كانت تخوفات المغاربة صائبة عندما قدم شهر رمضان وحمل معه ارتفاعا جنونيا لأسعار المواد الاستهلاكية، في الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة عن استقرار الأسعار خلال الشهر الكريم، ووفرة العرض من السلع الاستهلاكية بما يكفي لتغطية الطلب في الأسواق، بالإضافة إلى صندوق المقاصة الذي يمتص إمكانيات ضخمة بهدف المحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين. وبعد انتهاء شهر الغفران، ها هو الموسم الدراسي يدق جيوب المواطنين من جديد، مع ما يستلزم ذلك من مصاريف إضافية تثقل كاهل محدودي الدخل، وبعد ذلك سيكون الموعد مع كبش العيد، وهكذا دواليك... حيث ألف المغاربة الاكتواء من مناسبة إلى أخرى بأسعار لم تكن تخطر على بال، فكيلوغرام من الطماطم يمكن أن يصل إلى 10 دراهم، وكيلو لحم بقري يتخطى حاجز ال 85 درهما، دون الحديث عن أسعار السمك وخصوصا السردين، الذي أصبح نادرا العثور عليه في الأسواق ولو بثمن قد يصل إلى 30 درهما رغم أن المغرب يتوفر على واجهتين بحريتين تمتدان على طول 3500 كلم .
أسباب متعددة وراء الغلاء
شهد المغرب منذ عدة سنوات ارتفاعا متصاعدا في أثمنة السلع الغذائية الأساسية ناهيك عن التكميلية، مع توقعات المختصين بارتفاعها خلال السنوات المقبلة، وتختلف الأسباب الكامنة وراء هذه المعضلة حسب من استقينا آراءهم، حيث أرجع بائع بالجملة بمدينة الدارالبيضاء أسباب الغلاء إلى المسؤولين الذين يحمون «المحتكرين»، فهؤلاء هم من يشعل السوق، «الخير كثير ومتواجد بوفرة لكن الاحتكار هو الذي يرفع الأسعار» يضيف نفس البائع، أما شمس الدين عبداتي، رئيس المنتدى المغربي للمستهلك، فيرجع الأمر إلى وضعية المستهلك المغربي الذي يعاني من كثرة الطلبات وضعف الدخل، في ظل التحولات الكبيرة في أنماط الاستهلاك، وتعرضه للضغوط الإعلامية والإشهارية التي تغريه بالشراء، كما أن فوضى السوق المحلية وعدم انضباطها تؤثر سلبا على المستهلك، بحيث يلاحظ كثرة المتدخلين والسماسرة غير المنظمين، مما يسبب ارتفاعا في الأسعار بحكم المضاربات التي يحدثها مثل هذا النظام، يضيف عبداتي في اتصال مع «المساء»، هذا إلى جانب ارتفاع الطلب على بعض المواد الكمالية في فترة الصيف مثل الثلاجات، والمكيفات الهوائية، المروحيات الهوائية، الأفران الكهربائية .. والتي تزامنت مع شهر رمضان، ويعني ذلك مضاعفة التكاليف والطلبات في نفس الوقت، دون الحديث عن الاستدانة المفرطة وسهولة الحصول على القروض والسلفات من المؤسسات التمويلية بمناسبة وبدون مناسبة، حيث أصبح المغاربة يقترضون في الأعياد الدينية وعند الدخول المدرسي وفي شهر رمضان وخلال العطلة الصيفية وحتى في مناسبة الزواج..إلخ. أما نوح الهرموزي، أستاذ علم الاقتصاد بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة ومدير مشروع «منبر الحرية»، فأوضح أسباب ارتفاع الأسعار من خلال مستويين، الأول خارجي بفعل ارتفاع الأسعار في مختلف أنحاء العالم بشكل كبير نتيجة تأثر المحاصيل بالعوامل الطبيعية التي أدت بعدد من الدول المنتجة إلى عدم تصدير السلع الهامة التي تشكل ركيزة من ركائز أمنها الغذائي، إضافة إلى عوامل تكاليف التصنيع والنقل بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، والمستوى الداخلي حيث انتهج المغرب خلال عدة عقود سياسة فلاحية أهملت السوق الداخلي على حساب السوق الخارجي، مما يقتضي معه إعادة النظر في وضعية الفلاح الصغير من خلال تخصيص عقار زراعي ملائم لهذه الفئة وعلاج إشكالية ندرة المياه في بعض المناطق، وحل إشكالية الحصول على التمويل البنكي من طرف صغار الفلاحين.
ارتفاع متواصل ولسنوات قادمة توقعت منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة «فاو» استمرار الأسعار العالمية المرتفعة والمتقلبة للغذاء في العالم في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية التي تواجه أوروبا والولايات المتحدة، محذرة في تقرير لها نشر مؤخرا من أن التغيرات المناخية التي جاءت بالفيضانات والجفاف وزراعة الوقود العضوي والسياسات الوطنية لحماية الأسواق المحلية قد تدفع أسعار الغذاء للارتفاع عالميا وتهدد الأمن الغذائي العالمي على المدى البعيد، وقالت المنظمة إن التأثير المتزايد لأسواق السلع وسياسة وقف تصدير المنتجات الزراعية تسبب تأثيرا عكسيا خاصة ما يتعلق بارتفاع الأسعار في الأسواق الداخلية لكل دولة مستوردة، مما يفاقم من الاضطرابات في الأسواق العالمية ويهدد الأمن الغذائي العالمي، وأشارت المنظمة كذلك إلى تراجع معدل المخزونات العالمية للغذاء، وتزايد استهلاك الحبوب الرئيسية مثل القمح والذرة لإنتاج الطاقة، فمع ارتفاع الأسعار تحاول الحكومات السحب من مخزوناتها للتخفيف من أثر نقص الإمدادات وهي العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ومن المتوقع أن ترتفع أسعار الغذاء على مدى السنوات العشر المقبلة وأن تظل عند مستويات فوق ما كانت عليه في العقد الماضي، محذرة من أنه لا يوجد بالفعل اتجاه ثابت نحو تراجع الأسعار، وهو ما سيؤثر سلبا على الزبون المغربي، لأن أكثر من 80 في المائة من واردات المملكة هي منتجات فلاحية، يؤكد أستاذ الاقتصاد، نوح الهرموزي.
اقتصاد الريع الذي يفرض أسعاره يمكن تعريف اقتصاد الريع على أنه ضمان مداخيل مهمة مقابل مجهود صفر ودون أدنى مخاطرة، وفي بلد كالمغرب حيث لا يعتمد على البترول في اقتصاده مثل الدول الخليجية، فهو يخلق أدوات أخرى تدر على المنتفعين منها أموالا طائلة مثل رخص النقل والمقالع والصيد البحري...إلخ، حيث توجد أرباح كبيرة تجنى باطلا وبدون وجود مبرر اقتصادي، فما معنى رخصة النقل أو المقلع أو الصيد أو غيرها؟ هي ببساطة إجازة قانونية من الدولة لبعض الناس في كراء هذه الرخص للفاعلين في هذه المجالات مقابل أجر شهرى أو سنوي، دون أن يقوم هؤلاء بأي جهد استثماري، ويعطي الخبير الاقتصادي، ادريس بنعلي، مثالا برخص النقل أو ما يصطلح عليه ب«الكريمات»، حيث يتوفر أشخاص على عدد من الرخص يتم كراؤها لآخرين مقابل مبالغ مالية، وبذلك فإنهم يستفيدون من مداخيل دون أن يبذلوا أي مجهود استثماري منتج للقيمة المضافة، وهناك من يستفيد من رخص للصيد البحري، وآخرون يستفيدون من رخص لبيع المشروبات الكحولية، والمداخيل الناتجة عن هذه التراخيص تسمى ريعا، لأنها لا تخلق قيمة مضافة. مضيفا أن النظريات الاقتصادية تعتبر أن الريع ناتج عن وضعيات احتكارية، فالاحتكار يشكل عائقا أمام التقدم الاقتصادي، مادام أن المستفيدين منه لا يبذلون أي مجهودات على مستوى الابتكار والتحديث التكنولوجي، ومادام أن هناك غيابا تاما لأي منافسة، الأمر الذي يمكنهم من فرض الأسعار التي يحددونها، ومن خلالها هوامش ربحهم، فكلما تكاثرت مصادر الريع في اقتصاد معين، فإنه يتخلف، ويصبح تقدمه غير ممكن. وفي ما يتعلق بالمغرب، فإن الأمر لا يتعلق باقتصاد الريع، بل أصبحنا نعيش في مجتمع الريع، يؤكد بنعلي، ف«عندما نتحدث عن اقتصاد الريع فمعنى ذلك أن البلد يمتلك ثروات يعيش عليها مثل البترول، وفي هذه الحالة، فإنه لا يمكن الحديث عن اقتصاد الريع في المغرب، ولكن هناك مجتمع ريعي، أي يتم توزيع امتيازات على بعض المحظوظين، الذين يستغلونها لتحقيق مداخيل وعلى سبيل المثال يستفيد البعض من رخص نقل أو صيد بحري أو ما شابه ذلك، ويعيدون كراء هذه الامتيازات للغير مقابل موارد مالية، ومع انتشار الريع في المجتمع تموت روح الإنتاجية، إذ يصبح الأشخاص يبحثون عن امتيازات تضمن لهم مداخيل بدون بذل أي مجهودات.
مجلس للمنافسة بدون تأثير تم تأسيس مجلس المنافسة بالمغرب خلال شهر يناير من سنة 2009، وذلك بهدف تشجيع المنافسة الحرة لحماية القدرة الشرائية للمستهلكين وتنويع العرض وتأسيس مبدأ نسبة مطابقة السعر للجودة، لكن طابعه الاستشاري جعله موضع نقد في الإعلام وفي مختلف الأوساط المهتمة، حيث انصب النقاش حول الاختصاصات وحول الاستقلالية، وبالتالي حول قدرة المؤسسة على القيام بدورها من أجل توفير المناخ الملائم للمنافسة الشريفة ولحرية المبادرة وتكافؤ الفرص ومكافحة اقتصاد الريع، وهو ما جعل عبد العالي بنعمور، رئيس مجلس المنافسة، يؤكد غير ما مرة، «أن المغرب تتواجد به لوبيات تحتفظ بمناعة كبيرة ولم يطلها الإصلاح الذي تقوم به المملكة، بل قاومت هذا الإصلاح ضدا على الإرادة السياسية للدولة، ولا ترغب في انتهاج مبادئ الشفافية والتنافسية الأكثر صرامة وحزما في التعامل مع هذا الواقع الشائك والمعقد، من خلال إدخال تعديل على القانون المؤسس للمجلس لجعله هيئة تقريرية سيمنحه قوة لمحاربة الريع الاقتصادي»، موضحا أن توسيع سلطات المجلس وتمكينه من دور تقريري على شاكلة مجالس المنافسة بعدد من البلدان، سيمكنه من ضمان منافسة شريفة وحرة من شأنها تحسين مناخ الأعمال والمساهمة في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقال «سنحارب اقتصاد الريع والمفسدين لأننا نملك فريقا من الاقتصاديين ورجال القانون، نساء ورجالا، لهم من الكفاءات ما يجعل المجلس يضطلع بأدواره في إطار الإصلاحات الاستراتيجية الهيكلية والقطاعية العميقة لتأهيل الاقتصاد الوطني، وتوفير الشروط السليمة المحفزة على الاستثمار وتعزيز الثقة التي يتمتع بها المغرب من لدن الأوساط الاقتصادية والمالية في الداخل والخارج»..لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن و أمام هذا الارتفاع الصاروخي للأسعار بالأسواق والمتاجر المغربية، هو «متى سيتم تفعيل هذا الكلام على أرض الواقع؟
صندوق للمقاصة على مقاس الأغنياء صندوق الموازنة أو المقاصة، تأسس منذ سنة 1941 لتوفير المنتجات الأوربية في المغرب بأسعار معقولة وفي متناول الزبون المغربي، لكنه تحول مع مرور السنين إلى برنامج أوسع لدعم السلع الاستهلاكية والنفط والغاز، وأصبح حاليا يدعم أربع مواد فقط وهي السكر والدقيق والغاز والمحروقات، غير أن ما يقوم به من أدوار اجتماعية بالأساس لا يحجب ثقله على مالية الدولة فضلا عما يعيشه من مشاكل بنيوية عصية على الحل تراكمت عبر السنين. رئيس المنتدى المغربي للمستهلك يرى أن هذا الصندوق قد استنفد مهامه، وحان الوقت لإيجاد بديل له، مثل إحداث صندوق لدعم الفقراء بمواصفات عصرية، وفي نفس الآن يمكنه المساهمة في مشاريع استثمارية يجني من خلالها أرباحا لتنمية مداخيله، وبالتالي النقص من اعتماده على مخصصات الدولة. بينما يرى المحلل الاقتصادي، نوح الهرموزي، أن الصندوق يناقض تماما الأهداف التي من أجلها تأسس، أي تحقيق العدالة الاجتماعية ودعم القدرة الشرائية للفئات الأكثر هشاشة، حيث لاحظ أن ما يقع هو العكس تماما، إذ أصيب الصندوق على مدى سنوات بأمراض وعاهات وتشوهات خلقية بنيوية، جعلت منه أداة لتبذير المال العام وإغناء الأغنياء على حساب أموال دافعي الضرائب وميزانية الدولة وفي المحصلة على حساب الفقراء. وقد تسببت موجة غلاء الأسعار خلال 2011 في استنزاف ثلثي احتياطي صندوق المقاصة خلال النصف الأول من هذه السنة، وبالتالي يطرح السؤال: هل سيقوى الصندوق على تغطية ما تبقى من السنة بالثلث المتبقي؟ الكثير من الملاحظين يرون أن على الحكومة ضخ المزيد من السيولة في هذا الصندوق لكي يكمل السنة، وهناك من يطرح رقم 45 مليار درهم كحد أدنى يجب توفيره إلى غاية 31 دجنبر 2011، لكن اعتراف المجلس الحكومي من خلال خالد الناصري، وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، أن المغرب يعيش ضائقة مالية، يزيد الوضعية تأزما.
هل الحل في إحداث صندوق التضامن؟ عبرت الحكومة المغربية قبل شهرين من انتهاء مدة ولايتها، عن نيتها إحداث صندوق للتضامن يستهدف دعم شريحة ذوي الدخول المحدودة، فحسب رسالة تأطيرية من رئيس الحكومة، عباس الفاسي، موجهة لوزير المالية، صلاح الدين مزوار، يحثه فيها على ضرورة تضمين مشروع القانون المالي 2012 إجراءات ملموسة من أجل الحفاظ على معدل التضخم في أقل من 2 في المائة، وتحقيق معدل النمو الاقتصادي بأكثر من 5 في المائة، وإصراره على خفض العجز في ميزان المدفوعات والحفاظ على عجز الموازنة في أقل من 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى ترشيد النفقات، وإحداث صندوق للتضامن سيتم تمويله من الضرائب التي سيتم فرضها على الأثرياء، وهو ما يعتبر إجابة على عدة مطالب كانت العديد من القوى السياسية و المجتمع المدني تطالب بها. لكن المحلل الاقتصادي، نوح الهرموزي، يرى في هذه «الخرجة» لرئيس الحكومة مجرد مناورة انتخابية على بعد أقل من شهرين على الاستحقاقات الانتخابية التي ستجرى في 25 نونبر المقبل، ليتساءل في الأخير كيف أن الحكومة انتظرت كل هذه المدة لتعلن عن إجراءات اقتصادية مهمة، وهي تعلم أن ولايتها على رأس الحكومة ستنتهي بعد أقل من شهرين، وأين كانت هذه الحكومة قبل 4 سنوات؟