم الشهر الفضيل والعطلة الصيفية وترقب الدخول المدرسي، وما يلازمه من مصاريف ترتفع سنة عن أخرى. في ظل كل هذه الحيثيات التي تسكب المزيد من الوقود على نار الإحتقان الإجتماعي الذي ينفجر بين الفينة والأخرى في عدد من المواقع والمدن المغربية، كنتيجة حتمية لسياسات فاشلة للسلطات المحلية التي تجنح نحو احتواء المشاكل بدل حلها، وإرجاء مزمن لتسوية الملفات المطروحة بحدة، حتى لو كانت الحلول بين أيديها، في انتظار لحظة اللاعودة وانفجار الأوضاع وتسليط الإعلام لأضوائه على تلك البؤرة المعنية، ليتم ارتجال حل سريع لإمتصاص غضب المواطنين، ولتسويق سلم إجتماعي مغشوش، غير مؤسس على قاعدة حقيقية ولا يلبث أن ينهار عند أول احتجاج في الشارع، ولأن الحكومة لا تدري، أو أنها لاتريد أن تدري، أن من أهم أسباب خروج المواطنين للشارع العام ليست هي مطالب حركة عشرين فبراير، مثلا، بل هو تردي أوضاعهم الإجتماعية بتفرعاتها المتعددة؛ غلاء الأسعار وسوء الخدمات العمومية، وإنعدام أبسط ظروف الإستقبال في المصالح المختلفة التابعة للإدارة، وغيرها من الأسباب، فإن حدة الحراك المسجل في الشارع لا يُتوقع لها التراجع في الأمد القريب، مع عدم تسجيل أية مبادرات حقيقية للتخفيف من معاناة الأغلبية المتضررة، على غرار ما قامت به بعض البلدان المجاورة التي خفضت من الأسعار، واتخذت عددا من المبادرات الإيجابية للتأكيد على مصداقيتها وجديتها في مراعاة ظروف الطبقات الفقيرة. ولأن القيام بجولة بسيطة في أي سوق محلي، على غرار أسواق إقليم اشتوكة أيت باها، وعند تجار التجزئة في الدروب والأحياء المكتظة باليد العاملة الفلاحية، التي تعيش على إيقاع استنزاف متواصل لأبسط حقوقها في الضيعات الفلاحية الممتدة على طول الإقليم، يكشف للمتسوق العادي، الذي تصنع عنده زيادة سنتيم واحد في سلعة ما فرقا كبيرا، عن زيادات غير معلنة في أسعار كل المواد الحساسة، ولا يظهر لهذه الزيادات أثر في الإعلام العمومي المنشغل ب للا لعروسة، وسيتكومات رمضان، أو في الإذاعات الجهوية التي تبث برامج خيالية عن الأسعار في الأسوق الأسبوعية، حيث تعلن عن أثمان معينة، لتكتشف في نفس اللحظة وعند نفس البائع الثمن الحقيقي الموجه للمواطن البسيط؛ من الدقيق والخبز والزيوت والمشتقات الحليبية والخضر والفواكه واللحوم الحمراء و حتى البيضاء، ومختلف أنواع الأسماك، يمس الغلاء حتى الخدمات الاجتماعية التي أشعلت عددا لا حصر له من الإحتجاجات في كل أنحاء الوطن، بدءا بفواتير الماء والكهرباء والتطهير والنقل والعلاج والتعليم.. ويكشف كل هذا الغلاء المطرد عن حجم الهوة التي تفصل الشأن الإقتصادي عن التدبير السياسي المفترض للشأن العام، كما تُبرز نفس النتيجة قلة الوعي بالأثر الكبير لبعض القرارات الإقتصادية، أو غض الطرف عن الإحتكارات المحلية من طرف السلطات المحلية والمركزية على تحريك الشارع، وبالعكس على ركوده، كما يؤكد هذا الواقع طبيعة السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي ينتهجها المغرب، سياسة مُتحكم بها من طرف الشركات الكبرى واللوبيات الإحتكارية وطنيا ومحليا، في ضرب مباشر للرغيف اليومي للمواطن المطحون، كما تفضح هذه السياسات، دائما، الوعود الكاذبة لجل الأحزاب المساهمة في تدبير الشان العام الوطني والمحلي، قبل وبعد كل الإستحقاقات الإنتخابية. ولأن غلاء الأسعار، كما أسلفنا، هو أبرز مظاهر الأزمة وضنك العيش الذي تعيشه الطبقة العاملة، والفئات المنهكة اجتماعية، التي تعاني من تدهور قدرتها الشرائية وتفاقم البطالة، وتراجع مختلف الأوضاع الاجتماعية وما يتبع ذلك من انتشار الجرائم والإنحراف؛ مثل السرقة والرشوة وكافة مظاهر الخداع والتهرب الضريبي ونهب المال العام، فإن السياسات العمومية تغفل أمرا واحد يُعد من متلازمات رفع أسعار السلع والخدمات، وهو الرفع بالمقابل من سعر العمل في القطاع الخاص والعام، والحرص على تطبيقه تطبيقا شفافا، لأن قيام الدولة بالزيادة في أجور الموظفين لا يعني تأثيرا حقيقيا في حياة عامة المواطنين الذين لا تصل نسبة موظفي القطاع العام بينهم شيئا يُذكر. ولأنه، في سياق عام يتسم بالاحتكار الممنهج لإنتاج السلع وتسويقها وتدبير الثروات الوطنية ، لا يمكن الحديث عن أية فرصة حقيقية للمنافسة الحقيقية التي تدفع نحو خفض الأسعار، انسجاما مع المنهج الإقتصادي الليبرالي الذي ارتضاه المغرب منذ فجر الإستقلال، زد على ذلك تملص الدولة عن لعب دور القاطرة الاقتصادية والإنزلاق نحو التحرير العشوائي للأسعار، مع العمل تدريجيا على إطلاق بالونات اختبار موجهة للرأي العام، بشأن إلغاء كافة أشكال الدعم المسمى بالاجتماعي تحت دعوى الحفاظ على التوازنات، بالرغم من أن الجميع يدرك أصلا أن الملايير التي توجهها الدولة نحو صندوق الموازنة لا تصل إلى الفقراء بل يبتلعها أصحاب الشركات العملاقة، عند كل هذا الحصاد الإقتصادي، يصبح الغلاء أحد أدوات النهب والربح السريع ومراكمة الثروة، وفي ظل انعدام أية مراقبة وطنية أو محلية، يبقى المواطن في مواجهة أباطرة يستغلون المناسبات لرفع الأسعار، مستفيدين من تواطئ السلطات المكلفة بمراقبة وقمع الغش. ولأن المسئولون لا يكلفون أنفسهم، عادة، عناء التبضع في الأسواق الشعبية ولا زيارتها، ولو من باب الظهور بمظهر المنفتح على الشعب، ويكتفي المسؤول الأول عن الإقليم أو العمالة، بتلقي تقارير لجان مراقبة الأسعار البعيدة عن الواقع، مع الإعتكاف داخل مكتبه بشكل دائم، ومع هذه الظرفية الملتهبة أصلا، وتعثر تسوية ملف المعطلين، وغيرها من الملفات المستعجلة. فإن كل هذا ينذر برمضان ساخن، ليس فقط على مستوى درجات الحرارة، ولكن حتى على مستوى الشارع، ما لم يتم الإشتغال بسياسة أخرى تولي الإحتكاك بهموم المواطنين ومشاكلهم الأهمية القصوى، وتنكب على حلها بروح المبادرة الخلاقة والشجاعة.