حين كنت في المدرسة الأبتدائية... لم أكن أحب كثيرا دروس التربية الوطنية... كنت فقط أردد وراء الأستاذ أن المواطنة هي الإخلاص للوطن... كان فهمي لها بسيطاً ولم أكن أعرف لها شكلا و لا شعورا... كل ما أعرفه عنها هو النشيد الوطني والعلم المغربي... وعندما كبرت... اخترت مهنة التدريس... وقضيت دهرا أحدث طلابي عن القومية العربية... وحدث أن سمعت ببلاد الأحلام: كندا... فقررت وأسرتي الهجرة اليها... بعد مرور ثلاث سنوات بها، توصلت بدعوة لحضور حفل تقديم الولاء للحصول على الجنسية الكندية. كانت القاعة تغص ببشر اختلفت ألوانهم وأعراقهم وانتماءاتهم وأديانهم وطوائفهم، جميعهم تستقبلهم دولة كندا وتمنحهم حق التمتع بكافة الحقوق د ون أي تمييز. كانت لحظة طريفة ومحزنة بالآن نفسه... كنت طول الحفل أشعر باحساس تتداخل فيه حالة وجدانية معقدة كنت أكلم نفسي و لا أحد يسمعني... أسئلة محيرة طرقت مخيلتي: هل الحصول على جنسية كندية يجعلني خائنة؟ هل الحصول على جنسية كندية مخالف للدستورالمغربي؟ وهل يجب أن أخجل لأنني مزدوجة الجنسية؟ وهل سيسامحني والدي لأنني أديت القسم، وهل سيصدقني ابني البكر عندما أحدثه عن بطولات العرب، وماذا سيقول أصدقائي: كافرة... أنانية ومشكوكة المصداقية ثم سمعت صوت الضمير يهمس هو الآخر ويقول: الوطني الحقيقي لا يغير أوراقه عند أول فرصة... لا يأخذ حقه من خلال حقوق وطن آخر! واعتراني غضب عما يحدث في بلاد المغرب... وتساءلت في نفسي ماذا يجري حتى ص ر المغاربة يبحثون عن أوراق جديدة فهم يزحفون من كل المدن... فرادى وعائلات انهم يغيرون الأرض... يغيرون أسماءهم... يغيرون جواز السفر هل هى الحرب؟؟ هل هو الفقر؟ هل هو البحث عن العلم؟ هل هو اختيار أم موضة؟ هل هو بحث عن العدالة الاجتماعية؟ هل هو كفرأم هروب؟ أم هو انتحار جمعي على طريقة الحيتان... يصعب تفسيره! مرت الأيام وحصلت على الجنسية الكندية... كنت في كل هذه السنوات أحاول اقناع نفسي أن أجيد لغة الاندماج... غير أن بقية من الشخصية العربية تأبى الا أن تعود وتطفو على سطح مواقفي... وتأكد لي الأمر عندما جاءت أخبار الثورة العربية أخبار جعلتني أشعر بقلبي يخفق ويفرح... أخبار جعلتني أنتفض... في خضم أحداث هذه الثورة... سيطر علي إحساس غريب وجميل وبدا لي البعد الحقيقي للوطنية والعروبة الوطنية التي طالما تحدث عنها أساتذتي... ولا أنكر أنني لم أستطع الكتابة عن الثورة العربية في البداية.. لأسباب عديدة... أولها أنني لا أفهم في السياسة... وهو عذر تافه لا يعفيني من أن أكتب لأصف إحساسي بالحدث.. وثانيها انه لساني! لقد تعود اللعين أن يخرس... تعودت ألا أنتقذ الوضع ... وتعودت أن أرى... ولا أتكلم أنا كتماثيل "القرود الثلاثة" الذي يغطي أحدهم عينيه بيديه، ويغلق أحدهم أذنيه، ويكمم الثالت فمه... يوما بعد يوم توالت الثورات... فقررت الخروج عن صمتي وكتبت بعض المطالب على ورقة صغيرة وألصقتها على باب الثلاجة... فسألتني ابنتي عن معناها... واسترسلت في شرح معنى استقلال القضاء ومحاسبة المختلسين والمتلاعبين بالمال العام... نظرت إلي وخلتها لم تفهم عباراتي... فأعدت الشرح... وبنظرات مليئة بالتساؤل قالت: تطالبين بكل هذا وأنت بعيدة! ما فائدة المطالب وهي ليست هنا، إنّها هناك.. ثم انها فقط شعارات... لا وجود لاقتراحات عملية! ثم أضافت: على أي حال... أنت الآن مواطنة كندية... ولست بحاجة إلى كل تلك المطالب! عليك التفكير بشيء آخر... خدمة بلدك الجديد... بلدك وبلد أولادك! كان وجه ابنتي الصغير باردا وقاسيا... قرأت من خلاله درسا جديدا في المواطنة... لم أفهمه هو الآخر!