بلادُنا في خضمّ حربٍ شعبية كاسحةٍ ضد الاحتكار.. كل أنواع الاحتكار.. والاحتكار عندنا قد فجَّرَ أزمةً استهلاكيةً أدّت إلى هزّة شعبية عارمة: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وقد تكون لها تبعات ومضاعفات سياسية لا يُعرَفُ مداها.. وبصريح العبارة، إذا لم تُحَلَّ مُشكلةُ الأسواق الاستهلاكية من الأساس، فإن مقاطعةَ بعضِ الموادّ الغذائية ذاتِ الأسعار المرتفعة، ومعها المحروقات، قد تتسبّبُ في مضاعفاتٍ لا يُستَبعدُ أن تصلَ لمستوياتٍ أعلى.. السياسةُ الاقتصادية لبلدنا لا تُعيرُ اعتبارا لتدَنّي القُدرة الشرائية للأغلبية الساحقةِ من المواطنين.. هذه السياسة، بهذه الاستراتيجية الاحتكارية التي تضعُ الثروةَ في قبضةِ قلةٍ من الأشخاص، فجَّرَتْ غضَبًا شعبيًّا عارما، في كل مكان، وتُهدّدُ بتصعيد المقاطعة، من المحروقات والحليب والماء وغيرهما، لتشملَ قطاعاتٍ أخرى منها الإضراب عن حركة النقل البري والجوي.. الحكومةُ فاشلة في تدبير الأزمة، ولا تزيد الوضعَ إلا اشتعالاً.. والمجتمعُ المقاطِع متفرّغٌ لابتكارِ أنماطٍ من المقاطعات.. مجتمعُنا لم يعُد يَقبلُ استمرارَ السياسة الاقتصاديةَ المعمولَ بها من زمان، وهي مبنيةٌ على احتكار أفرادٍ معدُودين، وشركاتٍ معدُودة، من الداخل والخارج، للأسواق المغربية، وعلى حساب قُدرة شرائية شبهِ منهارة.. ومن يفهمون في الملفّ، يقترحون حلولا لسرطان الاحتكار: الحل القانوني.. فما دام القانون حبرا على ورق، وبدون تقييم ومعالجة جذرية، فلا أحد يستطيع التكهنَ بالاتجاه التصاعدي للأزمة.. ضرورة التفعيل الصارم للقانون لمنع الأسواق الاحتكارية من جعلِ المواطن فَريسةً للجَشعِ الاحتكاري.. صرامة المراقبة لأسواقِ السلعِ والمواد الغذائية.. وهذا يستوجبُ مكافحةً صارمة للرشوة.. على الدولة أن تتدخّلَ بإحداثِ أسواقٍ موازية، تُباعُ فيها السلعُ والمواد الغذائية المطلوبة، بأسعارٍ في مستوى القدرة الشرائية الشعبية.. استيراد المنتجات والمحاصيل الأساسية.. فتح المجال للتنافُسية التجارية والاستثمارية وغيرِها، وقطعِ الطريق عن الاحتكاريين، حتى لا تعود لبلادنا عناصرُ تشتري، بالرشوة والمنافعِ المشترَكَة، ترخيصاتٍ لأن تكون وحدَها تستورد المحروقات، وأصنافا من المواد الغذائية، وأن تكون وحدَها، وبلا مُنافس، متحركةً داخلَ أسواقِنا.. إن الاستفراد بالأسواق المغربية يعني الانفرادَ بالمواطنين الذين عندما يبحثون عن سلعة أو منتوج غذائي، لا يجدونها إلا عند فلان أو علان، أو شركة كذا أو كذا.. ولا بديلَ لهؤلاء الاجتكاريين.. وهذا يعني أن خَدماتٍ وسِلَعًا لا توجدُ لها منافسة.. وعندما تسأل، يقالُ لك: السلعة كذا يحتكرُها فلان، هو وحده، لا مُنافسَ له.. هو ذا الاحتكار.. الاحتكار يتحكمُ في السوق.. وفي غياب المنافسة المشروعة، تجد أن الجهاتِ الاحتكارية هي تتحكم في السوق كما تريد.. وتزيد في الأسعار، وتغش في المنتوج، وفي الفواتير، مثل ما تفعله شركةُ الماءِ والضوء، وشركة الهاتف، وشركات أخرى، حيث تزيد في دوران عدادات الاستهلاك.. وعندما تشتكي، تجدها: هي نفسُها الخصمُ والحَكَمُ.. ودائما، أنتَ المخطئ.. وهل اعترفَت بنكٌ من الأبناكِ أنها هي تَعمّدت الاستيلاءَ على قسط من رصيدِك؟ عندما لا يكون لنا خيار في أن نختار بين عدة متاخر، نضطرُّ للجوء إلى ما موجود.. والاحتكار لا دِينَ له! ولا ضمير.. ولا يعترفُ بالقانون، ما دام من صنعوا القانون هم أنُفسُهم من شركاءِ الاحتكار.. وبهذا يتحكمون في الاقتصاد، وفي المستهلكين.. والاحتكاري قد تكون له منشأةٌ واحدة.. وحتى منتوجٌ واحد، لا يَبيعه إلا هو.. وما دام محميًّا بشُركائه المتمركِزين في مواقعِ القرار، يقومُ بزيادةِ الأسعار كما يريد، ومتى أراد، ويُرغِمُ كلَّ منافسٍ محتمَل على إخلاء السوق.. ولا وجودَ لسلعةٍ بديلة في هذا السوق! إن الاحتكار ليس نموذجًا تنمويا.. هو كارثة على نمُوذجِنا التنموي.. وكلُّ من يمتلكُ سلعة، يجدُ في طريقِه مافيا الاحتكار.. حتى البيضُ يمكنُ أن تجد أمامك في سوقِه واحدا من أباطرةِ البيض.. سيُغرِقُ السوقَ بالبيض، ويقومُ بتخفيضٍ مهول لسعره، لكي يضطرَّك أنت ومن معك للرّحيل.. وماذا يكلّفُه يومٌ واحدٌ لسعرٍ هابط؟ سيضطرُّكَ لإخلاء سبيلِه، لكي يبقى هو وحده في السوق.. ويكون وحده يبيع.. كما يريد.. ويلعب بالأثمان.. وتُسانده الحكومة! ألم تساند الحكومةُ شركة سانطرال؟ ألم تحارب المقاطعين؟ الحكومةُ معتادةٌ على مساندة أباطرة «المال والأعمال»، ومحاربة المطالبِ الاجتماعيةِ المشروعة.. هي هكذا حكوماتُنا.. مع القوي، ضدَّ الضعيف.. ومع الغني، ضدّ الفقير.. وهي تأخذ من الفقير، وتعطي للغني.. ومشكلُ الأراضي نموذجٌ صارخ: الحكومة تقوم بإعداد «تصميم تهيئة»، وتُوظّفه لانتقاء أراضٍ من أجل إعدادِها لأباطرةِ العقار.. وهكذا يتم تفقيرُ الفُقراء، وحرمانُهم حتى من أبسط حقوقهم الإنسانية، وهو الحقُّ في أرضِهم.. هذه الأرض تتحوّلُ إلى عمارات لبعض الخواص.. احتكارٌ عقاري لا يترك للفقير مجالا للسكن، ويبقي له أن يسكن في شقة اقتصادية.. وما دام عاجزا، فالدولةُ نفسُها تُساهمُ في تخريبِ حياته! أهذا هو الحقُّ والعدل؟ نحن اليوم في خضمّ الحربِ الاحتكارية على الخبزِ اليومي لكلِّ المواطنين.. ما النهاية؟ النهاية قد تكون، وقد لا تكون.. وفي الحالتين، الاحتكارُ قنبلةٌ موقوتة.. تحت أقدامِنا! [email protected]