الحكومة تصادق على مشروع قانون جديد لتنظيم مهنة المفوض القضائي    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بتحديد نظام البذلة الرسمية لموظفي إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة    بايتاس يلوم الجفاف على عدم تحقيق نسبة نمو كبيرة للاقتصاد المغربي    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب    الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا        أخبار الساحة    الاتحاد الدولي لكرة القدم يحذر اسبانيا من احتمال سحب تنظيم كأس العالم 2030    بناء مستودع جديد للأموات في الناظور بمليار و 200 مليون    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    مذكرات توقف 3 أشخاص بالقصر الكبير    مطالب للحكومة بخطة شاملة لإنقاذ قطاع تدبير المعلومات والبيانات    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    تداولات خضراء في بورصة الدار البيضاء    وليد الركراكي يعلن لائحة المنتخب الوطني للتوقف الدولي لشهر أكتوبر وزياش ودياز أبرز الغائبين    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    غارات ليلية عنيفة بطائرات حربية في أقرب ضربة لوسط بيروت منذ حملة القصف    إصابة 23 تلميذا في انقلاب حافلة للنقل المدرسي ضواحي آسفي    تطوير طائرات مسيرة مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لاكتشاف عيوب عمليات البناء    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    كم يبلغ سعر الاورو والدولار هذا اليوم؟ .. بنك المغرب يحدد    والدة "أنور" تدلي بتصريحات مثيرة بعد تأجيل استئنافية طنجة النظر في القضية    من بينها "العدل والإحسان".. هيئات مغربية تواصل الحشد للمشاركة في المسيرة الوطنية تخليدا للذكرى الأولى ل"طوفان الأقصى"    سفير إسرائيل بالأمم المتحدة:الرد على هجمات إيران سيكون قريبا    توقيع اتفاقية لدعم القدرات الرقمية للمؤسسات التعليمية بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة    وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل        إيقاف بن عطية 6 مباريات بسبب انتقادات حادة لحكم مباراة مارسيليا وليون    ارتفاع أسعار النفط في ظل تصاعد مخاوف جيوسياسية        مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    الرئيس الإيراني: "إذا ردت إسرائيل سيكون ردنا أقسى وأشد"    كيوسك الخميس | ودائع المغاربة لدى الأبناك تتجاوز ألفا و202 مليار درهم    إطلاق مركز للعلاج الجيني في شيفيلد برئاسة أستاذ مغربي ببريطانيا    النظام الجزائري يستغل التظاهرات الرياضية الدولية لتصريف معاداة المغرب        سجناء يتدربون على المعلوميات بخريبكة    مقتل صهر حسن نصر الله في قصف دمشق    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا من "سيدي بوزيد"... المدينة التي أطلقت شرارة الثورات العربية
نشر في لكم يوم 25 - 03 - 2011

عدت إلى تونس لأول مرة بعد الثورة، وبين جوانحي حنين ثلاثة عقود إلى مسقط الرأس في سيدي بوزيد التي أضحت عنوانا لثورة الكرامة التي دوَّت أصداؤها إلى الصين. منذ لحظة وصولي إلى مطار تونس قرطاج شعرت أن البلد كله أصبح سيدي بوزيد
في مقهى سيدي شعبان بسيدي بوسعيد أشهر المقاهي التونسية، احتسيت كأس شاي بنكهة البندق على الطريقة المألوفة هنا في ضاحية تونس الشمالية، التي تعتبر أشهر عنوان لزوار تونس من السياح الأجانب أو أبنائها العائدين من الخارج.
حلقت بي ذاكرتي إلى أكثر من 30 عاما مضت، عندما جئت إلى هذه الديار منتشيا بحصولي على شهادة الباكالوريا(الثانوية العامة) وانتقالي للدراسة في كلية العلوم بجامعة تونس، وكانت أول مرة أزور فيها سيدي بوسعيد، وبدت لي في تلك اللحظة ، كما هي الآن تماما، قطعة من الجمال تتماهى ألوان بناياتها ذات الطراز الأندلسي بأفق المشهد الممتد مع شاطئ البحر الأبيض المتوسط. لم تتغير سيدي بوسعيد ولكن الزمن تغير من حولها كثيرا، كان جيلنا في بدايات الثمانينات يحلم بالدراسة في الجامعة ليعيش زمن الحرية، وإبانها لم تكن الجامعة تتسع لأحلامنا بتغيير كل شيء حتى الزعيم الحبيب بورقيبة لم تشفع له قيادته تحرير البلد من الاستعمار الفرنسي وتشييد الدولة الحديثة.
واليوم بعد ثورة شباب الفيسبوك، تتقاطع هنا في مقهى سيدي شعبان أحاديث رواده عن استمرار معاناة خريجي الجامعة مع البطالة، بعد الثورة، وفضائح الفساد التي ارتكبها أفراد أسرة الطرابلسي أصهار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكيف طالت هذا المقهى العريق المصنّف من قبل اليونسكو كتراث ثقافي عالمي.
مقهى سيدي شعبان
لا أنسى خيبة أملي في أول زيارة لمعالم سيدي بوسعيد، يومها عندما فوجئت مع أصدقائي بدورية شرطة تستوقفنا وتسألنا عن هوياتنا، فسارع أحد أصدقائي ليقول لي قل لهم إنك نسيت بطاقة هويتك في البيت وأنك من "سيدي بو"، لم أفهم مغزى كلامه ولكنه لقي تفهم الشرطي عندما أجبته بتلك العبارة، التي لم تكن تعني سوى اختصار لإسم بلدة سيدي بوسعيد، وهي في قاموس رجال الشرطة منطقة ميسورة وشبابها ليسوا من المشاغبين أو العاطلين عن العمل أو المطلوبين للخدمة العسكرية الواجبة على كل شاب تونسي.
بقيت عبارة"سيدي بو" التي تتقاطع مع القسم الأول من اسم سيدي بوزيد، ترن في خيالي على مر السنوات. فأنا الشاب القروي الوافد من عروش"بلاد الهمامة" المعروفين بأنفتهم وافتخارهم بدورهم في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، أجد نفسي مضطرا لإخفاء هويتي، موقف لو علم به أهل بلدتنا الرقاب(في سيدي بوزيد) لطلبوا مني العودة للديار حتى ولو كلفني ذلك الانقطاع عن الدراسة.
وبعد رحيل الرئيس بورقيبة، من السلطة بعد إزاحته بمقتضى ما يعرفه التونسيون ب"الانقلاب الطبي" الذي قام به زين العابدين بن علي مبررا تنحيته بشيخوخته، تعمقت الفجوة بين سيدي بوسعيد التي أضحت عنوانا تجاريا للسياحة التونسية وسيدي بوزيد التي لا يسمع عنها السياح الوافدون للبلد أي شيء. فبدورهم كان زوار موقع الغوغل عندما انفجرت الثورة من سيدي بوزيد يخلطون بينها وبين سيدي بوسعيد، اذ كانت صورة البلدة السياحية الساحرة تطفو في المقدمة أمام زائر أشهر موقع بحث انترنت في العالم، لكن مشهد سيدي بوسعيد الواقعة على ساحل البحر كان يكشف المفارقة مع موقع سيدي بوزيد المغمورة في أعماق خريطة تونس بعيدا عن البحر. وسرعان ما تنبه موقع الغوغل إلى ذلك الخطأ الذي كان يثير في الأيام الأولى للثورة لدي الشعور بالمرارة.
زمن سيدي بوزيد
غادرت البلاد في منتصف ثمانينات القرن الماضي بحثا عن فرص الدراسة في تخصص يلائم أحلامي في التخرج كمحام "لأدافع عن أسرتي وعشيرتي" من مظالم الزمن، واحتضنني المغرب وبعد تخرجي من كلية الحقوق والمدرسة الوطنية للإدارة بالرباط، سارت بي دروب الحياة إلى مهنة المتاعب مراسلا في منطقة المغرب العربي، وقادتني بعد عشرين عاما إلى مدينة الأضواء دبي وصولا إلى ألمانيا.
اليوم، تغير زمن سيدي بوزيد كثيرا، في تونس العاصمة يكفي أن تقول بأنك منحدر منها حتى تغمرك باقات الثناء والإشادة بدءا بقصة محمد البوعزيزي حتى آخر شهداء بلدة الرقاب الذين قضوا في آخر ملحمة خاضوها ضد قناصة الجنرال علي السرياطي اليد اليمنى للرئيس المخلوع.
وفي العاصمة تونس، تستنشق نسمات الياسمين والحرية منذ أن تطأ قدماك أرض الوطن، استقبلتني في مصلحة الجوازات بمطار تونس قرطاج شرطية شابة بابتسامة عريضة وتصفحت جواز السفر وراحت تسألني عن تفاصيل عنوان إقامتي في ألمانيا، ثم قالت "ستزور مسقط رأسك في سيدي بوزيد طبعا"، أجبتها واثقا: أجل، أجل.. دون أن يخامرني أي هاجس أمني من سؤالها.
انطلقت في باحة المطار وكانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل، وبدا لي المطار خاليا من المسافرين، وعند خروجي من بهوه لفحني نسيم منعش وكان القمر ساطعا يبشر بغد ربيعي مشمس. لكن الليل هنا ليس "آمنا تماما" قال لي سائق التاكسي، قبل أن ينطلق بي إلى مقصدي وهو يريد الاطمئنان إلى أنه سيقلني إلى وسط العاصمة، وليس إلى إحدى الأحياء الشعبية أو النائية، "هناك ما زال ليل تلك الأحياء غير آمن تماما"، وقال السائق بلكنة فرنسية قد يعترض سبيلك "براكاج" (أي هجوم بهدف السرقة أو الإعتداء)، سألته ومن يكون وراءه، أجاب بعبارات
غير واثقة قد يكونون "الميليشيات"، ويعني بها التونسيون عصابات مسلحة تنتسب إلى حزب الرئيس المخلوع، وربما هم عصابات مجرمين يستغلون بقايا أجواء الفوضى بعد الثورة. وأضاف سائق التاكسي "الخبزة(لقمة العيش) هي ما يدفعنا" لتجشم الصعاب، وأضاف "نحن نعاني بسبب الظروف الأمنية الحذرة وتراجع أعداد زبنائنا من السياح أو حتى السكان المحليين الذين لا يفضلون السهر والتنقل ليلا".
شارع الحرية
نهار العاصمة تونس، بدا لي منذ الصباح مليئا بالحركة، حركة السير في قلب المدينة مختنقة وتتحول إلى فوضى أحيانا ونادرا ما تلاحظ شرطيا، لكن الناس أكثر أريحية ومتسامحون مع بعضهم وقلما تصادفك مظاهر النرفزة المألوفة لدى سائقي السيارات في شوارع العاصمة. في شارع الحرية، حيث يوجد المقر القديم للإذاعة والتلفزيون، الحواجز مضاعفة وعربات الجيش تحرس المكان، وأمام المحلات التجارية الفاخرة يقف اصحابها متذمرون من ازدحام الباعة المتجولين على أرصفة الشارع وأصواتهم المبحوحة تملأ المكان بعروض منتوجاتهم المتنوعة بين المحلية والوافدة من تركيا أو من الصين.
دخلت إلى محل حلاقة، أو الحجام كما يسميه أهل البلد، ومعه انسابت الأحاديث دون حدود، وقد أخبرني هشام الحلاق أن هؤلاء الباعة المتجولين جلهم وافدون من سيدي بوزيد، هم من سكان أحياء فقيرة في العاصمة أو جاؤوا إليها حديثا بعد الثورة بحثا عن فرص حياة أفضل. وقد رخصت الحكومة الإنتقالية لبعضهم بأن يفترشوا أرصفة الشوارع لبيع منتوجاتهم، "كحل مؤقت" للبطالة التي يعانون منها، وضمنهم شبان حائزون على شهادات جامعية. ولكن قريبي الشاب، نزيه، المنحدر من سيدي بوزيد والذي يسكن مع أسرته في حي حمام الشط بالعاصمة، فلا يزال ينتظر "نصيبه من سوق العمل المتمنّع" عليه منذ ست سنوات بعد تخرجه من الجامعة وحصوله على باكالوريوس في تخصص سياحة.
سألت قريبي نزيه هل تغيرت الأمور وبات حظه في العمل أفضل، فأجاب بنبرة غاضبة "حقي في العمل سرق مني منذ سنوات" لسببين، أولهما: الفساد، فمن أجل اجتياز المباراة الخاصة بالحصول على منصب عمل، يتعين عليك أن تدفع ما بين خمسة إلى عشرة آلاف دينار تونسي(الدينار التونسي يعادل دولار أميركي). أما السبب الثاني، فربما كان حاجزا أمنيا ، يوضح نزيه، مشيرا إلى وجود لوائح تضم عشرات الآلاف من الأشخاص ضمن بيانات جهاز الأمن السياسي ممن يصنفون كأفراد عائلات معارضين من أطياف سياسية مختلفة، ويتعين حرمانهم من فرص العمل في مؤسسات القطاعين العام والخاص، كوسيلة عقابية وكآلية ضغط اجتماعي مستمر على أسر المعارضين. وليس نزيه سوى ابن شقيقي الأكبر، وهو يخامره الشك بأنه ضحية قرابته من صحافي كانت أجهزة الأمن تضعه في خانة المعارضين لنظام رئيسها المخلوع.
والآن بعد شهرين من الثورة، يحدو نزيه تفاؤل حذر، وهو يشعر بأن الطريق لا تبدو سالكة تماما نحو حصوله على منصب عمل، فعليه خوض "نضال يومي" عبر رفع شكاوى وتظلمات للإدارة لإثبات الحيف الذي لحق به طيلة سنوات، كما ينصحه بذلك جاره الحقوقي عبد الوهاب الهاني، العائد لتوه من المنفى. لكن عليه أيضا خوض غمار منافسة شرسة مع عشرات بل مئات الآلاف من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل. وأمامه تحد آخر، وهو حالة الكساد في قطاع السياحة بسبب استمرار بعض مظاهر عدم الاستقرار الأمني بعد الثورة، في بلد تشكل السياحة فيه موردا أساسيا للاقتصاد ويوظف في الظروف العادية زهاء نصف مليون شخص.
عندما تسأل أهل سيدي بوزيد عن أغلى ما لديهم، يقولون: الرصيد الرمزي للمنطقة، وهم يحيلونك إلى تاريخهم وأمجاد الأجداد ونخوتهم، وهو الجواب الذي يلخص به شباب المنطقة الآن عندما تسألهم عن قصة محمد البوعزيزي، فقد انتفض الشاب دفاعا عن كرامته. في الشارع الرئيسي بمدينة سيدي بوزيد، بدا لي المشهد جديدا تماما، نصب مخروطي الشكل، ذهبي اللون، وعليه علقت صورة البوعزيزي يبدو شامخا ومبتسما وحوله علقت صور رفاقه الذين قضوا برصاص الشرطة.
في حضرة البوعزيزي
أطلق على الميدان اسم البوعزيزي، الذي اصبح يدل على أكبر ثورة في تاريخ بلاده، وبجانب النصب، إلتقيت بفيصل ناجي، وحدثني عن قصة شقيقه الأصغر حسين(23 سنة) الذي كان أول من سقط برصاص الشرطة، وينتمي حسين ناجي ومحمد البوعزيزي إلى حي النور الفقير في مدينة سيدي بوزيد، يضيف فيصل، موضحا ظروف البؤس الاجتماعي الذي تعيشه أسرتاهما قبل وبعد الثورة.
تبدو الجدران المحيطة بساحة البوعزيزي كلوحة تخلد شعارات الثورة ولحظاتها القوية، ولكن ايضا رسالتها، التي يقول فيصل انها "لم تتحقق بعد"، وهو يلخصها في نقطتين: استعادة المواطن لكرامته وتوفير فرص حياة أفضل. وهو يقول "عندما خرجنا متظاهرين في الشارع، كان من أجل الحصول على فرص العمل أو على الأقل منحنا جوازات سفر كي نغادر البلد، لكن قوات الأمن ردت علينا بإطلاق الرصاص فسقط منا شهداء، فأصبحت الانتفاضة ثورة". وينضم فتحي(40 عاما) إلى الحديث قائلا إن أبناء منطقة سيدي بوزيد لا يطلبون سوى انصافهم بعد تهميش وإهمال لمنطقتهم دام عقودا من الزمن، وأضاف فتحي "حتى السياح الذين كانوا يقصدون بعض مناطق جنوب البلاد، كانوا ينصحون بعدم التوقف في المدينة".
يعمل فتحي في نهاية الأسبوع نادلا بمطعم أحد أفراد العائلة، لتحسين دخله المتواضع من عمله الرئيسي كموظف في المعهد الثانوي بسيدي بوزيد، وما يزال المعهد كما تركته قبل ثلاثين عاما، بنايته بالأزرق والأبيض، آثار شعارات الثورة تبدو على جدران المعهد، وقد بدت لي رفعت إلى أعلى "لتشديد المراقبة الأمنية عليه"، كما يقول فتحي الذي يشبهها بجدران سجن.
وبالنسبة لفيصل فإن الثورة "ولدت هنا في سيدي بوزيد وقدم أبناؤها التضحيات ولن يقبلوا الآن أن تٌنسى كما حدث في الماضي" وهو يعتقد أن أفضل طريقة لتكريم روح البوعزيزي ورفاقه الشهداء هي توفير ظروف العيش الكريم لشباب المنطقة، حيث بلغ معدل بطالة خريجي الجامعات السنة الماضية 35 في المائة في سيدي بوزيد مقابل 19 في المائة كمعدل عام في مجموع البلاد، كما يؤكد الخبير الاقتصادي التونسي رضا شكوندالي.
17 دسيمبر تاريخ الثورة
في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بالمدينة توجد أهم المباني الحكومية وإلى جانبها "دار الحزب"، هكذا نسميه منذ كنا صغارا هنا في المنطقة، ويعني مقر الحزب الحاكم الذي يبدو مغلقا منذ الثورة أي قبل أن يصدر حكم قضائي بحله، وعلى واجهته كتب شعار يخلد ذكرى اضرام البوعزيزي النار في جسده يوم 17 ديسمبر/كانون الأول باعتباره "التاريخ الحقيقي لثورة الكرامة" كما يوضح فيصل، فاستطردت قائلا، "شخصيا سأكون سعيدا بذلك من أجل سيدي بوزيد وأبنائها، ولكن ايضا ستتيح لي المناسبة جمع الاحتفال بعيد ميلادي مع عيد ذكرى الثورة".
إنها" ثورة الكرامة وليس الياسمين"، يقول فيصل، مؤكدا ان شباب المنطقة سيواصلون نضالهم من أجل إسقاط ما تبقى من رموز النظام السابق، ولا يستثني منها النصب الذي علقت عليه صورة البوعزيزي، لأنه"مصمم من شعار النظام السابق :7 نوفمبر تاريخ تولي بن علي للحكم". رأي تشاطره وفاء عباسي وهي من الفتيات اللائي أبلين خلال الثورة في سيدي بوزيد، وتشارك الآن بحماس في الاعتصامات التي يخوضها شباب الثورة في ساحة القصبة أمام مقر الحكومة في العاصمة. وهي تقول إن الشباب يعدون العدة لتنظيم اعتصامات جديدة "لأن مطالب الثورة لم تتحقق بعد" وعلى رأسها إبعاد كل رموز النظام السابق ومحاسبتهم وتوفير العمل للشباب.
ويقول فيصل ووفاء إن الشبان العاطلين يمضون يومهم بين الطواف بمكاتب التشغيل في المحافظة وبين المقاهي المنتشرة في كل شبر من أنحاء المدينة، وهم ينظرون بتفاؤل حذر لوعود الحكومة الإنتقالية بالإهتمام بقضاياهم.
ملحمة الرقاب
ودعت شباب الثورة في سيدي بوزيد ولم أنس وصيتهم بأن أنقل رسالتهم لأنهم يخشون أن تٌنسى قضيتهم. ثم توجهت إلى مدينة الرقاب التابعة للمحافظة، وتقع المدينة 35 كيلومترا شرقا، وكانت الشمس تدنو نحو الغروب. هنا المدينة أقل حجما والحياة أكثر هدوءا، ويذكرني كل شيء فيها بأيام الصبا.
في مقهى العيد، ابن خالي، تجمع بعض الشبان من عائلتنا وأصدقائهم، يلعبون الورق ويدخنون النرجيلة، وعلى شاشة التلفزيون يتابعون آخر أخبار الثورة في الجارة ليبيا، ويتبادلون التعليقات على فصول المواجهة بين الثوار وقوات العقيد القذافي. ويتركز الحديث أحيانا حول الظروف البائسة التي عاد فيها بضعة مئات من شباب المنطقة الذين كانوا يعملون في ليبيا. وتخيم هذه المشكلة بظلالها على المنطقة، التي تشكل ليبيا مصدرا أساسيا للرزق فيها.
ويتوقف الحديث قليلا لاستعادة شريط أحداث الثورة، وكيف أبلى شبان البلدة في مواجهة بطش قوات الأمن الذين ظلوا يطلقون الرصاص الحي فيها دون توقف حتى بعد إعلان الرئيس المخلوع وقف اطلاق الرصاص. وقد سقط ستة شهداء جرى تخليد ذكراهم في نصب تذكاري في قلب المدينة ويتناقل الآن شباب وشيوخ المنطقة ما يقولون إنها "ملحمة"، ويفسرون شراسة أجهزة الأمن بوجود تعليمات ربما من بعض أفراد عائلة بن علي الذين كانت لديهم مشاريع زراعية في المنطقة المعروفة بخصوبة أراضيها ووفرة مواردها المائية. وينضم أحد المحامين إلى الحديث مضيفا أن التحقيقات في الفساد ستبين حقيقة الاستغلال الذي كان يمارس في حق أبناء المنطقة، حيث كانوا يستغلون كيد عاملة بأبخس الأثمان، بينما تشترى أراضي المنطقة وتقام عليها مشاريع ويوجه انتاجها للتصدير خارج البلد، دون أن تستفيد منها المنطقة.
وفي الليل، كان أفراد العائلة قد تحلقوا حول مائدة عشاء كسكس بلحم "العلوش" (الخروف كما يسميه التونسيون)، تأملت في ملامح وجه أمي، وقد بدت عليه علامات العقود الثمانية من عمرها. ثم سألتها كيف عاشت أيام الثورة، فأجابت بأنها كانت"عصيبة يا بني" موضحة "دَبَّ الخوف في أبناء البلدة، وكان شباب الحي يحرسون الديار في الليل". وأضافت قائلة "ذكرني ذلك بأيام استقلال البلد من المستعمر الفرنسي" وبدت كأنها تتنفس الصعداء "الحمد لله لقد ذهب الكابوس" ومضت تقول"لكن يا بني اعتقد ان الوقت قد حان لتأتي مع أسرتك الصغيرة لتعيش هنا إلى جانبنا يكفيك غربة!".
يعتقد شباب سيدي بوزيد أن انطلاق الثورة من سيدي بوزيد وتضامن مختلف مناطق البلاد معها، أعاد لأهل المنطقة الشعور بكرامتهم ومكانتهم في بلدهم الذي ظلوا لوقت طويل يشعرون أنهم مهمشون فيه. لكن تاريخ الثورة مازال حديثا وربما لم يتغير لحد الآن الشيء الكثير.
* عن موقع "دوتشفيله" وباتفاق معه وبإذن من الكاتب
---
تعليق الصورة: الزميل منصف السليمي أمام نصب تذكاري يخلد محمد البوعزيزي، ابن "سيدي بوزيد" الذي فجر الثورات العربية عندما أقدم على إضرام النار في جسده احتجاجا على الظلم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.