الجمهور واختفاء الشخصية الواعية للفرد أبدى سيجموند فرويد اهتماما كبيرا بعلم نفس الجماعة، بنفس القدر من العناية التي أولاها لعلم نفس الفرد، أو يزيد عن ذلك، وهو ما يسمى علم نفس الجماهير أو علم النفس الاجتماعي، ولا شك أن التطرق لعلم نفس الجماهير سيكون مثار جدل واسع بين الدارسين والمهتمين بالدراسات الاجتماعية، لأن الموضوع من الأهمية بمكان، من حيث طبيعة الدارسة، لأنه ليس مستعصيا أو مثيرا تناول سيكولوجية الفرد في تقلباته غرائزه ونزواته وتطلعاته وأناه ... ولعل أول من طرق باب علم نفس الجماهير هو المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون Gustave le Bon، حين أصدر كتابه "علم نفس الجماهير"(1)، سنة 1895، فأحدث ثورة في الأوساط الجامعية، وترجم لعدد من اللغات، وصدرت منه عشرات الطبعات، وتناوله الدارسون والمحللون، من اليمين ومن اليسار، بالتحليل، وأقيمت حوله ندوات وملتقيات، وتوزعت الآراء حوله، بين مؤيد ومنتقد، وأضحت شهرة لوبون تسبق كل جديد في تلك الفترة، لأن الكتاب أثار اهتمام جميع الأوساط، سياسية واجتماعية وأكاديمية، فطفح مفهوم "عصر الجماهير"، على يد لوبون، حيث اعتبر ثوراتها موسومة بالعنف والهمجية، وحذر من وصولها لمواقع السلطة، باعتبار أن السلطة، ظلت تقودها نخبة مثقفة (يتحدث هنا عن المجتمع الأوروبي)، ثم لأن الجماهير يحركها الاندفاع العاطفي والتوجيه الديني، حيث يبقى الجوهر الديني محركا خفيا في لاوعي هذه الجماهير(2)، على مستوى المعتقد أو التبعية. والجمهور يعني اختفاء الشخصية الواعية للفرد، في لحظة معية، لتتجلى وسط الثلة أو الجماعة الموجهة نحو هدف معين أو فوضويا، تلقائيا أو بفعل تأثير جهة ما، قد تعيها الجماعة أو لا تعيها، وهذا أمر ينطلي بكثير من الخصوصية على المجتمعات المتخلفة(التخلف، بمفهومه الحضاري)، لأن جماهيرها تختلف من حيث تفشي الأمية والجهل والفقر والحرمان، فتكون مؤهلة للاندفاع والتبعية والانخراط في الفوضى والتأثير الخارجي، خاصة التأثير الديني، لهذا نجد هذه الجماهير سرعان من تغير مواقفها، إذ لا تكاد تستقر على قناعة بعينها. تضمحل الشخصية الواعية للفرد لتنصهر داخل الجماعة، وهو فعل عابر ومؤقت، سرعان ما يتبدد، لكن له خصوصية ويخضع لقانون الوحدة العقلية للجماهير (3)، ولا يعني الجمهور تواجد عدد من الأفراد في مكان واحد، بل يمكن لآلاف الأفراد تشكيل جمهور نفسي رغم تباعدهم بسبب انفعال عنيف أو حدث ذي قواسم مشتركة، فإبادة أطفال غزة أو الرسوم المسيئة للرسول محمد ... إذ يمكن لشعب بكامله أن يتحول إلى جمهور(4)، وهذا يمكن الوقوف عليه في زمننا الراهن أمام استفحال وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أنه من السهل جدا إشعال نار ثورة أو إخمادها، أو الدعوة لمقاطعة منتوج أو موقف أو مؤسسة أو شخص، بكل سهولة، وقد لا يعرف الفرد أو الجمهور من وراء دعوى الاحتجاج، بمعنى أن لا ضرورة للنزول للشارع، وهو، في جميع الأحوال، انفعال غير مؤطر، يمكن أن تستغله أي جهة للضغط وتحقيق مراميها، فالفرد عندما يتحول إلى جمهور يفكر بطريقة مختلفة. ويرى غوستاف لبون أن اللاشعور لا يؤثر فحسب فيما هو عضوي وفيزيولوجي، بل في العقل وطريقة اشتغاله، باعتبار أن اللاوعي يشكل نسبة أكبر بكثير من وعي النفس البشرية، وبالتالي فذكاء كل من عالم الرياضيات والإسكافي يقاس على مستوى الحياة اللاواعية، أي ما تعلق بالعواطف والغرائز والوجدان، من هنا، وفي حال الجمهور النفسي "يفقد فيه البشر فرادتهم الذاتية وتذوب كفاءاتهم العقلية وسط الروح الجماعية"(5)، وبالتالي يتضح قبول الفرد، وهو داخل الجماعة، بأشياء قد تبدو له تافهة وهو بمفرده، فيكون ربحه الوحيد هو كونه داخل الجماعة، ويكتسب قوة لن تتسنى له بمفرده، قوة موسومة بالاندفاع والعنف والوحشية، هذا هو حال الجمهور النفسي، حيث لا تمييز ولا تفاضل بين أفراده، هناك الجمهور الذي يفكر ويندفع في اتجاه موحد، وفق نمط جمعي لاشعوري، فيحقق الجمهور ذلك الإحساس بالتفوق والقوة بفضل العدد، لكن هذا لا ينفي عن الجمهور كونه مغفلا، لا مسؤولا، لأنه يندفع حين يفكر بعقل الجماعة، فالأشياء التي يقوم بها وسط الحشد لن يقدم عليها بمفرده، ويرى لوبون أن حالة الفرد في هذا الوضع، أي في وضع الجمهور النفسي، يشبه حال المنوم مغناطيسيا، فيسبح مستعبدا لا إرادة له، يمكن توجيهه لأي وجهة، لأن شخصيته الواعية أضحت مغمى عليها، والذي يقوم بفعل التنويم في هذا الوضع، هو القائد او الزعيم، وهو، حسب لوبون، ذلك الزعيم الدين الذي يصل عند الجمهور النفسي درجة التقديس، وهذا ما شهدته الحركات الدينية في العصور القديمة الوسطى(6)، فالعاطفة الدينية ظلت ولا تزال وازعا يتم استغلاله لتوجيه الجمهور النفسي، فلا غرابة أن الجمهور اتخذ من الحجارة آلهة عبدها ومن الظواهر الطبيعية أيضا معبودا له، ومن بني البشر كذلك معبودا، ليس بوضع الإله، ولكن يتخذ منه قبلة يتبع توجيهها ويخشاها ولا يتردد في تنفيذ أوامرها ... الهوامش Gustave Le Bon, Psychologie des foules (1895). Edition publiée par Felix Alcan, 1905 سيغموند فرويد، علم نفس الجماهير وتحليل الأنا، ترجمة جورج طرابشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط. 1، 2006. (يستشهد المترجم في مقدمة الكتاب بأقوال غوستاف لوبون ونظريته عن علم نفس الجماهير) نفسه، ص. 10 نفسه، ص. 10 نفسه، ص. 12 نفسه، ص. 13