نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1500م من السبت إلى الإثنين المقبلين    "روح الأسرة" بعيدا عن "سلطوية العام" و"شكلانية القانون" و"مصلحية الاقتصاد"    مديرية الضرائب تفتح شبابيكها يومي السبت والأحد للمهتمين بتسوية وضعيتهم الجبائية من الأشخاص الذاتيين    الحكم موقوف التنفيذ لمناهضين ضد التطبيع    إياب ساخن في البطولة تبدأ أطواره وسط صراع محتدم على اللقب وتجنب الهبوط    كافي: يجب مناقشة التعديلات المقترحة على قانون مدونة الأسرة بعيدا عن التعصب لرأي فقهي    هذا نصيب إقليم الناظور من البرنامج الاستعجالي لتعزيز البنيات التحتية بجهة الشرق    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    الدحمي خطاري – القلب النابض لفريق مستقبل المرسى    مديرية الضرائب تفتح شبابيكها نهاية الأسبوع لتمكين الأشخاص الذاتيين المعنيين من التسوية الطوعية لوضعيتهم الجبائية    رأس السنة الجديدة.. أبناك المغرب تفتح أبوابها استثنائيًا في عطلة نهاية الأسبوع    غياب الطبيب النفسي المختص بمستشفى الجديدة يصل إلى قبة البرلمان    بيت الشعر ينعى الشاعر محمد عنيبة الحمري    العام الثقافي قطر – المغرب 2024 : عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    اكتشاف جثة امرأة بأحد ملاعب كأس العالم 2030 يثير الجدل    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    تعاونيات جمع وتسويق الحليب بدكالة تدق ناقوس الخطر.. أزيد من 80 ألف لتر من الحليب في اليوم معرضة للإتلاف    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصعد رفضها لمشروع قانون الإضراب    حلقة هذا الأسبوع من برنامج "ديرها غا زوينة.." تبث غدا الجمعة على الساعة العاشرة    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    صناعة الطيران: حوار مع مديرة صناعات الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    "ال‬حسنية" تتجنب الانتقالات الشتوية    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    "التجديد الطلابي" تطالب برفع قيمة المنحة وتعميمها    "الاتحاد المغربي للشغل": الخفض من عدد الإضرابات يتطلب معالجة أسباب اندلاعها وليس سن قانون تكبيلي    وكالة بيت مال القدس واصلت عملها الميداني وأنجزت البرامج والمشاريع الملتزم بها رغم الصعوبات الأمنية    تدابير للإقلاع عن التدخين .. فهم السلوك وبدائل النيكوتين    مقتل 14 شرطيا في كمين بسوريا نصبته قوات موالية للنظام السابق    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    سنة 2024 .. مبادرات متجددة للنهوض بالشأن الثقافي وتكريس الإشعاع الدولي للمملكة    الممثل هيو جرانت يصاب بنوبات هلع أثناء تصوير الأفلام    الثورة السورية والحكم العطائية..    كيوسك الخميس | مشاهير العالم يتدفقون على مراكش للاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة    الإعلام الروسي: المغرب شريك استراتيجي ومرشح قوي للانضمام لمجموعة بريكس    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    الضرورات ‬القصوى ‬تقتضي ‬تحيين ‬الاستراتيجية ‬الوطنية ‬لتدبير ‬المخاطر    الصين: أعلى هيئة تشريعية بالبلاد تعقد دورتها السنوية في 5 مارس المقبل    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    اعتقال طالب آخر بتازة على خلفية احتجاجات "النقل الحضري"    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عائد من جحيم الحرب الليبية:تهديدات القذافي وخطاب سيف الإسلام... رفعا سقف مطالب ثوار ليبيا إلى إسقاط النظام
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 17 - 03 - 2011

بعد 9 سنوات من الغربة، يعود المواطن المغربي سمحمد شملال إلى المغرب هاربا من جحيم الحرب الليبية، خالي الوفاض، مخلفا وراءه حصاد تسع سنوات من عمره في الغربة، لكن محملا بذكريات مريرة تتجسد ليلا كوابيس تقض مضجعه...
في ما يلي حكايته عن معاناته واعتقاله خلال آخر أسبوع قضاه في ليبيا...
«عدت للمغرب منذ حوالي أسبوعين ولم يداعب النوم جفني إلى اليوم... أعيش كوابيس بسبب ما تعرضت له في أيامي الأخيرة بليبيا.
غادرت المغرب منذ مارس 2002، حيث قضيت 5 سنوات و5 أشهر بتونس ثم 3 سنوات بليبيا، ذهبت شابا طائشا بدون خبرة ولا تجربة... كل شيء كونته هناك في ليبيا: صنعتي، رزقي، عملي... كل شيء ضاع هباء منتورا، حتى جوازي ووثائقي ظلت هناك» ... كان هذا ما صرح به لجريدة الاتحاد الاشتراكي مواطن مغربي عائد من جحيم الحرب الليبية، وهو سيدي محمد شملال من مواليد الدار البيضاء سنة 1974، يحكي: «كنا نعاني في ليبيا، خصوصا من الغربيين والطرابلسيين، فهم يرون أنهم أصحاب فضل علينا، وكنا نتحمل من أجل لقمة العيش ومن أجل أصدقائنا الليبيين في المنطقة الشرقية... لكن معاناتنا، بعد اندلاع الثورة، كانت أعظم وأجل»...
وعن الأحداث الليبية الأخيرة يقول: «جاءت الثورة مفاجئة! فقد كان من المتوقع أن يخرج الليبيون يوم 17 فبراير بالعاصمة طرابس في مظاهرة سلمية عادية وسيخرج القذافي معهم إلى الساحة الخضراء... فسوق الجمعة والعزيزية والغرب كله كان مع القذافي. لكن في ال 19 من فبراير انقلبت المظاهرة، حيث اندلعت أول شرارة للثورة الليبية في شرق بنغازي والبيضاء».
يضيف شملال موضحا: «في البداية، كانت المطالب عادية، لأن أهل هذه المنطقة من ليبيا يعانون من الإهمال والتهميش والإقصاء الممنهج من طرف النظام، ففي نظرهم القذافي يهتم بالطرابلسيين وبسكان الغرب، ويهمل سكان المنطقة الشرقية، رغم أن أهم منابع النفط توجد في أراضيهم، لكنه كان غير مهتم بهم. وكانوا يحسون بذلك ويعانون بسببه، فوقعت تراكمات. وكانت ثورتي تونس وليبيا ونجاحهما الساحق ما حفز الليبيين الحانقين والحاقدين على النظام، خصوصا بالجهات الشرقية»...
نجاح الثورتين المصرية والتونسية أعطى الثوار الليبيين الزخم والأمل وتكونت لديهم - وهم أبناء أعظم ثوار العالم عمر المختار - قناعة راسخة بكون الثورة هي المتنفس، بل الخلاص الوحيد لهم من هذا النظام المستبد. كما أن تحقير القذافي لمطالبهم المشروعة ونعوته إياهم وتهديداته لهم منحهم الصمود والإصرار ودفعهم دفعا إلى الرفع من سقف المطالب، فأصبح المطلب الأول والأساسي هو إسقاط النظام، خصوصا أنهم يعرفون حماقات رأس النظام وأبنائه، فهو لن يرحمهم إن استمر على رأسهم... سيطاردهم في عقر دارهم كما صرح أمام العالم: «...زنكة زنكة، بيت بيت، فردا فردا»... لتصبح المواجهة حادة بين الشعب الثائر وبين القذافي وأبنائه؛ وبالتالي يصبح من المستحيل الجمع بين الطرفين: الشعب الحر الثائر المتطلع للحرية، وأسرة القذافي المتشبثة بالسلطة والثروة والمتعطشة لسفك دماء كل الليبيين من أجل ذلك... لتتحول القضية إلى قضية حياة أو موت، نصر أو شهادة...
يقول شملال: «عندما تطورت الأمور بليبيا وخرج زمامها من يد القذافي وأبنائه، اتهم النظام الليبي الأجانب العرب، فحدثت الفاجعة بالنسبة لهؤلاء المقيمين بليبيا، حيث صب عليهم القذافي جام عضبه واتهمهم مباشرة بالتخطيط لقلب النظام. وكان خطاب ابنه سيف الإسلام أول إشارة لإعطاء الضوء الأخضر لكتائب النظام للنيل منهم... بدعوى أنهم أتوا إلى ليبيا من أجل النقود، وهم مهتاجون إليها. إذن، يمكن أن يتعاملوا مع أي كان من أجل الحصول على هذه النقود ولو بالتآمر على النظام الذي تنكروا، في نظر القذافي وأبنائه والموالين لهم، لأفضاله عليهم!...لقد كان خطاب سيف الإسلام الفتيل الذي أشعل النار وفجر الوضع في ليبيا، فطارد أبناء القذافي وكتائبهم الأجانب العرب المقيمين في ليبيا، خصوصا القادمين من شمال إفريقيا، حيث وقعت عمليات تمشيط لهم وتم اعتقال العديد من المصريين والتونسيين والمغاربة والجزائريين وتم تعذيبهم والتنكيل بهم ومحاولة نزع اعترافات منهم لتلفيق التهم إليهم وتحميلهم المسؤولية عن الأحداث التي عرفتها ليبيا والتي قام بها ثوار ليبيون أحرار. وكان نصيب التونسيين والمصريين من تنكيلات كتائب أبناء القذافي أكثر وأعظم من المغاربة والجزائريين، لأنهم حسب رجال المخابرات والكتائب أول من أشعل فتيل هذه الثورات الشعبية».
هذا المواطن المغربي العائد من جحيم الحرب الليبية، ناله من ويلات هذه الحرب نصيب، يحكي: «كنت أعمل في فندق وانزريك بالعاصمة طرابلس. وفي يوم 20 فبراير، كنت مداوما بالليل. وفي الغد على ال 8 صباحا غادرت الفندق وتوجهت رفقة صديقي التونسي اسكندر إلى سوق بطرابلس، حيث اقتنيت أغراضا لمطعمي الصغير الذي أؤجره وأعمل به لرفع مدخولي. بعد ذلك استقلينا سيارة أجرة للعودة إلى مدينة الزاوية حيث نسكن. وبعد قطع مسافة قصيرة، حوالي 10 أمتار، أوقفتنا سيارتين للكتائب بهما رجال بزي عسكري ملثمين ومدججين بالسلاح... السيارة الأولى من نوع إيفيكو بيضاء بها 4 أشخاص والثانية من نوع كاط كاط كبيرة. أنزلونا وأوقفونا وظهورنا على الحائط وطلبوا منا بطائق هويتنا. كنت أحمل معي بطاقة التعريف الوطنية و«باضج» العمل. كان هؤلاء المسلحون يوقفون كل السيارات القادمة من طرابلس والمتوجهة إلى الزاوية، ومن كان ليبيا من طرابلس يطلقون سراحه ومن كان ليبيا من الزاوية أو أجنبيا من شمال إفريقيا يلقون عليه القبض. أخذوا منا وثائق هوياتنا وجوازات سفرنا وهواتفنا ونظاراتنا وقبعاتنا، وسلبونا أيضا كرامتنا وكبرياءنا: سب وقذف وركل ورفس، ثم حملونا في سيارة إيفيكو البيضاء، حيث وجدنا على متنها أناسا آخرين معتقلين. ثم أخذونا إلى مقر لا نعرف ماهو هل هو إدارة أو مركز شرطة وجدنا في انتظارنا رجالا مسلحين بزي عسكري أنزلونا من السيارة. كانوا يدفعوننا، بل يتقاذفوننا ككرات، يرفسوننا، يركلوننا ويصفعوننا: «نَزَّلْ راسكْ لُّوطا يابهيم، ياحمار، ياخونة، ياناكرين الجميل» وكلام آخر بذيء أستحي من ذكره وأسقطونا أرضا... أمرونا بالانبطاح أرضا على بطوننا، أزالوا لنا الأحذية والأحزمة والملابس إلا الداخلية منها. كل أمر يصدرونه لنا كان يتم بالضرب والسب، أغمضوا لنا الأعين بأحزمتنا وبملابسنا وربطوا لنا الأيدي بخيوط بلاستيكية وراء ظهورنا. أدخلونا لمركز التحقيقات للتحقيق معنا، عرفنا فيما بعد أنه مركز بوسليم وهو عبارة عن معتقل. بدأت الأسئلة والاستجوابات ومايرافقها من تعذيب وإهانة. كانوا يأخذوننا إلى غرفة التحقيق مجموعات من أربعة أشخاص وكل شخص منا يحقق معه أكثر من شخص واحد. كانوا يرغموننا على الاعتراف بأشياء لم نقم بها، يسألوننا: «من معك؟ من يمولك؟ ياكلب تأكل الخبز في ليبيا وتخوننا»... كانوا يحاولون جاهدين وبشتى أنواع التعذيب إرغامنا على الاعتراف بالتواطئ مع القاعدة وجهات أجنبية للتمويه وقلب الحقيقة لكي يظهروننا في التلفزة. ومن أجل انتزاع هذا الاعتراف، ضربونا بالهراوات والسلاسل ومؤخرات الكلاشينكوفات وصعقونا بالكهرباء. اعترف اثنان تحت وطأة التعذيب، ثم احتجزونا في مكان عار ربما كان ساحة ذلك المركز وكانت الأمطار تنهمر علينا، كدنا نموت من البرد ونحن حفاة عراة والكل يضربك: هذا بمؤخرة الكلاشنكوف في الوجه، العين، الرأس القفا والجنبات. والآخر «يجمعك بنص» والثالث يصفعك للقفا والوجه وأنت لا ترى شيئا ولا تستطيع أن تتفادى الصفعات واللكمات، بل أحيانا تحول وجهك نحوها وأنت تحاول تفاديها ورأسك باتجاه الأرض... ولا بقعة لم نأكل فيها العصى. قضينا يومين لا نعرف الليل من النهار: تحقيقات وتعذيب وإهانة. وفي الساحة أيضا كانوا يسألونني، فكنت أجيب: «لا أعرف، والله لا أعرف»... فضربني أحدهم على كتفي بمؤخرة الكلاشنكوف، فسقطت على ظهري وشج رأسي وفتحت عيني فرأيته من تحت وشاحي (الكاشكول) الموضوع على عيني... لا أعرف اسمه، لكنني أعرف وجهه جيدا. كنت أظن أنه مصور يصور الأطفال فإذا هو رجل مخابرات. فاجأني ذلك. كان يرتاد مكتبا يقع في الطابق الأول فوق مطعم سليم بطرابلس. لم أكن أتوقع أن يكون مكتب المخابرات فوق ذلك المطعم ولا ذاك الرجل العادي جدا والذي يحمل دائما آلة التصوير ويركب دراجته النارية الكبيرة ويؤم الساحة الخضراء طيلة النهار ويداعب الأطفال ويصورهم في هذه الساحة رجل مخابرات!... كان يومها يلبس لباس الصاعقة ملثما بالأخضر ويحمل السلاح ويعذب الناس الأبرياء بمركز التعذيب!...
كان نصيب صديقي اسكندر من التعذيب والإهانة مضاعفا... فقد تكتل عليه العديد من الرجال للتحقيق لكونه تونسي من مواليد سيدي بوزيد بتونس، حيث اندلعت أول شرارة للثورة التونسية، وأيضا كان نصيبي لكوني أتكلم باللهجة التونسية.
سألوا اسكندر هل يعرف البوعزيزي واتهموه أنه هو من جاء بالثورة من تونس إلى ليبيا رغم أنه لا يعرف شيئا عن ذلك إلا من خلال التلفزة ولم يكن في تونس عند اندلاع الثورة ولم يشارك فيها!... لكنه عذب لانتمائه إلى سيدي بوزيد مسقط رأسه ومسقط رأس البوعزيزي... منعوا عنا الأكل والشرب والملابس والأغطية والتدفئة، بل حتى الدواء... لم ينقذوا صديقي اسكندر فمات مختنقا، لأنهم رفضوا إغاثته ومنعوا عنه دواءه الذي كان في جيب جاكيته الذي جردوه منه، رفضوا تسليمه بخاخ الربو رغم إلحاحه وتوسلاته. كانت أيدينا مربوطة وراء ظهرينا وكان يقبض على أحد أصابع يدي اليمنى بيده اليسرى ويشده وهو يصرخ سأموت، سأموت ثم يرفع سبابة يده اليمنى مرددا الشهادة وهو يلهث... قلت لأحدهم إنه سيموت، فهو مريض يعاني من ضيق في التنفس بسبب الربو ولكنه لم يبال، قال لي: «ليمت، فهو من الثوار». سقط اسكندر في حجري مغميا عليه، فجروه إلى الداخل، ثم سمعنا صيحات من هناك تقول: «واحد مات... واحد مات»! ومن يومها لم أعد أراه ولا أسمع أخباره...
كان أزيز طلقات الرصاص يمرق فوق رؤوسنا وعند أقدامنا. وكانت الخراطيش الفارغة تتطاير فتتساقط علينا فنهلع. كانوا يضربون بالرصاص فوق تحت، يمين يسار، لكي يرعبوننا. أحد رجال الكتائب وجه سلاحه نحوي وأمرني: «قل عاش القذافي»... ولشدة رعبي قلت عفويا وعلى الفور: «عاش الملك»... فكلفني ذلك صعقة كهربائية وكسورا في رجلي اليمنى! قال لي: «أنت في ليبيا ياحمار... قل عاش القذافي»، ثم وضع سلكا كهربائيا في يدي فصعقني وقام بضربي في كل أنحاء جسمي.
ثم أخذونا في اليوم الثاني بالسيارة إلى سجن عين زهرة في الواحدة بعد الزوال. دخلنا البوابة الكبيرة إلى ساحة السجن ولم ننزل من السيارة. وهناك رأينا سيارات أخرى أنزلوا منها معتقلين آخرين، ورأيت امرأة تونسية يداها مكبلتان وراء ظهرها، أجلسوها أرضا على ركبتيها وأخذوا يضربونها، ورجالا آخرين أخذوا من منازلهم ملقون أرضا منكبين على وجوههم وبطونهم، عراة وملابسهم قربهم وأيديهم مكبلة وراء ظهورهم. لكن ما حز في نفسي أكثر هو ذلك الرجل المغربي المسن الذي تجاوز الستين، والذي وجدناه قبلنا في اليوم الأول في السيارة، ضربوه هو الآخر وأهانوه ولم يحترموا شيبه ولا سنه ولا مدة ال 34 سنة التي قضاها في خدمة ليبيا.
غادرنا السجن حوالي الخامسة مساء وذهبنا إلى مكان يتجمع فيه رجال الكتائب، كانوا يستمعون لخطاب القذافي الذي هدد فيه الثوار بالمطاردة وبالإبادة «دار دارا، شارعا شارعا، بيتا بيتا، زنكة زنكة، فردا فردا». ظللنا في السيارة مزدحمين، حوالي 30 شخصا، كان رجال الكتائب يهتفون باسم القذافي ويطلقون الرصاص في الفضاء. وكانت الخراطيش تتساقط على السيارة وينتابنا الرعب. ثم أعادونا إلى المركز الأول مركز بوسليم حوالي الساعة ال 7 مساء. قضينا ثلاثة ليال وأربعة أيام على هذا الحال... يتجولون بنا من مركز لآخر ليعودوا بنا للمركز الأول للمبيت بدون أكل ولا شرب.
نحن أتينا لليبيا لنأكل الخبز لا نعرف عن الثورة شيئا، ولم نشارك فيها لا في تونس ولا في مصر ولا حتى في ليبيا... لا في بلداننا ولا غيرها... لقد عرفناها في ليبيا فقط خلال هذه الأحداث.
كنا شبابا وشيبا من 20 إلى 60 سنة، بيننا نساء أيضا. اعتقلنا واتهمنا بالمساهمة في إيقاظ الشباب الليبي وتحويل أفكاره وإفساده، وكان أكثر الإهانات من نصيب المصريين والتونسيين الذين اتهموا وعذبوا بتهمة استيراد الثورة إلى ليبيا... إذ كان رجال الكتائب يقولون لنا إن الليبيين لا يعرفون ولا يفهمون ذلك ونحن من حرضهم ودفعهم للثورة. وما يرسخ هذه الأفكار لدى رجال القذافي أن الأجانب من شمال إفريقيا عاشوا هذه الثورات في بلدانهم ويتمتعون بدرجة من الوعي والتحرر ويحتلون مراكز مهمة بليبيا، فمنهم أطباء، مهندسون، مقاولون، أساتذة وتقنيون، فليبيا تعتمد على الأجانب في كل شيء حتى في تسييير وتجنيد هذا البلد...
في اليوم الرابع، حوالي الساعة ال 6 مساء، جاء إلى مركز بوسليم، وهو عبارة عن معتقل، شخص مهم من المخابرات قدم لنا قنينات الماء من نصف ليتر، قنينة لكل شخصين واعتذر لنا وطلب منا المسامحة قائلا: «كان يجب أن نقوم بهذا التحقيق. وإياكم أن تحكوا شيئا مما وقع لكم هنا لأحد، وإذا قلتم للناس أننا ضربناكم لا تلوموا إلا أنفسكم. لا أريد أن أراكم مرة أخرى. إذا عدتم فلن تخرجوا من هنا». تركنا هواتفنا وملابسنا وأحذيتنا وأخذنا بطائقنا وأوراقنا، بينما ظلت أوراق اسكندر مبعترة في ذلك المعتقل... حينها تأكدت أنه مات رحمه الله. حاولت جمع أوراقه، فنهري أحد الملثمين. لم أجد حذائي فانتعلت زوجين مختلفين. غادرنا المكان فارين من جحيم مركز بوسليم بعد أن أعطونا الرايات وأمرونا بالمشاركة في المظاهرة المؤيدة للقذافي والهتاف «عاش القذافي» وخرجوا معنا. كانوا خلال الطريق ينسحبون الواحد تلو الآخر حتى وجدنا أنفسنا وحدنا نهتف بشعرات وبكلمات لا تعنينا. لم نستطع التخلص من الرايات، فقد خفنا أن يرانا أحد، فأخفيناها تحت ملابسنا. كان علينا أن نمر من الساحة الخضراء، حيث يحتشد مؤيدو القذافي. كان ذلك يوم أطل عليهم من أعلى سور متحف السرايا داعيا إياهم إلى الاحتفال والرقص والسهر...
لم أستطع العودة إلى بيتي بالزاوية التي اشتعلت بها الأحداث. ولحسن حظي، فصديقي المصري عبد الله، الذي كان معي في الحجز، يسكن في المدينة القديمة بطرابلس، أخذني إلى بيته، حيث ظللنا يومين الخامس والسادس مختبئين بسبب الخوف مما عشناه. الكل في المدينة القديمة كان مرعوبا حتى السكان الليبيين. كان إطلاق الرصاص يبدأ منذ الساعة 5 مساء لتخويف الناس ومنعهم من الخروج بعد الخامسة. أما الساحة الخضراء، فقد امتلأت بمؤيدي القذافي. وفي اليوم السابع، خرجنا من البيت، فتوجه صديقي إلى القنصلية المصرية، بينما توجهت أنا إلى القنصلية المغربية بحي فشلوم في طرابلس.
حدث كل هذا في طرابلس، لكن في بنغازي كان الثوار الشرقيون يقدمون كل المساعدة للأجانب ويمكنونهم من مغادرة البلاد بسلام، عكس الغربيين الذين كانوا يقومون بمطاردتهم وتعذيبهم والتنكيل بهم، بل قتلهم.
قصدت القنصلية في حالة سيئة: كدمات، جروح، حروق وكسور، لكن لم يهتم بي أحد ولم يرسلوني إلى المستشفى. في القنصلية، طلبوا مني جواز سفري وإحضار شهادة طبية وإنجاز محضر لدى الشرطة... كيف أفعل ذلك وهم قد هددونا بالقتل إن أخبرنا أحدا بما جرى لنا؟ وكيف سأجلب جواز سفري وقد بقي في بيتي بالزاوية ومليشيات وكتائب القذافي وأبنائه تسد المنافذ من وإلى طرابلس؟! لحسن حظي، التقيت نائب السفير هناك، فأدخلني عند القنصل الذي أخذ تصريحاتي حول ما جرى لي، ثم سلمني رخصة مرور ووعدني النائب بترحيلي في الغد عبر الطائرة. بت في العراء بالقرب من القنصلية مع العديد من المغاربة الذين توافدوا عليها من كل الجهات والمدن الليبية. الكل مرعوب ولا يستوعب ما يجري من أحداث وتطورات وجدوا أنفسهم فجأة وسط دوامتها رغما عنهم. وفي الغد، أي في اليوم الثامن، توجهت إلى المطار، هاتفت النائب كما طلب مني، لكنه لم يكن يرد على اتصالاتي. بت في المطار. وفي الغد، أي اليوم التاسع، اتصلت به أخبره أنني بالمطار، فأمرني بالتوجه إلى الميناء. وهناك قضيت ثلاثة أيام، أي أيام التاسع، العاشر والحادي عشر. كان الميناء يعج بالناس وكان بعض المغاربة يضعون «باضج» ربما للودادية المغربية يستأجرون مقصفا هناك قيل لنا إنه يتم فيه توزيع المعونات التي أرسلها صاحب الجلالة للمغاربة. لكننا كنا نشتري كل شيء وبأثمان مضاعفة، فقد عم الغلاء حتى النسخ، حيث أصبح نسخ صفحة ب 20 دينارا وهي أصلا ب 50 قرشا، وقنينة الماء من حجم نصف ليتر بدينارين وهي ب 25 قرشا والسندويتش الهزيل بدينار ونصف وعلبة السجائر ب 5 دينارات وهي بدينار وغيرها كثير... فقد اشتعلت الأسعار واكتوى بنارها الناس ولا خيار آخر لديهم!... مواطنون ليبيون عديدون ساعدونا وقدموا لنا الماء والعصائر والأكل بالمجان في الميناء وحتى في المطار... كانوا يساعدون كل الأجناس بدون استثناء أو تمييز. لكن القنصلية المغربية لم تقم بواجبها، فقد بتنا في الشارع والنساء في غرفة داخل الميناء. كان المنظمون مرتبكين حتى جاء السفير. كل الجاليات منظمة: البنغلاديشيون، الفلبينيون والأتراك... إلا المغاربة رغم أن عددهم أقل.
وفي اليوم الحادي عشر، ركبنا الباخرة. وفي الباخرة ارتحنا وأحسسنا أننا في بلدنا. الأطباء هناك عالجونا بالإمكانيات المتاحة لديهم. كنا غاضبين، قلقين، مرتبكين، ويائسين... فقد انقلبت حياتنا رأسا على عقب... فمنا من ترك مصانعه، عمله، منزله ورزقه. ومنا من غادر أبناؤه مدارسهم. أيضا كانت معنا على متن الباخرة امرأة نفساء من 6 أيام... سمعنا أنها توفيت، مما زاد نفسياتنا سوءا. ومع ذلك تفهم طاقم الباخرة ظروفنا وتحملوا كل تصرفاتنا وقدموا لنا خدمات كثيرة بدون كلل ولا ملل. لذلك أتقدم بفائق الشكر لكل طاقم باخرة (كوماريت س ف بركان) ولكل العاملين بها، بكل رتبهم ومستوياتهم. قضينا رفقتهم ثلاثة أيام، من الخميس إلى السبت، أي أيام الثاني والثالث والرابع عشر. وصباح يوم الأحد 2011/03/06 حوالي الساعة 6، أي في اليوم الخامس عشر، وصلنا ميناء طنجة. وهناك كان الأمر مختلفا أكثر: استقبال جيد واهتمام زائد، وأخذتني سيارة الإسعاف فور وصولي إلى المستشفى، حيث أجريت لي عدة فحوصات وأشعة أثبتت إصابتي بعدة كسور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.