خصص الدكتور محمد الهاشمي الحامدي حوارا مفتوحا، ليلة التاسع من فبراير الجاري عبر قناته المستقلة، "للنظر" في إمكانية اجتراح حلول كفيلة بالعثور على مفتاح "الصلح والتقارب" بين البلدين المغاربين الكبيرين المغرب والجزائر، لما في ذلك من مصلحة مؤكدة على عديد المستويات. وما من شك في أن السيد الهاشمي قامة إعلامية عربية محترمة، سعى ومازال في مختلف برامجه التلفزيونية ومنشوراته التواصلية إلى رأب الصدع بين الأقطار الإسلامية، والسعي نحو بلورة اتحاد عربي قائم على الحرية والعدل والعيش الكريم، رغم اختلافنا معه (وهذا أمر طبيعي) في التعاطي مع قضايا سياسية مخصوصة. وفي هذا السياق أحب أن أعرض وجهة نظري المتواضعة إزاء هذا الإشكال الذي عمر طويلا! لكن قبل ذلك يطيب لي أن أضع أمام القارئ العزيز ورقة صديقي وأخي محمد الهاشمي، التي كانت قاعدة هذا "الحوار المفتوح": "منطق النقاش في ندوة المستقلة هذا المساء: الصلح بين المغرب والجزائر واجب ديني. هذا أمر لا خلاف عليه. ومصلحة مؤكدة للشعبين. هذا أيضا لا خلاف عليه. وهو كذلك مصلحة لفلسطين إذا تعاون البلدان، وللمغرب العربي، وللجاليات المغاربية في أوروبا، وللإسلام والمسلمين قطعا ويقينا. خاضت ألمانياوفرنسا حربين دمويتين في القرن الماضي وهما اليوم عمودا الاتحاد الأوروبي. فمن من أبناء البلدين، أو من العرب والمسلمين عامة، يعرف مفتاح الصلح والتقارب بين الجزائر والمغرب، على طريقة فرنساوألمانيا؟" مبدئيا لا يمكن أن يختلف عاقل مع منطوق ومضمون هذه المبادرة الصادرة عن حسن النية وصفاء الطوية واستقامة الغاية. من المؤكد أن الصلح المغربي الجزائري واجب ديني وإقليمي وقومي، كما أنه بلسم لتضميد جراح الماضي والحاضر، يعد بمشاريع التنمية والتقدم والازدهار. وهذا بالضبط ما وقع للقطرين الأوروبيين ألمانياوفرنسا اللذين دخلا في حرب طاحنة مدمرة صادمة، ليقررا بعد ذلك انتهاج مسلك العمل المشترك الرامي إلى زرع قيم المصالحة والتضامن والتسامح، وهما الآن محوران أساسيان في الاتحاد الأوروبي اقتصاديا وعلميا وعسكريا. لكن إذا تركنا جانبا الصيغة اللغوية المهذبة لمنطلق هذا "النقاش" وطابعه الخلقي الصائب، وانتقلنا إلى "صلب الموضوع" وجدنا أنفسنا أمام "شياطين الجن والإنس" تقفز هنا وهنك، تدمر كل ما هو جميل ورائع من مساعي وأهداف وأحلام رفيعة. لا يجوز في عالم السياسة أن ننظم قصائد الغزل والمدح أثناء استقراء أحداث وقضايا متشابكة متضاربة، بقدر ما يستدعي الأمر استحضار مستلزمات التحليل الإستراتيجي المستند إلى توازن القوى الإقليمية والدولية، وتضارب المصالح وتعارض المنافع و المرامي الجلية والخفية للأطراف المتصارعة، وهذا في "ملتي واعتقادي" ليس في متناول "متحاورين" يصدرون عن "قناعات وشعارات وطنية غير مسؤولة، ينقصها الكثير من الوعي والهدوء والرزانة، وهذه المواصفات نجدها في غالب الأحيان في شخصيات مثقفة على قدر كبير من النضج المعرفي والفكر العلمي الراجح، وهم شبه غائبين في المشهد الإعلامي العربي، بل من الشائع أن "المحللين والمتحدثين" في البرامج التلفزيونية والمواقع الإخبارية، هم أقرب إلى ما أصبح يسمى بالذباب الإلكتروني، همهم الوحيد التجييش والإثارة وتأليب الرأي العام ورفع منسوب العداء والكراهية والعنف بالغ الحدة، وكما يقال: "إن لم تكن جزءا من الحل فأنت جزء من المشكلة". وعلى صعيد آخر، لا يمكن أن ننتظر معالجة سلمية حضارية لقضايانا الصعبة في غياب الإرادة الصادقة لدى طرف أو أطراف المعادلة في النزاع، والواقع الذي لا يرتفع في الأزمة الجزائرية المغربية يتجلى في كون الطرف الجزائري هو الذي يأبى التقارب والصلح ويرفض التطبيع والحوار. إن النظام الجزائري هو من أغلق الحدود البرية والجوية والبحرية مع المغرب من طرف واحد، وهو الذي أوقف العمل بأنبوب الغاز المار إلى أوروبا عبر المغرب، وهو الذي قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب من طرف واحد، وهو الذي يطرد المواطنين المغاربة البسطاء الذين وجدوا أنفسهم يبحثون عن لقمة العيش بين "الحدود"، ويقتل بدم بارد شبان جاءت بهم الأمواج إلى "المياه الجزائرية" فقط لأنهم مغاربة، وهو الذي يضاعف قوته العسكرية وترسانته الحربية بلا هوادة، ليس "دفاعا عن فلسطين ظالمة أو مظلومة"، بل "لبناء" مستشفيات بعد تدمير قطاع غزة ! لا بل إن النظام الجزائري أعلن من طرف واحد أيضا، عن نواياه الطيبة في التطبيع مع إسرائيل، وعن رغبته الملحة في الحوار وإعادة العلاقة مع "المستعمر" الفرنسي! أما المغرب فهو في وضع "اللامفكر" فيه بالنسبة للدبلوماسية الجزائرية غير السوية، لقد صرح في عديد المناسبات مسؤولون جزائريون كبار بأن العلاقة الثنائية وصلت إلى نقطة "اللاعودة"، في الوقت الذي يعلن فيه هرم السلطة المغربية الملك محمد السادس بالصوت والصورة، أن الشر لن يأتي إلى الجزائر من جهة المغرب، وأنه على استعداد للقاء الرئيس الجزائري في الزمان والمكان الذين يراهما ملائمين، للحديث المفصل عن كل القضايا الثنائية العالقة، لوضع حد لصراع موغل في القدم، يزداد تعقيدا وتشابكا، ويهدد بنشوب صدام يخرج فيه الكل منهزما منهارا مفككا. إن صوت العقل والحكمة شبه غائب عند الطرف الجزائري الرسمي. فلئن كان الحوار مفتاح الحلول الناجعة في مختلف الأزمات الكبرى منذ مستهل الوجود البشري، ومادامت الجزائر الرسمية مصرة منذ الستينيات من القرن العشرين على تقسيم "جارها الغربي" و تشبثها بلاءاتها الثلاثة: لا صلح لا تطبيع لا حوار مع المغرب، فإن الأزمة الجزائرية المغربية "باقية وتتمدد"، نقول هذا ببالغ الأسى والألم والحسرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.