الصحافيون الشرفيون المتقاعدون يسلطون الضوء على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية    المندوبية السامية للتخطيط تتحدث عن الأسعار خلال سنة 2024    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    الكاف يؤكد قدرة المغرب على تنظيم أفضل نسخة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    إحباط محاولة تهريب 9 أطنان و800 كلغ من مخدر الشيرا وتوقيف ستة مشتبه فيهم    مراكش: توقيف 6 سيدات وشخص لتورطهم في قضية تتعلق بالفساد وإعداد وكر لممارستة    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    وهبي: مشروع قانون المسطرة الجنائية ورش إصلاحي متكامل له طابع استعجالي    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    تنفيذا للتعليمات الملكية.. تعبئة شاملة لمواجهة موجة البرد في مناطق المملكة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمملكة المغربية    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    أمريكي من أصل مغربي ينفذ هجوم طعن بإسرائيل وحماس تشيد بالعملية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«سقوط» أسطورة كونية اسمها سيجموند فرويد
كتاب «أفول صنم.. البهتان الفرويدي» يدحض الصورة التبسيطية لبعض مفاهيم التحليل النفسي
نشر في المساء يوم 30 - 05 - 2010

يحفل مسار ميشال أونفري بالوثبات.إذ ولد عام 1959 في أحضان عائلة فقيرة، وكانت والدته خادمة. تابع دراسته الابتدائية والثانوية في مدرسة للرهبان. وبانتقاله إلى الجامعة، نفض
عنه هذه التربية لاعتناق أفكار راديكالية قربته من المتعويين أو دعاة اللذة. لكن اكتشاف فلسفة نيتشه شكلت نقلة نوعية في مساره الفكري، إذ حررته بالمرة من أسر الفكر الوضعي والميتافيزيقي. عمل أستاذا لمادة الفلسفة مدة عشرين عاما قبل أن يقدم استقالته ويؤسس الجامعة الشعبية بمدينة كون (بشمال فرنسا). يربو نتاجه اليوم على 50 مؤلفا.
ميشال أونفري فيلسوف عصي عن التصنيف، وهو غالبا ما يغذي بشغف، وأحيانا بنوع من الاستفزاز، ترنحه بين المعارف والميادين. من النص الفلسفي ينتقل جوالا إلى فضاء اللوحة الفنية، النص الروائي أو قصيدة الشعر...
تستند فلسفته على اكتشاف شذرات أو نصوص لفها النسيان أو همشها عن قصد تاريخ الفكر. ويبقى فرديريك نيتشه أستاذه المرجعي، فكريا ومنهجيا، بامتياز وبلا منازع. قام مشروعه الفلسفي، باستلهام نيتشوي، على مناهضة التاريخ الرسمي للفلسفة الغربية منذ نشأتها إلى اليوم. وتجسد هذا المشروع في إصداره لما يربو على 13 جزءا قاربت وجوها مغمورة أو غير معترف بها في ميادين الفكر والمعرفة أمثال: بيار شارون، غاساندي، إمرسون، غودويين وغيرهم من الفلاسفة الذين لم يحفظ التاريخ ذكرا لمسارهم أو نتاجهم.
حارب الفكر الديني والفكر الفلسفي الرسمي، على حد سواء، نصوص هؤلاء المفكرين الذين شددوا على حرية واستقلالية الفرد بمنأى عن سلطة اللاهوت، وعن المؤسسة السياسة، الجامعية، أو الاجتماعية بالدعوة إلى المتعوية hédonisme أو مذهب الملذات.
يحفل مسار ميشال أونفري بالوثبات.إذ ولد عام 1959 في أحضان عائلة فقيرة، وكانت والدته خادمة. تابع دراسته الابتدائية والثانوية في مدرسة للرهبان. وبانتقاله إلى الجامعة، نفض عنه هذه التربية لاعتناق أفكار راديكالية قربته من المتعويين أو دعاة اللذة. لكن اكتشاف فلسفة نيتشه شكلت نقلة نوعية في مساره الفكري، إذ حررته بالمرة من أسر الفكر الوضعي والميتافيزيقي. عمل أستاذا لمادة الفلسفة مدة عشرين عاما قبل أن يقدم استقالته ويؤسس الجامعة الشعبية بمدينة كون (شمال فرنسا). يربو نتاجه اليوم على 50 مؤلفا.
أونفري فيلسوف معاكس، بل مناهض لزمانه، اشتراكي وفيلسوف ملتزم في زمن أصبح مفهوم الالتزام، لأسباب تاريخية، فاقدا لوقعه ولوزنه السياسي. وكما باشر سابقا مشروع هدم اللاهوت والفلسفة الرسمية، اختار أونفري في كتابه الأخير، الصادر منذ أسبوعين، التصدي لأسطورة كونية اسمها فرويد والفرويدية لتعرية الأكاذيب التي تستند عليها.
مرحلة التطهير الذاتي
وهو شاب، اقتنى ميشال أونفري كتبا ثلاثة لعبت لفترة دورا تثقيفيا حاسما في حياته: «ماقبل المسيح» لفريدريك نيتشه، «بيان الحزب الشيوعي» لكارل ماركس و«ثلاث دراسات في نظرية الجنس» لسيغموند فرويد. كان لهذه النصوص أثر تطهيري في نفسية الشاب الخارج توا من تربيته الدينية. مع مرور الوقت واكتساب الخبرة، بقي الفيلسوف نيتشه، من بين الثلاثة، النبراس المرجعي بامتياز. وقف أونفري عند النزوع المقيت لماركس في فرض اشتراكيته ورفض باقي أشكال الاشتراكيات الأخرى. في الفرويدية، اكتشف نفس النزوع التسلطي والسلطوي. فقارئ ماركس يمكن أن لا يكون ماركسيا، كما يمكن لقارئ سبينوزا أن لا يقاسمه أفكاره. لكن قارئ فرويد ليس له من حل إلا أن يكون فرويديا، بحكم أن فرويد جعل من التحليل النفسي «حقيقة عالمية ونهائية»، وقدم التحليل النفسي كملكية من اكتشافه الشخصي والخاص، مستنسخا الاكتشاف الذي قام به كريستوف كولومب لأمريكا. أشرف فرويد شخصيا، ومن بعده أتباعه، على تدوين هذه الحقيقة التي عملت بها المؤسسة، بل المؤسسات، من دور النشر إلى الجامعات وجمعيات التحليل النفسي. إذ للحصول على دبلوم الباكالوريا أو على الدبلومات الجامعية، لولوج مهنة التحليل النفسي، لا بد من تكرار هذه اليقينيات. وفي هذا السياق، يعرض ميشال أونفري عشرة «كليشيهات» أو ما أطلق عليه «كارت بوستال». في الفلسفة تدل هذه العبارة على صورة نحصل عليها بواسطة تبسيط مفرط. صورة بسيطة تدعي قول الحقيقة بدءا من تأطير اعتباطي باستجماعها لعالم معقد في صيغة بسيطة. يعرض علينا أونفري إذن الصور التبسيطية العشر التي سربتها الفرويدية، ليدحضها واحدة واحدة. تقول الصورة الأولى إن فرويد اكتشف لوحده اللاوعي بواسطة تحليل ذاتي شجاع وجريء. تترجم فلتات اللسان، الفعل الخاطئ، النكتة، نسيان الأسماء... وجود مرض باتولوجي يسمح للمحلل بولوج دروب النسيان. الصورة الثالثة: الحلم قابل للتأويل، بصفته عبارة مشوهة لرغبة مكبوتة، وعليه يبقى في الأخير الدرب المثالي للتمكن من اللاوعي. الصورة الرابعة: يتأتى التحليل النفسي من ملاحظات إكلينيكية هي برهان على منحاه العلمي. الصورة الخامسة: اكتشف فرويد تقنية خاصة، تسمح بواسطة العلاج والسرير بالتخلص من الأمراض الباتولوجية. الصورة السادسة: إضفاء الوعي على الكبت خلال التحليل يؤدي إلى اختفاء الأعراض. عقدة أوديب عالمية. الصورة الثامنة: إبداء المقاومة للتحليل النفسي معناه وجود عصاب لدى الشخص المقاوم. الصورة التاسعة: التحليل النفسي علم تحرري. الصورة العاشرة: يجسد فرويد ديمومة العقلانية النقدية، التي تعتبر أحد رموز فلسفة الأنوار.
هذه الكليشيهات معمول بها في جميع المرافق والمؤسسات، لدى تلامذة الثانوي، طلبة الجامعة وفي أوساط النخبة، دون الحديث عن تدخل الآلة الإيديولوجية التي تضخم الصورة بمجرد مخاطبة جمهور أوسع. غير أن هذه الكليشيهات، يشير أونفري، تنتج غلطات تحولها إلى حقائق نتيجة تكرارها الدائم. لأن أولئك الذين يمررون هذه الكليشيهات ويقفون وراءها لم يقرؤوا النصوص قراءة جيدة وبالكامل.
نتاج فرويد في ميزان المؤرخين النقديين
في هذا الكتاب، يعرض ميشال أونفري على القارئ تاريخا نيتشويا لفرويد، والفرويدية، والتحليل النفسي. فبقدر ما كان فرويد منبهرا ومتعلقا بنيتشه بقدر ما طمس ذكره، لأنه كان على يقين أنه لن يرقى إلى مصاف فكره وزخم إبداعيته. يعرف فرويد جيدا بأن نيتشه كان أول من تحدث وبطريقته الخاصة عن اللاوعي. نهل من اللاوعي النيتشوي ليجعل منه مذهبا أصبح بقدرة قادر مبتكره الأول والأخير. إن تقنية امتصاص أفكار الآخرين مع نسبتها إلى نفسه كابتكار شخصي تقنية فرويدية كلاسيكية. قرأ أونفري كل ما كتبه فرويد وكل ما كتب عنه حتى لا يدع ل«حراس المعبد» أي فرصة لاتهامه بالاختزال، خصوصا أن كل انتقاد لفرويد يرتبونه في خانة الرجعية، ومعاداة السامية! وبقراءة نقاد فرويد والتحليل النفسي، اكتشف أونفري الهستيريا التي تتمكن من حواريي فرويد وحماة تراثه. ماذا تقول أطروحة هؤلاء المؤرخين المنتقدين لفرويد والفرويدية؟ بأنه كذب بسخاء، بأنه خدم أسطورته، أتلف مراسلات، وهي ممارسة نشط فيها وهو على قيد الحياة، مع تلامذته وابنته آنا. كما أنه حاول إتلاف مراسلاته مع المحلل النفساني فليس، التي نتعرف فيها على شخص اعتنق نظريات غريبة مثل علم الأرقام، علوم التنجيم الخ...نقحت هذه المراسلات بعد أن أفرغت من محتواها، في اتجاه يتوافق والأسطورة الفرويدية. ويمكن الوقوف عند حجم الكارثة بقراءة الطبعة الأولى لأعماله الكاملة والصادرة عام 2006 في صيغة جديدة. كما أن حراس الفرويدية يفرضون فيتو على قسم كبير من الوثائق التي يبلغ عددها 2057 قطعة من الأرشيفات الفرويدية. لا يمكن للباحثين الاطلاع عليها إلا إذا أبدوا وفاءهم لفرويد ولتراثه التحليلي، بمعنى عدم انتقاد البروفيسور. لما نكتشف أيضا أن فرويد يزوّر النتائج، «يبتكر» المرضى، نقف عند مسلسل البهتان الذي وقف وراءه، بمعية حوارييه الذين لا يزالون يتوارثون هذا الطقس. كما أن نظرياته في موضوع الكوكايين كتقنية استشفائية فندت علانية من طرف المتخصصين في الموضوع. ويضيف ميشال أونفري إلى هذا التزوير والكذب حالات شهيرة لمرضى قدمهم فرويد بأنهم عولجوا نهائيا على سريره: مثل حالة Anna O أو حالة «الرجل صاحب الذئاب»، الذي عرف باسمه الحقيقي فيما بعد: سيرغاي بانكياف. توفي هذا الأخير عن سن تناهز ال 92 عاما بعد أن تابع لقرابة 70 سنة جلسات تحليلية مع فرويد. بقراءة المؤرخين النقديين نقف أيضا عند بهتان آخر سربه فرويد، والقائل بأنه وحده كان وراء الابتكار الخارق الذي يحمل اسم التحليل النفسي، فيما لا يعدو كونه مجرد قارئ ومستلهم لأطروحات العديد من المفكرين والعلماء الذين طوى معظمهم النسيان.
التحليل النفسي ليس من ابتكار فرويد. إذ عكس ما هو شائع، لم يبتكر الكلمة ولا الموضوع الذي كان سابقا له. فالمصريون القدامى، الذين كانوا يحظون بمكان مميز لدى فرويد، كانوا يتوفرون على طقوس كانت لها قدرة شفائية بالكلام والإيحاء. كما أن رصيدهم الصيدلي في هذا المجال له مرجعية علمية. كما أن علاقة الطب الإغريقي بالمسرح التراجيدي كانت وثيقة ولها قدرة تطهيرية لا تحتمل الشك. وقس على ذلك بالنسبة للمسيحية التي احتفت بالفكر السحري وقدرته على قهر الشر بواسطة كلمات علاجية واستشفائية، وكذا باقي الديانات في حضارات أخرى.
يبقى السؤال: إن كان فرويد الرجل المحتال، الفيلسوف الذي كره الفلسفة، الإنسان الذي كره مؤلفي السير لأنه أدرك بأن هذا الصنف من الكتاب سيكتب يوما التاريخ الحقيقي والمناهض لتاريخه الأسطوري... إن كانت الأوديسا التي بناها لكسب الجاه، المال، المجد... إذا كان قد فبرك صيغة سحرية لرجل عبقري اكتشف لوحده قارة عذراء اسمها اللاوعي، الخ... فما هي إذن أسرار نجاح فرويد والفرويدية والتحليل النفسي لمدة قرن من الزمان؟ الأجوبة عديدة. يقول أونفري: أدخل فرويد ولأول مرة الجنس في الفكر الغربي من بابه العريض فيما كبتته أوروبا المسيحية لمدة ألف عام، لتخلق بذلك جسدا عصابيا. وبذلك اقتفى فرويد أثر نيتشه، الذي سبق له في كتاب «أفول الأصنام» أن حمل المسيحية مسؤولية انبثاق الذنب لدى الإنسان بسبب موقفها من الجنسية كفعل مدنس. السبب الثاني لهذا النجاح هو أن فرويد أدرك باكرا بأن عليه التحكم في التحليل النفسي بصفته مؤسسة مع تنظيمه على شاكلة الكنيسة الكاثوليكية بإنشاء مجالس سرية، منتديات، دور نشر، دوريات، جمعيات منتخبة على المستوى المحلي، الأوروبي ثم العالمي. ويبقى هو على رأس قمة الهرم. السبب الثالث لهذا النجاح هو الصورة الشمولية التي تقدم بها التحليل النفسي. ما بعد الحرب، قدم التحليل نفسه على أنه البديل الديني لزمن ما بعد الدين. السبب الرابع هو أن القرن العشرين كان قرن فرويد، وفي نفس الوقت قرن غريزة الموت. ألقى ميشال أونفري في هذا الكتاب بحجرة، بل بصخرة في بركة راكدة. إذ بعد الانتهاء من قراءة الكتاب، يتقدم فرويد أمام القارئ عاريا من سحر أساطيره، خرافاته وهراء تعاويذه. الشيء الذي يفسر ردود الفعل المتشنجة، بل العنيفة لأتباع فرويد وحراس ضريحه تجاه هذه الدراسة.
أسرار نجاح الفرويدية لمدة قرن من الزمان
كان أول المستعملين لكلمة تحليل نفسي هو الطبيب النمساوي جوزيف بروير، الذي استلهم نتائج أشغال الطبيب الفرنسي بيار جاني. لكن فرويد ما لبث أن قرصن الكلمة لينسبها إليه. ولاستملاك هذه الغنيمة، بسط شبكة من الأتباع والأوفياء لتمرير الصيغة الارثوذوكسية مع تطهير وطرد كل من دعا إلى تعددية المدارس والمناهج. وليس طرد كارل غوستاف يونغ وأدلر وهربرت ماركيوز إلا بداية لمسلسل كرسه أتباع فرويد فيما بعد، والذي دفع بالبعض إلى الانتحار. فتحت هذه الأسماء نافذة على ما هو سياسي، اقتصادي واجتماعي، مبينة أن الفرد محصلة تاريخه الشخصي، لكنه أيضا ابن زمانه. وحسب ميشال أونفري، لن يعثر القارئ ضمن 6000 صفحة، التي تؤلف النتاج الفرويدي عن نقد للرأسمالية، الفاشية أو للنظام النازي، فيما هاجم عدة مرات الاشتراكية، الشيوعية والبلشفية. في عام 1922 لما تبوأ موسوليني السلطة، ثم في سنة 1939، تاريخ وفاته، نشر فرويد أزيد من 1000 صفحة لا تتضمن أي تحليل نقدي للأنظمة الفاشية الأوروبية. من 1933، تاريخ وصول هتلر إلى الحكم إلى وفاته بعد ست سنوات من السلطة، لم يأت فرويد على أي ذكر لهتلر. لم يدرك فرويد حقيقة اسمها العالم الخارجي. كما أن علاقته بالتاريخ علاقة نكران، اللهم إذا تعلق الأمر بتاريخه الشخصي. مما دفعه إلى عدم الاهتمام بالأحداث التي هزت النمسا عام 1934 على إثر المظاهرة التي نظمها العمال، والتي أخمدت بحصيلة ناهزت 2000 قتيل و5000 جريح. لم يتجرأ فرويد، ولو بكلمة في هذه الأحداث التي شهدت صعود الفاشية على يد المستشار دولفيس. في سجل الصمت المتواطئ لفرويد، يعرض ميشال أونفري، لأول مرة، صفحة سوداء من تاريخه الشخصي: إعجابه وتقديره لبينيتو موسوليني. عام 1920، درس إدواردو فايس الطب في فييينا قبل أن يصبح أخصائيا نفسانيا بإيطاليا، وفي عام 1933 لم يفلح في علاج فتاة بسبب المقاومة التي عارضت بها طريقته، فاتصل بفرويد ليعرض عليه فحص الفتاة، التي وصلت إلى فيينا صحبة والدها. من غرائب الصدف أن والد الفتاة كان صديقا لموسوليني. طلب هذا الأخير من فرويد إهداءه كتابا موقعا بخطه كهدية يقدمها ل«الزعيم موسوليني». في الكلمة التي كتبها فرويد نقرأ: «إلى بينيتو موسوليني، مع تحية احترام لرجل مسن، يتعرف في شخص الحاكم على بطل للثقافة. فيينا في 26 من أبريل 1933». لاحقا وعلى يد أرنست جونز، كاتب سيرة فرويد، تم تزوير هذا التوقيع. بل الأخطر من ذلك، تم تمرير الفكرة القائلة بأن «نتاج فرويد مناهض في عمقه للفاشية»! عام 1937، في عز المد الفاشي، أحس فرويد بأن خناق الفاشية بدأ يحكم على اليهود وبأنه وبالرغم من شهرته ليس بمنأى عن الأخطار. وعليه طالب والد الفتاة بالتدخل لدى موسوليني لحمايته، لكن هذا الأخير لم يكترث بطلبه، فوجد فرويد نفسه أعزل أمام تحرشات الفاشيات الأوروبية وأمام مغادرة المحللين النفسانيين والمثقفين عموما للنمسا. كان همه الوحيد هو إنقاذ التحليل النفسي ولو بالتواطؤ مع النظام النازي. لعب فرويد دور الوسيط المسالم الخانع بين ماكس إيتنغون المشرف على معهد برلين للتحليل النفسي وفيليكس بوهم، المبعوث النازي. اتفق الثلاثة وبموافقة آنا، ابنة فرويد، على طرد وليام رايخ، الذي أعابوا عليه مواقفه الشيوعية المناهضة للنازية! غير أن استراتيجية التحالف التي دافع عنها فرويد لم تأت أكلها، الشيء الذي دفعه أخيرا إلى طريق المنفى في اتجاه انجلترا، لكن بعد أن فقد ريشه الرمزي. لكن المؤسسة محكمة الدواليب تكلفت بتشطيب وكبت هذه المواقف والتصرفات للحفاظ على أسطورة الأب المثالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.