بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا من "سيدي بوزيد"... المدينة التي أطلقت شرارة الثورات العربية
نشر في لكم يوم 25 - 03 - 2011

عدت إلى تونس لأول مرة بعد الثورة، وبين جوانحي حنين ثلاثة عقود إلى مسقط الرأس في سيدي بوزيد التي أضحت عنوانا لثورة الكرامة التي دوَّت أصداؤها إلى الصين. منذ لحظة وصولي إلى مطار تونس قرطاج شعرت أن البلد كله أصبح سيدي بوزيد
في مقهى سيدي شعبان بسيدي بوسعيد أشهر المقاهي التونسية، احتسيت كأس شاي بنكهة البندق على الطريقة المألوفة هنا في ضاحية تونس الشمالية، التي تعتبر أشهر عنوان لزوار تونس من السياح الأجانب أو أبنائها العائدين من الخارج.
حلقت بي ذاكرتي إلى أكثر من 30 عاما مضت، عندما جئت إلى هذه الديار منتشيا بحصولي على شهادة الباكالوريا(الثانوية العامة) وانتقالي للدراسة في كلية العلوم بجامعة تونس، وكانت أول مرة أزور فيها سيدي بوسعيد، وبدت لي في تلك اللحظة ، كما هي الآن تماما، قطعة من الجمال تتماهى ألوان بناياتها ذات الطراز الأندلسي بأفق المشهد الممتد مع شاطئ البحر الأبيض المتوسط. لم تتغير سيدي بوسعيد ولكن الزمن تغير من حولها كثيرا، كان جيلنا في بدايات الثمانينات يحلم بالدراسة في الجامعة ليعيش زمن الحرية، وإبانها لم تكن الجامعة تتسع لأحلامنا بتغيير كل شيء حتى الزعيم الحبيب بورقيبة لم تشفع له قيادته تحرير البلد من الاستعمار الفرنسي وتشييد الدولة الحديثة.
واليوم بعد ثورة شباب الفيسبوك، تتقاطع هنا في مقهى سيدي شعبان أحاديث رواده عن استمرار معاناة خريجي الجامعة مع البطالة، بعد الثورة، وفضائح الفساد التي ارتكبها أفراد أسرة الطرابلسي أصهار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكيف طالت هذا المقهى العريق المصنّف من قبل اليونسكو كتراث ثقافي عالمي.
مقهى سيدي شعبان
لا أنسى خيبة أملي في أول زيارة لمعالم سيدي بوسعيد، يومها عندما فوجئت مع أصدقائي بدورية شرطة تستوقفنا وتسألنا عن هوياتنا، فسارع أحد أصدقائي ليقول لي قل لهم إنك نسيت بطاقة هويتك في البيت وأنك من "سيدي بو"، لم أفهم مغزى كلامه ولكنه لقي تفهم الشرطي عندما أجبته بتلك العبارة، التي لم تكن تعني سوى اختصار لإسم بلدة سيدي بوسعيد، وهي في قاموس رجال الشرطة منطقة ميسورة وشبابها ليسوا من المشاغبين أو العاطلين عن العمل أو المطلوبين للخدمة العسكرية الواجبة على كل شاب تونسي.
بقيت عبارة"سيدي بو" التي تتقاطع مع القسم الأول من اسم سيدي بوزيد، ترن في خيالي على مر السنوات. فأنا الشاب القروي الوافد من عروش"بلاد الهمامة" المعروفين بأنفتهم وافتخارهم بدورهم في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، أجد نفسي مضطرا لإخفاء هويتي، موقف لو علم به أهل بلدتنا الرقاب(في سيدي بوزيد) لطلبوا مني العودة للديار حتى ولو كلفني ذلك الانقطاع عن الدراسة.
وبعد رحيل الرئيس بورقيبة، من السلطة بعد إزاحته بمقتضى ما يعرفه التونسيون ب"الانقلاب الطبي" الذي قام به زين العابدين بن علي مبررا تنحيته بشيخوخته، تعمقت الفجوة بين سيدي بوسعيد التي أضحت عنوانا تجاريا للسياحة التونسية وسيدي بوزيد التي لا يسمع عنها السياح الوافدون للبلد أي شيء. فبدورهم كان زوار موقع الغوغل عندما انفجرت الثورة من سيدي بوزيد يخلطون بينها وبين سيدي بوسعيد، اذ كانت صورة البلدة السياحية الساحرة تطفو في المقدمة أمام زائر أشهر موقع بحث انترنت في العالم، لكن مشهد سيدي بوسعيد الواقعة على ساحل البحر كان يكشف المفارقة مع موقع سيدي بوزيد المغمورة في أعماق خريطة تونس بعيدا عن البحر. وسرعان ما تنبه موقع الغوغل إلى ذلك الخطأ الذي كان يثير في الأيام الأولى للثورة لدي الشعور بالمرارة.
زمن سيدي بوزيد
غادرت البلاد في منتصف ثمانينات القرن الماضي بحثا عن فرص الدراسة في تخصص يلائم أحلامي في التخرج كمحام "لأدافع عن أسرتي وعشيرتي" من مظالم الزمن، واحتضنني المغرب وبعد تخرجي من كلية الحقوق والمدرسة الوطنية للإدارة بالرباط، سارت بي دروب الحياة إلى مهنة المتاعب مراسلا في منطقة المغرب العربي، وقادتني بعد عشرين عاما إلى مدينة الأضواء دبي وصولا إلى ألمانيا.
اليوم، تغير زمن سيدي بوزيد كثيرا، في تونس العاصمة يكفي أن تقول بأنك منحدر منها حتى تغمرك باقات الثناء والإشادة بدءا بقصة محمد البوعزيزي حتى آخر شهداء بلدة الرقاب الذين قضوا في آخر ملحمة خاضوها ضد قناصة الجنرال علي السرياطي اليد اليمنى للرئيس المخلوع.
وفي العاصمة تونس، تستنشق نسمات الياسمين والحرية منذ أن تطأ قدماك أرض الوطن، استقبلتني في مصلحة الجوازات بمطار تونس قرطاج شرطية شابة بابتسامة عريضة وتصفحت جواز السفر وراحت تسألني عن تفاصيل عنوان إقامتي في ألمانيا، ثم قالت "ستزور مسقط رأسك في سيدي بوزيد طبعا"، أجبتها واثقا: أجل، أجل.. دون أن يخامرني أي هاجس أمني من سؤالها.
انطلقت في باحة المطار وكانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل، وبدا لي المطار خاليا من المسافرين، وعند خروجي من بهوه لفحني نسيم منعش وكان القمر ساطعا يبشر بغد ربيعي مشمس. لكن الليل هنا ليس "آمنا تماما" قال لي سائق التاكسي، قبل أن ينطلق بي إلى مقصدي وهو يريد الاطمئنان إلى أنه سيقلني إلى وسط العاصمة، وليس إلى إحدى الأحياء الشعبية أو النائية، "هناك ما زال ليل تلك الأحياء غير آمن تماما"، وقال السائق بلكنة فرنسية قد يعترض سبيلك "براكاج" (أي هجوم بهدف السرقة أو الإعتداء)، سألته ومن يكون وراءه، أجاب بعبارات
غير واثقة قد يكونون "الميليشيات"، ويعني بها التونسيون عصابات مسلحة تنتسب إلى حزب الرئيس المخلوع، وربما هم عصابات مجرمين يستغلون بقايا أجواء الفوضى بعد الثورة. وأضاف سائق التاكسي "الخبزة(لقمة العيش) هي ما يدفعنا" لتجشم الصعاب، وأضاف "نحن نعاني بسبب الظروف الأمنية الحذرة وتراجع أعداد زبنائنا من السياح أو حتى السكان المحليين الذين لا يفضلون السهر والتنقل ليلا".
شارع الحرية
نهار العاصمة تونس، بدا لي منذ الصباح مليئا بالحركة، حركة السير في قلب المدينة مختنقة وتتحول إلى فوضى أحيانا ونادرا ما تلاحظ شرطيا، لكن الناس أكثر أريحية ومتسامحون مع بعضهم وقلما تصادفك مظاهر النرفزة المألوفة لدى سائقي السيارات في شوارع العاصمة. في شارع الحرية، حيث يوجد المقر القديم للإذاعة والتلفزيون، الحواجز مضاعفة وعربات الجيش تحرس المكان، وأمام المحلات التجارية الفاخرة يقف اصحابها متذمرون من ازدحام الباعة المتجولين على أرصفة الشارع وأصواتهم المبحوحة تملأ المكان بعروض منتوجاتهم المتنوعة بين المحلية والوافدة من تركيا أو من الصين.
دخلت إلى محل حلاقة، أو الحجام كما يسميه أهل البلد، ومعه انسابت الأحاديث دون حدود، وقد أخبرني هشام الحلاق أن هؤلاء الباعة المتجولين جلهم وافدون من سيدي بوزيد، هم من سكان أحياء فقيرة في العاصمة أو جاؤوا إليها حديثا بعد الثورة بحثا عن فرص حياة أفضل. وقد رخصت الحكومة الإنتقالية لبعضهم بأن يفترشوا أرصفة الشوارع لبيع منتوجاتهم، "كحل مؤقت" للبطالة التي يعانون منها، وضمنهم شبان حائزون على شهادات جامعية. ولكن قريبي الشاب، نزيه، المنحدر من سيدي بوزيد والذي يسكن مع أسرته في حي حمام الشط بالعاصمة، فلا يزال ينتظر "نصيبه من سوق العمل المتمنّع" عليه منذ ست سنوات بعد تخرجه من الجامعة وحصوله على باكالوريوس في تخصص سياحة.
سألت قريبي نزيه هل تغيرت الأمور وبات حظه في العمل أفضل، فأجاب بنبرة غاضبة "حقي في العمل سرق مني منذ سنوات" لسببين، أولهما: الفساد، فمن أجل اجتياز المباراة الخاصة بالحصول على منصب عمل، يتعين عليك أن تدفع ما بين خمسة إلى عشرة آلاف دينار تونسي(الدينار التونسي يعادل دولار أميركي). أما السبب الثاني، فربما كان حاجزا أمنيا ، يوضح نزيه، مشيرا إلى وجود لوائح تضم عشرات الآلاف من الأشخاص ضمن بيانات جهاز الأمن السياسي ممن يصنفون كأفراد عائلات معارضين من أطياف سياسية مختلفة، ويتعين حرمانهم من فرص العمل في مؤسسات القطاعين العام والخاص، كوسيلة عقابية وكآلية ضغط اجتماعي مستمر على أسر المعارضين. وليس نزيه سوى ابن شقيقي الأكبر، وهو يخامره الشك بأنه ضحية قرابته من صحافي كانت أجهزة الأمن تضعه في خانة المعارضين لنظام رئيسها المخلوع.
والآن بعد شهرين من الثورة، يحدو نزيه تفاؤل حذر، وهو يشعر بأن الطريق لا تبدو سالكة تماما نحو حصوله على منصب عمل، فعليه خوض "نضال يومي" عبر رفع شكاوى وتظلمات للإدارة لإثبات الحيف الذي لحق به طيلة سنوات، كما ينصحه بذلك جاره الحقوقي عبد الوهاب الهاني، العائد لتوه من المنفى. لكن عليه أيضا خوض غمار منافسة شرسة مع عشرات بل مئات الآلاف من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل. وأمامه تحد آخر، وهو حالة الكساد في قطاع السياحة بسبب استمرار بعض مظاهر عدم الاستقرار الأمني بعد الثورة، في بلد تشكل السياحة فيه موردا أساسيا للاقتصاد ويوظف في الظروف العادية زهاء نصف مليون شخص.
عندما تسأل أهل سيدي بوزيد عن أغلى ما لديهم، يقولون: الرصيد الرمزي للمنطقة، وهم يحيلونك إلى تاريخهم وأمجاد الأجداد ونخوتهم، وهو الجواب الذي يلخص به شباب المنطقة الآن عندما تسألهم عن قصة محمد البوعزيزي، فقد انتفض الشاب دفاعا عن كرامته. في الشارع الرئيسي بمدينة سيدي بوزيد، بدا لي المشهد جديدا تماما، نصب مخروطي الشكل، ذهبي اللون، وعليه علقت صورة البوعزيزي يبدو شامخا ومبتسما وحوله علقت صور رفاقه الذين قضوا برصاص الشرطة.
في حضرة البوعزيزي
أطلق على الميدان اسم البوعزيزي، الذي اصبح يدل على أكبر ثورة في تاريخ بلاده، وبجانب النصب، إلتقيت بفيصل ناجي، وحدثني عن قصة شقيقه الأصغر حسين(23 سنة) الذي كان أول من سقط برصاص الشرطة، وينتمي حسين ناجي ومحمد البوعزيزي إلى حي النور الفقير في مدينة سيدي بوزيد، يضيف فيصل، موضحا ظروف البؤس الاجتماعي الذي تعيشه أسرتاهما قبل وبعد الثورة.
تبدو الجدران المحيطة بساحة البوعزيزي كلوحة تخلد شعارات الثورة ولحظاتها القوية، ولكن ايضا رسالتها، التي يقول فيصل انها "لم تتحقق بعد"، وهو يلخصها في نقطتين: استعادة المواطن لكرامته وتوفير فرص حياة أفضل. وهو يقول "عندما خرجنا متظاهرين في الشارع، كان من أجل الحصول على فرص العمل أو على الأقل منحنا جوازات سفر كي نغادر البلد، لكن قوات الأمن ردت علينا بإطلاق الرصاص فسقط منا شهداء، فأصبحت الانتفاضة ثورة". وينضم فتحي(40 عاما) إلى الحديث قائلا إن أبناء منطقة سيدي بوزيد لا يطلبون سوى انصافهم بعد تهميش وإهمال لمنطقتهم دام عقودا من الزمن، وأضاف فتحي "حتى السياح الذين كانوا يقصدون بعض مناطق جنوب البلاد، كانوا ينصحون بعدم التوقف في المدينة".
يعمل فتحي في نهاية الأسبوع نادلا بمطعم أحد أفراد العائلة، لتحسين دخله المتواضع من عمله الرئيسي كموظف في المعهد الثانوي بسيدي بوزيد، وما يزال المعهد كما تركته قبل ثلاثين عاما، بنايته بالأزرق والأبيض، آثار شعارات الثورة تبدو على جدران المعهد، وقد بدت لي رفعت إلى أعلى "لتشديد المراقبة الأمنية عليه"، كما يقول فتحي الذي يشبهها بجدران سجن.
وبالنسبة لفيصل فإن الثورة "ولدت هنا في سيدي بوزيد وقدم أبناؤها التضحيات ولن يقبلوا الآن أن تٌنسى كما حدث في الماضي" وهو يعتقد أن أفضل طريقة لتكريم روح البوعزيزي ورفاقه الشهداء هي توفير ظروف العيش الكريم لشباب المنطقة، حيث بلغ معدل بطالة خريجي الجامعات السنة الماضية 35 في المائة في سيدي بوزيد مقابل 19 في المائة كمعدل عام في مجموع البلاد، كما يؤكد الخبير الاقتصادي التونسي رضا شكوندالي.
17 دسيمبر تاريخ الثورة
في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بالمدينة توجد أهم المباني الحكومية وإلى جانبها "دار الحزب"، هكذا نسميه منذ كنا صغارا هنا في المنطقة، ويعني مقر الحزب الحاكم الذي يبدو مغلقا منذ الثورة أي قبل أن يصدر حكم قضائي بحله، وعلى واجهته كتب شعار يخلد ذكرى اضرام البوعزيزي النار في جسده يوم 17 ديسمبر/كانون الأول باعتباره "التاريخ الحقيقي لثورة الكرامة" كما يوضح فيصل، فاستطردت قائلا، "شخصيا سأكون سعيدا بذلك من أجل سيدي بوزيد وأبنائها، ولكن ايضا ستتيح لي المناسبة جمع الاحتفال بعيد ميلادي مع عيد ذكرى الثورة".
إنها" ثورة الكرامة وليس الياسمين"، يقول فيصل، مؤكدا ان شباب المنطقة سيواصلون نضالهم من أجل إسقاط ما تبقى من رموز النظام السابق، ولا يستثني منها النصب الذي علقت عليه صورة البوعزيزي، لأنه"مصمم من شعار النظام السابق :7 نوفمبر تاريخ تولي بن علي للحكم". رأي تشاطره وفاء عباسي وهي من الفتيات اللائي أبلين خلال الثورة في سيدي بوزيد، وتشارك الآن بحماس في الاعتصامات التي يخوضها شباب الثورة في ساحة القصبة أمام مقر الحكومة في العاصمة. وهي تقول إن الشباب يعدون العدة لتنظيم اعتصامات جديدة "لأن مطالب الثورة لم تتحقق بعد" وعلى رأسها إبعاد كل رموز النظام السابق ومحاسبتهم وتوفير العمل للشباب.
ويقول فيصل ووفاء إن الشبان العاطلين يمضون يومهم بين الطواف بمكاتب التشغيل في المحافظة وبين المقاهي المنتشرة في كل شبر من أنحاء المدينة، وهم ينظرون بتفاؤل حذر لوعود الحكومة الإنتقالية بالإهتمام بقضاياهم.
ملحمة الرقاب
ودعت شباب الثورة في سيدي بوزيد ولم أنس وصيتهم بأن أنقل رسالتهم لأنهم يخشون أن تٌنسى قضيتهم. ثم توجهت إلى مدينة الرقاب التابعة للمحافظة، وتقع المدينة 35 كيلومترا شرقا، وكانت الشمس تدنو نحو الغروب. هنا المدينة أقل حجما والحياة أكثر هدوءا، ويذكرني كل شيء فيها بأيام الصبا.
في مقهى العيد، ابن خالي، تجمع بعض الشبان من عائلتنا وأصدقائهم، يلعبون الورق ويدخنون النرجيلة، وعلى شاشة التلفزيون يتابعون آخر أخبار الثورة في الجارة ليبيا، ويتبادلون التعليقات على فصول المواجهة بين الثوار وقوات العقيد القذافي. ويتركز الحديث أحيانا حول الظروف البائسة التي عاد فيها بضعة مئات من شباب المنطقة الذين كانوا يعملون في ليبيا. وتخيم هذه المشكلة بظلالها على المنطقة، التي تشكل ليبيا مصدرا أساسيا للرزق فيها.
ويتوقف الحديث قليلا لاستعادة شريط أحداث الثورة، وكيف أبلى شبان البلدة في مواجهة بطش قوات الأمن الذين ظلوا يطلقون الرصاص الحي فيها دون توقف حتى بعد إعلان الرئيس المخلوع وقف اطلاق الرصاص. وقد سقط ستة شهداء جرى تخليد ذكراهم في نصب تذكاري في قلب المدينة ويتناقل الآن شباب وشيوخ المنطقة ما يقولون إنها "ملحمة"، ويفسرون شراسة أجهزة الأمن بوجود تعليمات ربما من بعض أفراد عائلة بن علي الذين كانت لديهم مشاريع زراعية في المنطقة المعروفة بخصوبة أراضيها ووفرة مواردها المائية. وينضم أحد المحامين إلى الحديث مضيفا أن التحقيقات في الفساد ستبين حقيقة الاستغلال الذي كان يمارس في حق أبناء المنطقة، حيث كانوا يستغلون كيد عاملة بأبخس الأثمان، بينما تشترى أراضي المنطقة وتقام عليها مشاريع ويوجه انتاجها للتصدير خارج البلد، دون أن تستفيد منها المنطقة.
وفي الليل، كان أفراد العائلة قد تحلقوا حول مائدة عشاء كسكس بلحم "العلوش" (الخروف كما يسميه التونسيون)، تأملت في ملامح وجه أمي، وقد بدت عليه علامات العقود الثمانية من عمرها. ثم سألتها كيف عاشت أيام الثورة، فأجابت بأنها كانت"عصيبة يا بني" موضحة "دَبَّ الخوف في أبناء البلدة، وكان شباب الحي يحرسون الديار في الليل". وأضافت قائلة "ذكرني ذلك بأيام استقلال البلد من المستعمر الفرنسي" وبدت كأنها تتنفس الصعداء "الحمد لله لقد ذهب الكابوس" ومضت تقول"لكن يا بني اعتقد ان الوقت قد حان لتأتي مع أسرتك الصغيرة لتعيش هنا إلى جانبنا يكفيك غربة!".
يعتقد شباب سيدي بوزيد أن انطلاق الثورة من سيدي بوزيد وتضامن مختلف مناطق البلاد معها، أعاد لأهل المنطقة الشعور بكرامتهم ومكانتهم في بلدهم الذي ظلوا لوقت طويل يشعرون أنهم مهمشون فيه. لكن تاريخ الثورة مازال حديثا وربما لم يتغير لحد الآن الشيء الكثير.
* عن موقع "دوتشفيله" وباتفاق معه وبإذن من الكاتب
---
تعليق الصورة: الزميل منصف السليمي أمام نصب تذكاري يخلد محمد البوعزيزي، ابن "سيدي بوزيد" الذي فجر الثورات العربية عندما أقدم على إضرام النار في جسده احتجاجا على الظلم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.