يقع كل بحث يجري في إطار هذا العلم بين علمين نظريين أساسيين هما علم النفس وعلم الاجتماع، ولكنه بموضوعه ومفاهيمه مختلف عنهما كما هما في صيغتهما العامة. يوجد علم النفس الجماعي أيضا في محاذاة فرع علمي آخر هو علم النفس الاجتماعي، وهو الذي ينظر إلى الحياة النفسية للفرد في ضوء علاقتها بالشروط المجتمعية. وهذا بحث أوسع من الموضوع الذي يتناوله علم النفس الجماعي، الذي يبحث في علاقة الحياة النفسية للفرد بالجماعة التي تتميز بكونها خاصة في مقابل الظواهر المجتمعية العامة، كما تتميز بكونها مؤقتة في مقابل الظواهر المجتمعية الدائمة. لعلم النفس الجماعي، كما هو الشأن بالنسبة للعلوم الأخرى، رواده الذين وضعوا أسسه، وعينوا خصائص الظواهر التي يدرسها وما تتميز به عن ظواهر أخرى، كما وضعوا مناهجه النوعية وفرضياته الخاصة. افتتح الفرنسي غوستاف لوبون GUSTAVE LE BONفي نهاية القرن التاسع عشر هذا الفرع العلمي الجديد بكتابه الذي يحمل عنوانه اسم هذا العلم: علم نفس الجموع، وهو الكتاب الذي أعيد طبعه مرات عديدة منذ صدوره.(1) يوجه هذان المفهومان النظر إلى سلوكات الفرد داخل الجماعة وإلى اختلافاتها عن سلوك هذا الفرد نفسه منعزلا. فالجماعة ذات مستقلة نسبيا عن مجموع الأفراد الذين تتكون منهم. نلاحظ هذا السلوك النفسي الجماعي في الحالات التي يوجد فيها الفرد داخل الجماعة ضمن فعالية إنسانية ما. نشاهد في المباريات الرياضية أحيانا انخراط الأفراد في نوع من العنف الجماعي الذي لو كان الكثيرون من المنخرطين فيه معزولين لما قاموا به. وهذا معناه أن وجود الفرد داخل جماعة بينها تضامن، مقلما هو حالة أنصار فريق رياضي، قد يكون مشجعا على أعمال العنف. سواء كان الأمر على الصعيد الوجداني أو على الصعيد العقلي، فإن الفرد يكون مختلفا عن ذاته عندما يجد نفسه وسط جماعة.ولذلك اهتم التحليل النفسي بسلوك الفرد وهو في جماعة نظرا لكشف هذا السلوك عن كثير من المكونات النفسية التي يسمح السلوك الجماعي بإظهارها، أو تجد فيه تلك المكونات مجالا ملائما للتعبير عن وجودها.وقد قام المحلل النفسي فرويد بدراسة خصائص السلوك الجمعي، مناقشا في نفس الوقت آراء بعض علماء النفس والاجتماع، في كتابه:علم النفس الجمعي وتحليل الأنا.(2) يعترف فرويد في كتابه أن التحليل النفسي اهتم أساسا بالظواهر النفسية، لكنه لايمنح قيمة معرفية كبيرة للفرق بين علم النفس الذي يدرس الحياة النفسية للفرد وبين علم النفس الجماعي الذي يدرس الظواهر النفسية للفرد في إطار تفاعله مع الجماعة التي يعيش فيها. فللجماعة أثر في مظاهر السلوك الفردي، وكل الظواهر التي درسها التحليل النفسي، في نظر فرويد، هي بالضرورة ظواهر نفسية مجتمعية يمكن تحليلها في ضوء تفاعل الفرد مع محيطه المجتمعي. لذلك نجد فرويد في كتابه الآنف الذكر يدرس الظاهرة النفسية في إطار سلوك الفرد داخل الجماعة. عندما أراد فرويد أن يحدد طبيعة الظاهرة النفسية الجماعية، عاد إلى ماكتبه قبله عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه عن علم نفس الجموع، واستشهد من كتابه بفقرة دالة على اتفاقه معه مبدئيا في تعريف تلك الظاهرة وتحديد طبيعتها. ويؤكد فرويد، حين يتحدث في كتابه عن الروع الجماعية في السلوك، أن علماء النفس لاحظوا في عدد من الظاهر النفسية أن سلوك الفرد داخل الجماعة يظهر بمظاهر تختلف عن سلوكه الفردي إذا كان منعزلا عن الجماعة، وهو يتفق في ذلك مع ملاحظة لوبون في القول بأن الظاهرة النفسية الجماعية ذات خصائص لم تدرس بعد دراسة كافية لأن علم النفس الجماعي، وقت ظهور كتاب فرويد كان في بدايته كفرع جديد من علم النفس، مبرزا أن أمام هذا الفرع العلمي الجديد أسئلة عديدة للإجابة عنها لتحديد طبيعة الظاهرة النفسية الجماعية ودراسة شروط حدوثها وتطورها. ومن أهم هذه الأسئلة البحث في مظاهر التأثير التي تحدثها الظاهرة النفسية الجماعية على السلوك الفردي. يشير فرويد أيضا إلى توافقه مع لوبون حين ذهب إلى أن الظاهرة النفسية الجماعية تعود بالفرد الذي تظهر عنده إلى الخضوع للاشعور جماعي، وأنها تختلف بذلك عن الظاهرة النفسية الفردية التي يدرسها علم النفس بصفة عامة. لكن فرويد يلاحظ، مع ذلك أن مفهوم اللاشعور عنده يختلف في دلالته عن المعنى الذي أخذ به عالم النفس الفرنسي. تظهر شخصية الفرد في الجماعة خاضعة لقدرتها على الاندفاع والحركة و أكثر ميلا لكي تصدر عنه ردود الأفعال العنيفة. ويصبح الفرد وسط الجماعة قابلا للخضوع للعدوى والإيحاء مثلما هو الحال بالنسبة للتنويم. هذاهو الفرد الذي يدرس علم النفس الجماعي ظواهره النفسية. (3) موضوع دراستنا الحالية بصفة خاصة هو السلوك العنيف الذي نلاحظه عند الأفراد حين وجودهم داخل الجماعة. ونلاحظ اليوم هذه الظواهر بصفة خاصة في بعض الشروط التي يظهر فيها السلوك الجماعي مهيمنا على الفرد: في التظاهرات الاحتجاجية عامة وذات الدلالة السياسية منها بصفة خاصة، وفي أفعال الشغب التي تظهر عند الجموع في مشاهدة وتشجيع الأنشطة الرياضية، وفي الدفاع الجماعي عن الذات الجماعية. نلاحظ في جميع هذه الأفعال أن الفرد فيها يختلف عما هو عليه غي حالة عزلته عن الجماعة، بل وأكثرمن ذلك قد لايتعرف الشخص على ذاته التي تصدر عنها أفعال عنيفة. ونستفيد من هذا التحليل بعض الملاحظات المفيدة في تحليل موضوع دراستنا. - يجد الفرد نفسه، وهو في جماعة، في شرط يسمح له بإظهار بعض ميولاته وغرائزه التي ماكان إلا أن يكبتها عند وجوده خارج الجماعة. ويرى فرويد أن الصفات الجديدة ، في الظاهر، التي يظهر عليها الفرد وسط الجمع ليست سوى تمظهرات اللاشعور الذي تختزن فيه بذور كل ما هو غير مقبول مجتمعيا في النفس البشرية.فهذه المكبوتات التي تكون دائما متحفزة للظهور تجد في شرط الجماعة مناسبة لذلك. - تطغى الشخصية اللاواعية للإنسان، وهو داخل الجماعة، على شخصيته الواعية.ولا يصبح الشخص واعيا بما يفعله، ويكون في حالة قريبة من تلك التي يوجد عليها عندما يخضع للتنويم. -هناك بعض الخصائص الوجدانية التي يتميز بها الجمع والتي ينصهر بداخلها سلوك الفرد. فمن صفات الجمع الاندفاع، وسرعة الحركة، وقوة الانفعال. وتظهر هذه الخصائص على الفرد الموجود داخل جماعة والمندمج في ديناميتها. - تتميز الأفكار والحركات داخل الجماعة بصفتها القهرية بالنسبة للفرد، ويكون تميزه في الخضوع لها.قد تكون تلك الأفكار نبيلة أو مثلا عليا، ولكن مايهم في مقامنا هو صفتها القهرية.وتقل درجة التسامح داخل الجماعة - يكون الجمع ذا نزوع نحو التطرف لأن الأفكار تؤخذ فيه بدرجة اليقين المطلق، ولأن الانفعال بها ولها يصبح هو النموذج المطلوب من سلوك الفرد داخل الجماعة التي ينتمي إليها ويشاركها الاعتقاد والفعل. ويرتبط الميل إلى الغلو بعدم بناء الأفكار على أساس منطقي، وبعدم اعتماد المنطق من أجل الإقناع بها أو الاقتناع بها كذلك. - يتميز سريان الأفكار داخل الجموع بسرعة التصديق، وسرعة التأثر، وبغياب الحس النقدي أو ضعفه إلى درجة كبيرة. - ما يغلب داخل الجمع ليس هو الواقع والحقيقة، بل هو الحياة الخيالية والأوهام التي يتشبث بها أعضاء الجمع بانفعال قوي.فهي بالنسبة إليهم الحقيقة والواقع. - لاتكون تبعية الفرد قائمة بالنسبة للجمع فحسب، بل ترتبط بها تبعية لزعيم لذلك الجمع. وتستند هذه التبعية إلى مايسم الحياة داخل الجموع من غلبة الحياة الخيالية على الواقع والحقيقة. فالحياة داخل الجمع والعلاقات التي تربط أعضاءه بمن يكون رئيسهم لاتنبني على أساس عقلاني ومنطقي، ولا يسود فيها الحس النقدي. - يظهر الفرد داخل الجمع أقل مما قد نراه عليه في حالة وجوده منعزلا. فقد لاتبدو عليه وسط الجمع خصائص مستواه الثقافي ويظهر أد نى من ذلك.وبلعب طغيان الوجدان والغريزة اللذان ذكيهما الوجود في الجمع مثل هذا الهبوط في المستوى الثقافي.ويبدو الفرد في الجمع مضطربا في نشاطه الفكري. _ يكون الفرد داخل الجمع بصفة عامة قابلا للإثارة والتهييج، ومتقلبا مترددا، ومتأثرا بالأهواء والعواطف أكثر من اتباعه للمنطق في تفكيره، وذا ردود فعل سريعة وقابلية للسلوك تبعا للإيحاء، وقطعيا عنيفا في أحكامه. _ بقدر ما يمكن أن نقول إن الجموع تكون مجالا يتم فيه احتواء بعض الاضطرابات السلوكية وبعض الاستعدادات العصابية، بقدر مايمكن أيضا التأكيد بأن يذكي تلك الاستعدادات ويساعد على تطورها وعلى ظهورها بشكل جلي. لقد أوردنا هذه الخصائص التي تميز الفرد داخل الجموع لأنها في نظرنا مفيدة في فهم سلوك الفرد الذي ينتظم داخل جماعة تخطط لعنف منظم، وذلك لأنها توضح الكيفية التي يمكن أن تندرج بها الاضطرابات النفسية وبعض أنواع العصاب وأعراضه ضمن العمل الجماعي الذي يذكي وجودها ويشجع على ظهورها. العنف ، كما رأبنا ذلك في السابق لايصدر عن الفرد إلا تطبيقا لفكر جماعي وتخطيط تقوم به الجماعات المتخصصة في القيام بتلك الأفعال، والأنا الجماعي مرجعية أساسية بالنسبة للفرد في هذه الحالة، كما أن العلاقة بالأفكار والمعتقدات المتبناة لاتكون منطقية، بل وجدانية جماعية يصعب استئصالها من الذات الفردية.وبعبارة أخرى نرى أن الذوات الفردية التي تشارك في عمل عنيف تكون خاضعة لتأثير الأنا الجمعي والعقل الجمعي. تكون الذات اللاشعورية هي التي يصدر عنها السلوك، وهي ذات تكون قابلة للإيحاء لها ولتوجيهها من طرف العقل الجمعي. لايمكن أن ننكر، مع ذلك، أنه قد يكون لبعض الجماعات مثل سامية وقيم روحية تدافع عنها، وحقوق تطالب بها لأنها تمس بلدا أو مجتمعا أو ثقافة.غير أننا لأهداف إجرائية نؤجل الحديث عن مثل هذه الجماعات إلى دراسة لاحقة. إن الوقوف على الأسباب الجماعية للعنف يمكن أن يساعدنا في فهم كثير من مظاهر العنف التي نلاحظ اليوم شيوعها، ونرى ما لها من خطر على الحياة المجتمعية للناس، بل ونرى الخطر الذي يمثله انتقالها من مجتمع إلى آخر. ااهوامش 1) راجع كتاب GUSTAVE LE BON ;LA PSYCHOLOGIE DES FOULES. ، وقد صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1895، وأعيد طبعه عدة مرات ة فب المطابع الجامعية الفرنسية(P.U.F) (2راجع للمزيد من الوضوح كتاب فرويد: علم النفس الجمعي وتحليا الأنا، ترجمة جورجطرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1979 3) راجع فضلا عن كتاب فرويد السابق كتابه الآخر: قلق في الحضارة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت1977"