إن اسم "كوستاف لوبون" غير غريب على المهتم بعلم النفس أو علم الاجتماع وأثرهما على حياتنا المعاصرة. وإذا كان فكره مجهولا اليوم عند أغلبنا، فليس أفضل من هذه الظرفية الزمنية التي يعيشها العالم، لإعادة زيارة تراثه وتراث غيره من المفكرين الذين تنبؤا للمستقبل بعقولهم، فصدقوا. إن كثيرا من أسئلة الحاضر وإشكالاته تملك بعضا من أجوبتها في كتابات وأبحاث قديمة ظلت حكرا على القلة دون العامة، بدعوى التخصص حينا أو خيفة ابتذال المعرفة وشيوعها في أغلب الأحيان: فالمعرفة سلاح خطير وإن كنا في منطقتنا لم نقتنع بذلك بعد. كتب "لوبون" عام 1896 كتابا رائدا بعنوان "سيكولوجيا الجماهير". في الصفحات الأولى، نقرأ جملة أزعم أنها تلخص بحث الرجل وجدواه: "إن الجماهير (الجموع) هي ك"السفينكس" (أبو الهول) في الأساطير القديمة: لابد من إيجاد حل للإشكالات التي تطرحها نفسيتهم الجماعية، وإلا فلنستسلم ببساطة، لأنهم سيلتهموننا". أطلق "لوبون" على المستقبل اسم "عصر الجماهير"، ليس بالمعنى الحماسي والإنشائي للكلمة، بل على العكس تماما، بنبرة تحذيرية متوجسة من هذا "السفينكس" المعاصر. ما أخاف "لوبون" في "الجماهير" هي قدرتها الذاتية على خلق خصائص جديدة وعقل وسلوك جمعي، يلتهم خصائص الفرد ويمسك بناصيته. تمنح هذه الخصائص الوليدة، لكل من العاطفة والإيمان (بقضية ما مثلا)، قوة جامحة قادرة، حسب "لوبون"، على إنتاج أقصى السيناريوهات تطرفا. وليست الجموع بالضرورة مادية أو مرتبطة بتواجد مجموعة من الأفراد في مكان واحد، بل هي- أي الجموع- سواء أكانت تلقائية أو مسيرة، تمثل وحدة ذهنية توحدها صور رمزية مشتركة. شبه عالم النفس الأشهر "سيكموند فرويد"، الذي تأثر كثيرا بفكر معاصره "لوبون"، عملية تشكل الجماهير بمحاكاة نموذج القطيع أو القبيلة البدائية للإنسان القديم، والذي حكمته القوى والدوافع النفسية الداخلية لأفراده والقائمة عموما على هاجسي الخوف والبقاء. رأى "فرويد" كما رأى "لوبون" قبله، أن مفردات "عصر الجماهير" لابد أن تختلف. فأرسى مبادئ توجه جديد في العالم الغربي قائم على ضرورة التحكم في الجموع. ولقد كتب "إدوارد برنيز"، وهو أحد أكثر العقول دهاء وتيقظا في القرن العشرين ومؤسس مجالات التسويق والعلاقات العامة، كتب عام 1928 في كتابه "بربكاندا" (الدعاية الموجهة): "إن التحكم الواعي والذكي في العادات والآراء المنظمة للجماهير هو العنصر الأهم في أي نظام ديمقراطي". قام "إدوارد برنيز"، وهو ابن أخ "فرويد"، بالتسويق لنظريات عمه في أمريكا. وكان أول من وظف سيكولوجيا الجماهير في الإعلام الموجه لتسويق الأفكار والسلع، حتى إن رؤساء أمريكيين وظفوه لتسويق صورة أمريكا للعالم. لعلك تتساءل عن علاقة كل هذا بما نحن فيه اليوم؟ والحقيقة أن العلاقة كبيرة بينهما. يقول "إدوارد برنيز" في كتابه: "هذا عصر تضخم الإنتاج. عندما تعلق الأمر بالسلع، كان من الضروري تطوير تقنيات التوزيع الشامل. في هذا العصر أيضا لابد أن تكون هنالك آليات التوزيع الشامل للأفكار". رغم أن ل"البرباكندا" في ذاكرتنا المشتركة معاني تاريخية خبيثة ومرادفات بغيضة، إلا أنها، شئنا أم أبينا، حاضرة في حياتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى. وإن اختلفت أسماؤها، ففلسفة وهدف الممارسة هو نفسه لم يتغير: التأثير والتحكم. إن تقنيات التوزيع الشامل للأفكار، التي نظر لها "برنيز" في القرن الماضي، تطورت مع تطور التقنية وبنية المجتمع والظرفية التاريخية. مع ظهور التلفاز في أمريكا مثلا، لاحظ المراقبون بداية ظاهرة تعرف ب"الجمهور النشط"، حيث أصبح المشاهد يتفاعل مع ما يقدم. و نشأت جهات مستقلة تتابع نسب المشاهدة وتشير على المؤسسة المعنية بما وجب أو لم يجب تقديمه حتى تكسب هذه الأخيرة المزيد من المريدين. كلمة السر هنا كانت التحكم عن طريق الإنصات والإذعان لطلبات الجماهير، وفي تلك الفترة ظهر المصطلح الدارج "هذا ما يريده الجمهور". حتى عهد غير بعيد وبالضبط قبل سنة 2005 (وهي السنة التي شهدت نشوء مفهوم الشبكات الاجتماعية على الإنترنيت)، كانت العلاقة بين المنتج (مصدر المعلومة وموزع الفكرة) والجمهور تحكمها علاقة عمودية: من مؤسسة في اتجاه مجموعة من الأفراد. بظهور فيسبوك وغيره من الوسائط، تحول الجمهور النشط إلى جمهور منتج. وتحولت علاقة هذا المنتج الفطري الجديد بباقي الجمهور إلى علاقة أفقية بينية: من فرد إلى مجموعة من الأفراد والعكس صحيح. ليست الشبكات الاجتماعية إلا نموذجا معاصرا لآليات التوزيع الشامل للأفكار التي تحقق للفرد نشوة الممارسة الديمقراطية الافتراضية وتمكن المؤسسات (الاقتصادية، السياسية...) من التحكم عن طريق الإصغاء والإنصات لما يريده العالم من خلال أكبر قواعد البيانات في التاريخ. إلا أن الآليات التي أريد بها التحكم -ولسخرية الأشياء- كانت تحمل في هندستها ما جعلها قادرة على خلق جماهير أو جموع متحررة من قبضة الواقع، في هدوء، تؤثر وتتحكم بينيا في بعضها البعض داخل ما قد يسميه "فرويد" تقنيا بالقبيلة ويصطلح عليه داخل تلك الشبكات الاجتماعية نفسها بالمجموعات. تتوحد ذهنيا هذه المجموعات حول رمز وقضية مشتركة ساهمت هي نفسها، على الأقل نسبيا، في خلقها عن طريق الصياغة الحرة والمتحررة وإعادة الصياغة الحرة والمتحررة للمعلومة أو الفكرة ، حتى وجد العالم نفسه ذات ربيع، في عرين "السفينكس" المعاصر.