لتوجيه انتباه أولئك الذين يكررون اليوم بشكل آلي الخُطب الحماسية التي ألقيت منذ زمن الحرب الباردة، ومازالوا يستحضرون و يمجدون الشخصيات المسؤولة عن الهزائم التاريخية، يجدر بنا أن نذكرهم أن الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر 2023 خلفت عواقب إنسانية مأساوية وسياسية واستراتيجية على نطاق غير مسبوق. إن تحويل غزة إلى حقل من الأنقاض ، مع موكب طويل من الشهداء والمعاقين والأيتام والأرامل والمعالين، يوضح استراتيجية متعمدة تهدف إلى فرض توازن قوى جديد في فلسطينالمحتلة. إن هذه الإستراتيجية القائمة على إضعاف قدرات المقاومة بشكل منهجي سواء كانت مسلحة أو مدنية أو سياسية لفرض الامر الواقع ، وهي جزء من منطق الهيمنة الطويلة الأمد، الذي تمتد تداعياته إلى ما هو أبعد من حدود أراضي فلسطينالمحتلة. وعلى الصعيد الإقليمي، أدى انهيار قدرات حزب الله في لبنان، وانهيار النظام السوري السابق، وفقدان نفوذ إيران التي شهدت تحلل أذرعها الإقليمية بشكل مفاجئ، إلى خلق فراغ استراتيجي كما كان متوقعا. والأمر الأكثر خطورة هو أن بلدان في هذه المنطقة المتوترة ، كانت داعمة رمزيا للمقاومة، فقدت استقلالها وأصبحت الآن خاضعة بشكل غير مباشر للإملاءات الأجنبية. وقد فتح هذا الوضع الطريق أمام إعادة تشكيل جيوسياسي للشرق الأوسط، تم التخطيط له بطريقة تخدم اطماع ومصالح إسرائيل التوسعية وحلفائها الغربيين. واليوم، بعد سنين من النضال وإرتكاب نفس الأخطاء، تجد الدول العربية المقاومة نفسها بلا حلفاء يمكن الاعتماد عليهم لإعادة بناء توازن القوى الملائم لتطلعاتها. إن القضية الفلسطينية، على الرغم من أهميتها، لم تعد القضية الوحيدة التي تتعرض للتقويض؛ إنها الآن جزء من سياق إقليمي يتميز بظهور قضايا معقدة جديدة، والتي تفاقمت بدورها بسبب الديناميكيات الجيوسياسية الحالية. إن أولئك الذين يصرون، من خلال التعصب أو المصلحة الذاتية، على الدفاع عن الأخطاء واللاعقلانية، من خلال رفض إعادة النظر في طرق التفكير العتيقة، يساهمون في إدامة الأوهام والضلالات. إن هؤلاء الفاعلين، سواء كانوا سياسيين أو فكريين، يتجاهلون عمدا حقائق العالم المعاصر والتطورات في التوازنات الجيوسياسية فيه – أو حتى اختلالاتها. إن حركة فتح، على الرغم من اتهامها بالخيانة في كثير من الأحيان، لا يمكن اختزال دورها انطلاقا من تلك المواقف الاضطرارية ، دون ارتكاب ظلم فكري وسياسي. ولا يمكن إنكار دورها التاريخي في إحياء القضية الفلسطينية وقيادة نضال الشعب الفلسطيني ، بيد أن انحيازها التدريجي للقرارات الأجنبية وفشلها في التكيف مع الحقائق المعاصرة أضعف من مصداقية قيادتها. وفي الوقت نفسه، فإن حماس، على الرغم من صمودها في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، ارتكبت خطأ استراتيجيا كبيرا في ربط القضية الفلسطينية بأهداف إيران الإقليمية. وكما أثبتت التطورات الأخيرة، فإن إيران لا تملك القوة ولا القدرة على تحقيق أهدافها الإقليمية، تاركة البلدان العربية تعاني من العواقب الكارثية لحساباتها الجيوسياسية الخاطئة ومن غير الممكن أن ننكر أن حماس تكبدت خسائر فادحة في هذه الحرب، كما تكبد الشعب الفلسطيني اكثر مما يمكن ان يتخيله المرأ ، فضلاً عن بعض الدول العربية المجاورة . لكن هذه المقاومة استنفدت أيضاً القدرات العسكرية والإستراتيجية للاحتلال الإسرائيلي، مما يجعل اندلاع حرب جديدة أمراً غير محتمل في المدى القريب. لكن هذا الوضع الهش يفتح الطريق أمام مخاطر جديدة. وسوف تسعى إيران، من ناحية، والجماعات السياسية الإسلامية المتهورة، من ناحية أخرى، إلى استغلال الوضع بعد غزة لإضعاف الشرق الأوسط بشكل أكبر، مما يجعله مرة اخرى ، عرضة للتدخلات أو القرارات الدولية المُمْلاة.