أصدرت القوات الإسرائيلية في الأسابيع الماضية تحذيرا لأزيد من مليون فلسطيني في شمال قطاع غزة، مفاده إخلاء المنطقة قبل بدأ الهجوم البري الشامل. والذي بدأت تمهد له عبر توغلات على محاور عدة في غلاف غزة، وتهدف إسرائيل من خلال الهجوم البري إلى معاقبة حركة حماس على هجومها المفاجئ والصادم الذي شنته على إسرائيل في السابع من أكتوبر تحت مسمى "طوفان الأقصى"، وقد أصبحت الحملة البرية الإسرائيلية أمرا حتميا بدا واضحا منذ اختراق حماس للحاجز الأمني المحيط بقطاع غزة، ومن الطريقة التي نفذ بها الاختراق وحجم الضربة التي تلقاها الاحتلال الإسرائيلي. الهجوم الإسرائيلي البري الشامل والمحتمل على قطاع غزة يشكل تهديدا على صعد مختلفة؛ إنسانية وأخلاقية وسياسية واقتصادية واستراتيجية..، فبالإضافة إلى الضرر الكبير الذي سيلحقه بالفلسطينيين وتكاليفه البشرية والمادية التي لا يمكن تجاهلها، فإن إسرائيل لن تكون بمنأى عن التداعيات السلبية لهذا الغزو، كما أن مثل هذا الهجوم سيشكل تهديدا حقيقيا للمصالح الأمريكية الأساسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وفي صراع النفوذ القائم مع الصين في المحيطين الهادي والهندي. تداعيات الغزو داخليا إن الرد الإسرائيلي على "طوفان الأقصى" عبر القصف المكثف الغير معتاد والعشوائي على القطاع، وقطع الغذاء والماء والطاقة، وحشد أكثر من 300 ألف جندي إسرائيلي مع دعوة المدنيين في الشمال إلى المغادرة، يأتي نتيجة أصوات غاضبة في الداخل الإسرائيلي تطالب برد قاسي وعنيف على ما قامت عليه حماس، لكن التفكير الجدي يشير إلى عواقب محتملة للحرب على غزة، وأي مؤشرات للتفكير في عواقب هذا العقاب الجماعي تبقى غائبة عن مفكرة صانع القرار الإسرائيلي، والذي وإن رأينا الخلاف بينهم حول من يتحمل المسؤولية عن الفشل الأمني والاستخباراتي والعملياتي، هل السياسي أم العسكري، لكنهم يجمعون على ضرورة الرد وبقوة على ما فعلته حماس في السابع من أكتوبر من هذه السنة. طبعا أهل غزة يدركون النوايا الإسرائيلية جيدا وقد خبروها في معاركهم السابقة، وهم يوقنون بأن دعوات الإخلاء ليست بلفتة إنسانية، بل يرونها بمثابة تهجير قسري كما حدث سنة 1948، ولن يسمح لهم بالعودة بعد ذلك. ولا شك أن حماس قد توقعت هذا الرد من الجانب الإسرائيلي، والأكيد كذلك أنها استعدت له جيدا بالنظر لتجاربها السابقة، زد على ذلك أن أي هجوم بري كبير سيوقع خسائر كبيرة لدى الجانب الإسرائيلي، بالنظر لأفضلية مقاتلي حماس على الأراضي المحتلة في غلاف غزة، قبل الحديث عن القتال في جغرافية هم يعرفونها جيدا، والذي ظهر جليا في محاولات الاختراق التي نفذتها القوات البرية الإسرائيلية في غلاف غزة، والخسائر الكبيرة التي تكبدتها في العتاد والجنود، مع إمكانية استخدام حماس لورقة الرهائن ضد أي تصرفات إسرائيلية، وهذا يعني إطالة أمد الصراع، واستحالة تحقيق إسرائيل لنصر سريع، ويعني أيضا آلاف الجرحى والقتلى من المدنيين الأبرياء. وحتى سيناريو نجاح الاحتلال في الإطاحة بحركة حماس، سيواجه بتحدي إدارة الأراضي التي دخل إليها، فسكان غزة لن يرحبوا بالجيش الإسرائيلي كقوة محررة، نظرا للبيئة الحاضنة لحماس في غزة، بل سيجد نفسه في بيئة معادية وأمام أناس مستعدون للموت من أجل القضية. في سيناريو موازي لما سيعيشه قطاع غزة في حال الاجتياح البري، لن تكون الضفة الغربية في منأى عن تداعيات ذلك، حيث لن يبقى الصراع محصورا في القطاع، بل سيولد ضغوطا كبيرة على الضفة الغربية تعجز السلطة الفلسطينية عن احتوائها، مما يمهد لخروج الأوضاع عن السيطرة مع اشتداد المواجهات والصدامات على شكل انتفاضات شعبية كبيرة ستواجه برد عنيف من الجانب الإسرائيلي. مخاطر التحول إقليميا على المستوى العربي يسود لدى الغرب عموما ذلك الاعتقاد بأن الساسة والزعماء العرب منشغلون ببقائهم، والحفاظ على مصالحهم الوطنية، وبالتالي لا يتوقع أحد منهم التضحية من أجل القضية الفلسطينية، وهذا ما ساعد الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل في المضي قدما في العديد من السياسيات الضارة بالقضية الفلسطينية، لكن حدود قدرتهم على الوقوف في وجه المتظاهرين والحشود الغاضبة خاصة عندما يتعلق الأمر بقضية فلسطين تبقى مشكوك فيها، في السابق سمح للجماهير بالخروج للشارع والتنفيس عن الغضب وتحويل الاحتقان نحو عدو خارجي، لكن الانتفاضات العربية سنة 2011 أثبتت للجميع قدرة هذه الاحتجاجات في الانتشار وصعوبة احتوائها محليا، والتحول إلى موجة إقليمية قادرة على الإطاحة بالكثير ن الأنظمة، وبالتالي فالقادة العرب أولا يعون خطورة السماح للجماهير العربية بالنزول إلى الشوارع بأعداد كبيرة، ثانيا وبالمقابل لا يرغبون بالظهور بمظهر الواقف إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي. إن هذا التحفظ الذي سيسود المنطقة في هذه الفترة ليس مقرونا فقط بالوضعية الراهنة وما يقع فيها من أحداق، وإنما يدخل في سياق عام تسعى فيه بعض الأنظمة في المنطقة إلى تحقيق مصالحها عبر ملاعب متعددة، إقليميا ودوليا، فالكثير من الأنظمة في المنطقة أصبحت تتعامل ببراغماتية أكثر بشأن قضاياها الملحة، وقد لاحظنا تحفظ بعض الأنظمة إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، وعدم الانسياق وراء طرف بعينه، ثم مسألة الحفاظ على أسعار النفط مرتفعة بقيادة السعودية وبعض الدول الأخرى، ضدا عن الرغبة الأمريكية، ثم التقارب الصيني مع الكثير من الدول في المنطقة وبناء علاقات قوية معها...كل هذه إشارات تلتقطها أمريكا مفادها أن ولاءات الزعماء في المنطقة لم يعد أمرا مفروغا منه، خصوص أما هذا الدعم الأمريكي اللامشروط للأعمال والسياسات الإسرائيلية المتطرفة في حق الفلسطينين. هذا التحول على المستوى الإقليمي ليس الأمر الوحيد الذي على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تخشاه إذا استمر الوضع على هذا المنوال، وإنما هناك مخاطر من دخول حزب الله اللبناني إلى الحرب، فرغم القصف المتبادل بين الطرفين يبقى في حدوده الدنيا، لكن مسألة اجتياح غزة بالشكل الذي أعلن عنه الجانب الإسرائيلي يعتبر خطا أحمرا لدى حزب الله، وقد أعلن عن ذلك، فرغم سعي الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى تحذير حزب الله ومن يدعمه من مخاطر الانضمام إلى هذه الحرب وجلب حاملتي الطائرات للمنطقة، إلا أن هذه التهديدات لن يكون لها صدا إذا واصلت إسرائيل خططها في غزة، طبعا مسألة دخول حزب الله الحرب بترسانته الصاروخية الهائلة والدعم كبير من إيران، سيجعل إسرائيل تواجه ولأول مرة منذ نصف قرن حربا على واجهتين. إن الموقف الإيراني المعلن لا يشجع الخطط الأمريكية والإسرائيلية في غزة، وإنما يفرض عليها تحديات ومخاطر كبيرة قد تطال المنطقة برمتها، فأي دور إيراني مباشر ومحتمل في الحرب الدائرة على غزة سيواجه برد أمريكي سيؤدي إلى إشعال المنطقة، وتصعيد محتمل عبر العراق واليمن وكل الجبهات الأخرى التي يسيطر عليها حلفاء إيران، مع عدم استبعاد تأثر إمدادات النفط عبر الخليج، هذه المخاطر تفرض على الجانب الأمريكي التفكير أكثر قبل الإقدام على أي خطوة قد تؤدي إلى الهاوية. التحدي الأخلاقي والقانوني إن القتل الممنهج والعقاب الجماعي والتهجير، إضافة إلى الحصار الخانق الذي تقوم به إسرائيل في حق الفلسطينيين يرقى إلى جرائم يعاقب عليها القانون الدولي، كالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب...وبغض النظر عن موقف إسرائيل من القانون الدولي ومدى احترامها وانزعاجها من لقواعده، إلا أن ما تقوم به يدفعها إلى كارثة سياسية واستراتيجية لها تكاليفها المرتفعة، بعكس مكاسبها المنخفضة المتوقعة. إن الاستخفاف الإسرائيلي بقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني، وإن لم يفرض تبعات مباشرة وواضحة على الجانب الإسرائيلي، فهو لا شك يمثل تحديا حقيقيا واستراتيجيا للولايات المتحدةالأمريكية؛ حيث من الصعب عليها أن توفق من جهة، بين ترويجها للمعاير والمبادئ الدولية وقوانين الحرب وضرورة احترامها دفاعا عن أوكرانيا في حربها ضد الغزو الروسي، ومن جهة ثانية، غض الطرف وتجاهلها المبالغ فيه لنفس المعايير والمبادئ والقواعد الدولية في غزة أمام مرأى ومسمع من العالم. إن تشجيع الولاياتالمتحدةالأمريكية لإسرائيل على المضي قدما في مخططها الدامي في غزة، يقود بشكل مباشر إلى كارثة عواقبها وخيمة، قد تأتي على مكانتها العالمية ومصالحها الإقليمية، ويدرك الجميع أنه من دون السند الأمريكي سرعان ما تعود إسرائيل لحجمها الحقيقي، كما تدرك إسرائيل أن الفيتو الأمريكي بمجلس الأمن يحميها من أي عقوبات، كما تدرك أيضا أنه لولا المساعدات الأمريكية لما كانت لها القدرة على الاحتفاظ بجيش كبير مزود بالأسلحة اللازمة. وبالتالي؛ فالولاياتالمتحدةالأمريكية هي الدولة الوحيدة القادرة على لجم الاندفاع الإسرائيلي نحو حافة الهاوية.