المغرب يحتفل غدا الأربعاء بالذكرى ال49 للإعلان عن تنظيم المسيرة الخضراء المظفرة    زخات قوية قد تكون عاصفية محليا يومي الثلاثاء والأربعاء بعدد من أقاليم المغرب    بركة: 780 مليون متر مكعب من المياه دخلت لسدود الجنوب الشرقي    المفوضية الأوربية تطرح قانونا جديدا يسرع ترحيل المهاجرين السريين    الجيش الملكي ينفصل عن مدربه    لقاء يجمع الداكي مع المدعية الفدرالية البلجيكية لتعزيز التعاون الثنائي في مجال مكافحة الجريمة المنظمة والعابرة للحدود    وزارة الصحة تسلط الضوء على المشروع الملكي لإصلاح المنظومة الصحية خلال مشاركتها بمعرض "معرض جيتكس دبي"        صناعة التفاهة.. تهديد صامت للوعي الاجتماعي    الدورة 14 من المعرض الجهوي للكتاب بمراكش    «أنا الموقع أدناه» ضيف «منتدى نساء المغرب» بأصيلة    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: في انتظار عودة حسن نصر الله.. و"ريال مدريد" يلعب في الضاحية الجنوبية    زمن الجماهير    أمير قطر يعلن عن تعديلات دستورية وطرحها للاستفتاء بعد موافقة مجلس الشورى    هزة أرضية بلغت قوتها 4.4 درجات    فيضانات الجنوب الشرقي.. إطلاق صفقات تهم 71 مقطعا طرقيا و69 منشأة فنية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية        اتهامات جديدة ضد مبابي: نجم ريال مدريد يرد على الشائعات    الوزير بنموسى يعلن في البرلمان عن خطة للنهوض بالرياضة بعد نكسة الألعاب الأولمبية    أسود الأطلس جاهزون لمواجهة إفريقيا الوسطى    الضريرة مُعارَضة لقصيدة "الأرملة المرضع" لمعروف الرصافي    دراسة: زيادة نسبة تصادم المركبات بنسبة 45,8 بالمائة عند اكتمال القمر    شبح ارتفاع المحروقات يطارد المغاربة رغم توقعات الانخفاض العالمية    إسرائيل تواجه أكبر موجة هجرة في تاريخها برحيل 40 ألف شخص في عام واحد    آيت الطالب.. الصحة بالحسيمة هي الأفضل في المغرب وهكذا سنعالج قلة الموارد البشرية    المغرب وروسيا يناقشان تطوير العلاقات    إيداع شاب ألقى قنينة مشتعلة على الموكب الملكي مستشفى الأمراض النفسية    لا خسائر مادية أو بشرية.. هزة أرضية بقوة 4.5 درجات تضرب إقليم إفران    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم..    الشامي: المغرب لا يستفيد من فرص سوق صناعة السفن.. 11 مليار دولار حجم سوق التصدير سنويا    الجزائر والكاميرون تلحقان ببوركينا فاسو إلى نهائيات المغرب 2025    مدرب غلطة سراي: "زياش لاعب مهم بالنسبة لنا ولديه شخصية قوية"    مغاربة يحتجون تنديدا بمحرقة جباليا وتواصل المطالب بوقف المجازر وإسقاط التطبيع    حملة استنكار مغربية تقود إلى إلغاء حفل الجزائري الشاب بلال بميدلت    افتتاح الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي الخامس والأربعين    وزير النقل: سنعلن قريبا عن الاستراتيجية الوطنية لتشييد أسطول للنقل التجاري البحري في أفق 2040    نتنياهو: المصلحة تحدد الرد على إيران    الوزيرة بنعلي: 416 رخصة لاستيراد النفايات منحت مند عام 2016.. وهي عبارة عن إطارات مطاطية وبلاستيك ونسيج    أسعار النفط تتراجع بأكثر من 3 بالمائة    غوارديولا مرشح لتدريب المنتخب الإنجليزي    شكاوى جديدة ضد شون "ديدي" كومز بتهمة الاعتداء الجنسي على قاصر    الصحة العالمية: سنة 2024 شهدت 17 حالة تفش لأمراض خطيرة    دراسة: تناول كمية متوسطة من الكافيين يوميا قد يقلل من خطر الإصابة بألزهايمر    الراغب حرمة الله يعبر عن إعتزازه بالمكانة التي يوليها جلالة الملك لأبناء الأقاليم الجنوبية    توقعات احوال الطقس لليوم الثلاثاء        تشغيل الشباب.. بنسعيد: "استفادة حوالي 30 ألف شاب وشابة من برنامج في مجال التكوبن"    إصلاح قطاع الصحة في المغرب : تحديات وأفاق    "حوار" يناقش مستقبل الجالية بهولندا    دراسة: تناول كميات طعام أقل قد يكون له تأثير إيجابي على متوسط العمر المتوقع    دراسة: الذكاء الاصطناعي ساعد في اكتشاف آلاف الأنواع من الفيروسات    أعراض داء السكري من النوع الأول وأهمية التشخيص المبكر    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زمن الجماهير
نشر في لكم يوم 15 - 10 - 2024

كتب عالم الانثروبولوجيا الفرنسي "غوستاف لوبون" في 1895 كتابه "سيكولوجية الجماهير " ولا زال هذا الكتاب يتمتع بالجاذبية في القراءة والتأمل للحركات الاجتماعية، والثورات العالمية، والجماهير الشعبية التي تتحرك بالدوافع والحوافز تحت سيادة الزعيم وقدرة قلة من الزعماء على الإقناع والاستمالة . روح الجماهير كما يحلل ذلك المفكر عندما ينفذ نوعا ما إلى نفسية الجمهور، ويسقط عليه مجموعة من الأوصاف التي تنقسم بين السلب والإيجاب، الجمهور الهائج والناقم، جماهير أشبه في تصرفاتها بالقطيع. يذوب الفرد في الجماعة، وتتحرك الجماهير بقوة ويشبه اجتماعهم بحالة غيبوبة أو تنويم مغناطيسي مؤقت، ونوع من التخدير الذهني بجرعة ثقافية ممزوجة بالتقاليد الشعبية، وميراث الأمم التاريخي، وذلك من قبل زعماء يتميزون بالقدرة على التعبئة بالخطاب الحماسي والعاطفي، حيث تنمحي الذات أمام سلطة الخطاب وقدرة الزعيم بشخصيته الكاريزمية في الجمع والتحشيد، وتستلهم الجماهير الغاضبة هذه العواطف من المزاج، ومن الوحدة العقلية، من خلال مجموعة من الصور والكلمات المنتقاة، والعبارات المناسبة في التجييش للجماهير، وكل ما هو مشترك في المخيال الاجتماعي، تحركه الدوافع الدينية، والعرق التاريخي المشترك، والسمات الثقافية العامة. تنطبع الأفكار في ذهن الجماهير الهائجة، وتتولد المشاعر المتكدسة الدافعة للتغيير، والراغبة في ميلاد تجربة جديدة في الحياة، تنم عن عطش الجماهير، والتي تعبر عن الدوافع الدفينة والعميقة في اللاشعور الجمعي . جماهير تصيح بصوت عال، وتتقدم نحو الأمام في تظاهرات عالمية، وتعبئة لا مثيل لها تهيمن على الشعور والوجدان، وتزيد من الهيجان والاندفاع، وهنا يضرب لنا "غوستاف لوبون" مثالا من القادة الكبار في أوروبا، ومنهم "نايليون بونابرت" الذي كان يمتلك القدرة على التعبئة، وجر الجيوش الفرنسية للتوغل في أوطان متعددة من خلال حملات عسكرية في الشرق والغرب .
الجماهير في كل الأزمنة تحركها أطراف وأهداف ظاهرة وخفية، جماهير تفرض نفسها في الساحات العمومية والميادين ، جماهير بعواطف وأخلاقيات، ليست قطيعا لا بالمعنى الحرفي ولا بالمعنى الرمزي، إنها الجماهير الغفيرة التي تحمل وعيا اجتماعيا وثقافة سياسية، جماهير تعرف بالتمام أنها تسعى إلى تغيير التاريخ، بعدما عجزت النخب السياسية، والفاعلون المدنيون والنخب الفكرية، وكل من ينتمي للمؤسسات الرسمية . قيادة الجماهير من خلال أدوت كلاسيكية، من التعبئة والتجييش، واللعب على التقاليد الموروثة، والحكايات من التاريخ المجيد، وكل ما يمكن أن يحشد الذهن، ويقتات عليه الفكر من التاريخ البعيد والقريب معا، وكذلك هوية الجماعة والثقافة . الجماهير لا تقتنع بالمنطق، ولا تستوعب بالعقل كل ما يجري من وقائع، الجماهير نوعين : متمرسة في النضال والاحتجاج، وجماهير خانعة وتابعة، جماهير لا يصنعها التعليم، ولا يؤثر فيها المفكرون والمثقفون، تسير في مسيرات من خلال أهداف محددة ورغبات، وتعرف بالتمام أن هدفها يجب أن يكون منضبطا وملتزما بالقواعد التي يتم تصريفها وتلقينها من قبل القادة أو الذين ينحتون التعليمات خلف الخطوط، أولئك الذين يطلون من شرفة عالية، ويراقبون المشاهد والحراك على مستوى المسارات والأهداف والغايات .
الصور وعالم "الميديا" اليوم أقوى معبر عن حالة الجماهير ، لا يقف أمامها شيء إذا كانت الحشود بأعداد كبيرة، تحتل الأماكن الرمزية، وتهيمن عل الساحات العمومية، كما كان الأمر في ميدان التحرير بمصر، وتنخرط في الهتاف، وترديد الشعارات، تنادي بإسقاط الفساد والأنظمة الاستبدادية، تنادي بالحرية والديمقراطية والتنمية، تؤجج العواطف والمشاعر، في خطابها، هناك محدودية عمل النخب السياسية، ومحدودية الحكومات المتعاقبة، وتعتبر نفسها مالكة للشرعية المجتمعية في التغيير، قوتها في الإرادة الجماعية وصلابة الحشود. فالكل يهتف ويندد، ولا مجال للتفكير الفردي المستقل لأن الروح الجماعية الواحدة تسيطر على الحشود، وليس الجمهور كما في تحليل سيكولوجية الجماهير عند "غوستاف لوبون" أنه همجي أو صنف منه لا مسؤول أو مندفع بالغريزة، لا يدري، ولا يحترم طبيعة المؤسسات والقوى الأمنية، مواصفات الجماهير تنطبق على القرن التاسع عشر، وجماهير قبل الثورة الفرنسية وما بعدها، جماهير ثائرة وغاضبة، مندفعة، وتدري من يقودها، محددة بمضمون ثوري ورغبة جامحة، جماهير في حالة غيبوبة مؤقتة، شديدة الاندفاع والانقياد من قبل نخبة من الزعماء كما هو الشأن مع جمهور نابليون وهتلر، والجماهير الشعبية في الثورات، يعني التماهي مع خطاب الزعيم، والتضحية بالنفس في سبيل تحقيق طموحات الزعيم في السيطرة والهيمنة. روح الجماهير في المكون النفسي والوجداني، في سرعة التصديق، والسير على خطوات الزعيم ولو كانت الخطوات مفعمة بالأوهام وخالية من الحقائق. فمن يحاول إزالة الأوهام عن الجماهير يقع ضحية لهم، ويخرج من الإطار، ويصير منبوذا ومستبعدا. هناك تيار يجرف الكل بواسطة قوة هائلة للجذب.
الجماهير الحالية واعية بأهدافها من خلال ما تبثه شبكات التواصل الاجتماعي من صور تؤثر في النفوس، وترفع من درجة العاطفة والهياج . جمهور عالمي اليوم يتجه صوب التأثير في مسرح الأحداث من خلال الدفاع عن قضايا إنسانية كالحرب على غزة ولبنان، والحروب التي تمارس فيها الإبادة الجماعية والحروب ذات الطبيعة العرقية والعنصرية . نضال الجماهير ضد تغول المؤسسات المالية الدولية، ضد الفقر، وهشاشة الوجود الإنساني، ولو كنا نعتقد في الحداثة والتكنولوجيا، وعصر الصورة، والذكاء الاصطناعي فإن للجماهير إيقاعها الخاص. تتبنى المواقف دفعة واحدة أو ترفضها، لا ترغب الجماهير في السيطرة على السلطة بالقوة، ولا تريد خلق الفوضى، ولا ترغب في الحقيقة المثالية بقدر ما تسعى لإثبات صوت جديد بعيدا عن هيمنة القنوات التقليدية والوعود المزيفة للمؤسسات الرسمية، سقط القناع، والبديل في الجماهير الغفيرة التي تمتلك الجرأة والتواجد في المكان . لا تنجر الجماهير بسهولة إلى مسلسل العنف والاصطدام بالأجهزة الأمنية، الجماهير اليوم تنقاد بالليونة، ومن خلال الحق في التجمهر المكفول قانونيا والمنصوص عليه في القوانين الوضعية الدولية، الحق في حرية التعبير، والرفض للسياسات الخاصة بالأنظمة إزاء قضايا معينة، سيول جارفة يصعب حصرها أو منعها بالمتاريس والحواجز. جماهير تخرج في أمريكا وبريطانيا وفرنسا كلها تندد بالسياسات الحكومية، تنادي بالإصلاحات، وتندد بالدعم السخي لإسرائيل. قرارات لا يستشار فيها الشعب، والجماهير تنادي بأصوات عالية للكف عن تزويد إسرائيل بالسلاح، والجمهور الذي يخرج من الملاعب والجامعات والمساجد والمستشفيات، يعبر عن مواقف اتجاه الحكومات وسياسة النخب. هناك وعي جديد يتحرك في العالم، ولا يعني بالضرورة أن يكون في الوعي شحنة دينية، وليس بالضرورة أن يكون على رأس الجماهير زعيما يساريا أو زعيما من طينة هتلر أو نابليون بونابرت، بل الجماهير تستمد رؤيتها من الواقعي، ومن محدودية العمل السياسي، والقانون الدولي في لجم القوى المستبدة والرافضة للتعايش المشترك والمنفعة المتبادلة .
الهياج الشعبي دليل أننا في زمن الجماهير، الجمهور ليس كله انفعاليا وسلبيا، الجمهور بالمعنى المعاصر، حركات الناس نحو الفعل وردود الفعل المضادة لكل الصور العابرة والمشينة عن حدود المعالجة للقضايا ذات الطبيعة الإنسانية، يتحرك الضمير العالمي لرفض سياسة النبذ والارتماء في أحضان الديكتاتوريات . الويل لمن خرج عن الجماهير الغفيرة، الويل لمن يمتلك موقف مضاد للحراك الجماهيري. المشكلة كذلك في سلطة الجماهير القهرية، ذوبان سيكولوجية الفرد في الجماعة، مهما كانت تبريرات الفرد لا يمكن أن يصمد أمام كلمة الجماهير، إنه عصر الجماهير، عصر ما بعد النخب السياسية والفكرية، عصر ما بعد الأحزاب السياسية، والجمعيات المدنية التابعة للمؤسسات. لم يعد التعليم يوجه أو يؤطر، إنه عامل مساعد فقط لمن يمتلكون الرؤية في تحريك الجماهير، والذين يحركون الجماهير لا يتوجهون إلى عقولهم، بل إلى عواطفهم وقلوبهم. فمن الصعب التغلغل في سيكولوجية الجماهير، من الصعب إقناع الجماهير بالرأي المخالف والمضاد. من يمتلك القدرة على تحريك الجماهير الغفيرة والسيطرة عليها يكون سيدا لهم وقائدا عليهم، ولذلك كانت ولازالت الحكومات تسعى للسيطرة على الزعماء بالتهديد أو التفاوض والحوار أو منح الامتيازات وبالتالي التنازل مع الانسحاب بهدوء، والجماهير اليوم ليست مشدودة لزعيم معين، يمكنها الانقلاب على كل زعيم يبث الفتور والشلل في العزائم والهمم في الفكرة ومصداقيتها، يمكن التمرد على كل قائد يغرد خارج مسارات النضال والاحتجاج .
في زمن القيم السائلة والحياة الهشة، كل الأشياء قابلة للتغيير والتعديل، نحن في زمن الجماهير. هناك تدفق وسيلان للجماهير نحو الشوارع الواسعة والفضاء العمومي من خلال دعوة أو نداء يتم نشره في شبكة التواصل الاجتماعي حتى يهب الجمهور لتلبية النداء واكتساح الفضاء. حركات الجماهير والقدرة التنظيمية تنم أحيانا عن العفوية وأحيانا عن خطة إبداع في التنظيم، ثم تناول الخطاب الذي يصب في إذكاء روح الحماسة، وبعث الوميض في النفوس الفاترة أو تلك التي يصيبها الانطفاء ليعلم الجمهور أن القضايا التي تنال التكريم والتقدير كلها قضايا عادلة ومشروعة، ولها شرعية تنالها بالصمود والنضال. كلمات رنانة وهتافات وشعارات، التلاعب بالمصطلحات والتعبير بلغة عاطفية، والقدرة على استعمال العبارات البليغة للنفاد نحو العواطف، ومما يزيد في قدرة الجماهير على تنظيم نفسها وإسماع صوتها التقرب من الإعلام الجديد، من خلال القنوات الالكترونية، وشبكات من القنوات الفضائية، التي تنقل الحدث بالصوت والصورة من عين المكان. وما ينشر ويكتب في شبكات التواصل الاجتماعي، جماهير أمريكية تقتحم الكونغرس، حشود من الطلبة والمجتمع المدني ضد إلزامية اللقاح، ضد خطاب نتانياهو في الكونغرس، ومستوى الاحتجاج والرفض لمن يبيد الأطفال في غزة، ويقتل الشيوخ والعجائز، وينسف البنايات ويقتل بدون ضمير.
جماهير غفيرة في فرنسا والدعوة لإسقاط قانون التقاعد، وجماهير غفيرة في زمن الربيع العربي، وتلك الجماهير التي تخرج في المغرب للتنديد بالسياسة الحكومية والغلاء ونصرة فلسطين. سيكولوجية الجمهور فريدة ومعقدة، تتفاعل فيها مكونات ومحددات نفسية واجتماعية وأخلاقية، يفكر الجمهور بالصور والرموز، يصبح جلادا وضحية في نفس الوقت، يصبح واقع حقيقي في وضع محلي وعالمي معقد، يعاني الاضطراب والأزمات المتفاقمة، من التضخم والغلاء والقضايا العابرة من الشرق خصوصا قضية الحرب على غزة. الجماهير ظاهرة عالمية تخترق الحدود حسب شدة الأزمات والحروب، الجماهير عاصفة هوجاء يمكنها التسبب في خلل وأزمات من جراء سوء التدبير للظاهرة، وبذلك تقتضي العقلنة في التعامل معها بذكاء وحذر… الجمهور الجلاد وهو الجمهور المندفع الذي لا يعقلن الأشياء، يحاكم الفرد عند ادعاء أي فكرة خارج منطق الجماهير، يتحول الفرد إلى عدو، وتجده مندفعا إلى أقصى الحدود، ويرغب أن تتحول الأوطان إلى صراع وخراب، ويخفي في ذاته الميول الغريزية للهدم والتقويض، وهناك الجمهور الضحية عندما يكون أداة في خدمة المحرضات الخارجية والداخلية، ويستجيب لمجموعة من المتغيرات، وهناك جمهور بنوايا طيبة وإرادة معقولة في الإصلاح، والتنبيه لأعطاب السياسة وقضايا المجتمع، فلا تملك الجماهير الوعي اللازم في معرفة خفايا اللعبة السياسة، وتمركز الحكومات وفق منطق المنفعة. هذا النوع من الجمهور العاقل يتحرك بخطوات محسوبة ودقيقة، والقادة يمسكون بالخيوط، ويعملون على تأجيج المشكلات، والزيادة في مقدارها وقياس نتائجها، ومن خلالها تتم المناورة والمقايضة. فالوعي الجمعي مهم في تماسك المجتمع، وترابط الجماعة الواحدة نحو البقاء والاستمرارية بالقيم المشتركة، والطبائع الفريدة والموحدة للجماعة المتراصة، ويتحول الوعي الجمعي إلى نقطة سوداء تبعث على الفوضى والتدمير عندما يتم تحريك الوعي نحو أهداف غير محسوبة العوائق. تسبب قلاقل وصراعات لا تنتهي، وقي طبيعتها تنامي الصراعات السياسية والأيديولوجية، الزيادة في الشد والجدب، يسفر الأمر عن تهديد ممكن لاستقرار الدولة ومؤسساتها. هنا تتحول الجماهير إلى عاصفة هوجاء خصوصا في حالة السلطة الضعيفة، وتتحول إلى جماهير مهادنة ومسالمة في حالة السلطة القوية.
إن القادة كما يبين ذلك "غوستاف لوبون" ليسوا رجال فكر إنما رجال ممارسة وانخراط، والبعض منهم مصابون بالهوس للسلطة، ومصابين بالعصاب واضطرابات غير عادية. إنهم يطالبون الجماهير بالطاعة والانقياد، والانجرار العفوي إلى كل فعل يأتي من خلال الإملاء، ويزداد الانخراط للجماهير بالقوة والعدد، ويتقوى الفرد الضعيف والجبان، ويتحرر الأبله والجاهل والحسود بالإحساس من الدونية والعجز. إرادته تجتمع فيها مجموع الإرادات. من خلال روح الجماعة يتحول الفرد إلى شجاع بغريزته واندفاعه تحت سلطة الخطاب المفعم بالعاطفة والوجدان . الجماهير ليست من طينة واحدة، وهي تختلف بحسب البلدان، وبحسب القدرة على تأطيرها وتنظيمها، ويمكن أن تكون الجماهير دافعا للنهوض بالأمم عندما تمتلك مطالب معقولة ومشروعة في إصلاح أحوال الناس والمجتمع، وتدفع للتنوير والوعي بقيمة الوطن، والعكس تتحول الجماهير لكتلة عمياء تقودها دوافع أيديولوجية، الغاية منها الزحف على السلطة، وتقويض أركان المجتمع وخلق البلبلة والتمزق في أوصاله. من يعرف إيهام الجماهير، والتغلغل في عاطفتهم يصير سيدا عليهم والسيادة بالمعنى الخاص تعني السيطرة المعنوية، وتوجيه النفوس نحو الفعل والقصد، السيطرة على الجماهير اليوم ليست بالقوة والإكراه بل الإقناع بلغة بسيطة وتركيب صور وشواهد من الواقع والتاريخ، وعندما يتيقن الجمهور بمصداقية الحقائق، يندفع محطما كل الحواجز. فئة معينة من الجماهير تدرك التضحيات الجسام والمسؤولية في ضمان الأمن والاستقرار، تتحرك بانتظام وانضباط، وفي رغبتها الظفر بالنتائج بالضغط على الحكومات للتنازل عن قرارات أو إلزام الحكومات بتفعيل القوانين والتسريع في الإصلاح وإلغاء قوانين جائرة. هناك شعارات يتم رفعها، وأفكار يتم تداولها، تتعلق بالدولة المدنية، وإسقاط الفساد، ومكافحة كل أشكال المظاهر السلبية في مفاصل الدولة، ومحاسبة الأفراد على أعمالهم انطلاقا من القانون، وبناء على مهامهم في المناصب السياسية. والكف عن الحروب، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والتنمية، والحق في الشغل، والزيادة في الرواتب، وسن القوانين المنصفة .
الجماهير على تنوع وعيها ومراتبها موجودة في كل القطاعات، ملتزمة بالتعبئة والتوحيد في الشعارات والمطالب التي تنادي بتحقيقها، الجماهير ليست ساذجة، وليست كلها تتحرك بعفوية. جماهير اليوم تمتلك وعيا وفكرا، وحركات الجمهور يتم التدرب عليها وتطبيقها في الساحات العمومية وأماكن رمزية ، الجماهير واقع حقيقي في عالم هش يزداد قتامة بفعل الاختلال في السياسة، وتدبير الأزمات، وبفعل ظرفية عالمية صعبة ومعقدة ، تتحرك الجماهير في كل الاتجاهات، وتنمو في عالم اليوم بفعل تنصل بعض النخب من مهامها في حل المشكلات المتفاقمة، في اختلال سياسة العالم من جراء الهيمنة والغطرسة والتفرد في قيادة العالم، من جراء هشاشة الطبقات الاجتماعية، هشاشة الفرد وحدود الفعل. الجماهير تضغط وتجبر، وهي قادرة على انتزاع الحقوق، وتغيير عمل المؤسسات السياسية، والدفع نحو التفكير في الحل للمعضلات .
الجماهير ليست كلها مندفعة وهائجة أو خاضعة للتنويم المغناطيسي والتخدير الفكري، الجماهير المندفعة تمتلك عاطفة دينية، وشحنة من العواطف الإنسانية، العنف في حقها يولد العنف المضاد والعناد والتصلب، اختبار للحكومات في النأي بنفسها من كل التدخلات العنيفة، حيث تكتفي بالمشاهدة والمراقبة، جماهير بدون زعيم واحد، روح الجماهير في قوتها على التعبئة، قوتها في الذهنية المشتركة والعواطف المتراكمة، ما أن ينخرط الفرد في الجماعة حتى يصبح أقوى وأشد من الحالة الفردية. القادة يناقشون ويقررون، يتصورون المعركة انتصار للرأي المضاد، انتصار للوعي الجمعي وروح الجماعة، جماهير الكرة والعشق الأبدي للفرق الرياضية، والهوس بالنجوم والمشاهير من عالم الكرة المستديرة، ظاهرة الجمهور الكروي في العالم والهيمنة على النفوس والعقول حتى تجد الجمهور يتقن صناعة الشعارات، والدفاع عن فريقه بكل قوة، ويقع الاصطدام بين المشجعين والمنافسين، الجماهير ظاهرة اجتماعية عالمية، ظاهرة تستدعي المقاربات العلمية في مجال العلوم الإنسانية من خلال أبعادها النفسية والاجتماعية والثقافية، مجال للتأمل الفلسفي والفكري في الهوس بالكرة والافتتان باللعبة الشعبية. جماهير الملاعب، وجماهير الساحات والشاشات العملاقة، وجماهير المقاهي .
نحن في زمن الجماهير، الزمن الذي تراجع فيه صوت المثقف، وصوت الأحزاب السياسية، بقيت الجماهير في مقابل المؤسسات والحكومات، ومنظمات المجتمع المدني، ولعل الريادة في التعامل وحسن تدبير التفاعل مع الجماهير الغفيرة يولد الحاجة لأدوات مرنة في سبيل الحفاظ على سلامة المجتمع من كل اندفاع، في سبيل حسن التنظيم والتأطير، في سبيل الرقي بالسلوك المدني وعقلنة الفعل كمظهر من مظاهر الفعل المدني الديمقراطي، وكنتاج للحريات المدنية، وحق الفرد والجماعة. التعامل هنا ينصب على فكرة تقوية العمل السياسي، وتعميم التنمية، وتعرية خطاب التعبئة المناهض للمؤسسات. التوجس أن يذوب الفرد في توجهات الجماهير التائهة، الخوف أن ينمحي الفرد في العواطف الجياشة التي تلعب على الوتر الديني وعوامل خارجية محرضة كالإعلام المأجور والقنوات المعادية لوحدة الأوطان، والحملات الإعلانية والنزعات السياسية، والأزمات الاجتماعية، وظواهر عالمية تتعلق بالحروب، والتدخلات الأجنبية في سيادة الأوطان وغيرها من الأسباب. فالجماهير أو الحشود الغفيرة تندفع للتنديد والتعبير، وتتخذ تصرفات معقولة، وأحيانا تتخذ سلوكات غير منطقية وغير متوقعة، بحيث تنمو العواطف الجياشة، وتطفو الغريزة، وتفرض المعتقدات والأفكار والقيم نفسها على الجماهير. وبذلك ينمحي الفرد تحت سلطة الجماهير، والأخطر أن تكون الجماهير الغفيرة موجهة من قبل الزعيم أو حفنة من الزعماء الذين يراقبون ويحركون المشاهد عن بعد أو يتم تحريكها من قل الجماعات الراديكالية. إنه عصر الجماهير، الذين يتوحدون في السمات المشتركة، كما تجمعهم العاطفة والصور الذهنية المعبرة عن كيان موحد في الرؤى والسياق، وليست الجماهير ساذجة، بل جماهير واعية بفكر يقظ لكنها تحتضن في صلبها جمهور متهور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.