السياسة تموت وقبل أن تموت تبدأ بالتخبط والارتجال في اتخاذ القرارات وتستكين للركود شيئا فشيئا الى أن تسلم روحها الذي كان ذات يوم متوهجا تجمع حولها مسانديها ومناصريها يوم كانت تتوقد حياة وحركية تستبق الزمن السياسي وتتلقف التغيير قبل أن يصير مطلبا ، السياسة تموت هي أيضا كأي كائن حي لما تصبح السياسة عاجزة عن خلق فعل سياسي ومسايرة التطور الذي تحتاجه طبيعة الحياة وصيرورتها ، فالموت حتمية طبيعية تسحق كل الكائنات ولا تنتظر ولا تتفاوض ،بل تصدر امرها بنهاية الحياة وكفى ،فالكل إذن يموت حتى السياسة تخضع لهذا القانون الطبيعي، إن لم تحتوي مكوناتها على جينات التطور والاستمرارية، وتنمية ذاتها بالتلقيح التربوي والتنويري عبر التربية السياسية لتجسد في عقول المنتمين والمنخرطين في صفوفها، مشاريع مجتمعية واقتصادية وسياسية وفكرية وبالتالي العمل على إقامة مشاتل النخب ضمن مختلف الفضاءات السياسية والنقابية والجمعوية، لتضمن استمراريتها عبر الفكر السياسي الذي زرعته عبر الكوادر الشابة التي ستأخذ المشعل يوما ما . وهذا الأمر لن يتأتى إلا إذا كانت البنية السياسة لها من المقومات التي تساهم في تنمية خصبة للفعل السياسي بقواعده وممارساته السليمة التي تعبر بالأساس على جسر الديموقراطية وعبر التربية السياسة على المواطنة والانتماء الروحي والفكري والديموقراطي للوطن … . والسياسة في كل بلدان العالم ليست بالأساس مناصب وكراسي واستيلاء عن الة الحكم بالعسكر أو عبر صناديق محشوة بأوراق تصويت مواطنين تلقوا المال لفعل ذلك الاختيار لأنهم في وضع هشاشة اجتماعية واقتصادية وجهل مركب، وأن هؤلاء أصلا هم نتاج السياسة التي صوتوا عليها، بقدر ما هي أفكار ومشاريع تجسد على الواقع الاقتصادي والاجتماعي. والموت السياسي حتمية تفرضها قوانين الطبيعة ،ولحظة الموت هي عندما ينتشر الفساد عبر البلاد وتفقد كل البنيات السياسية توازناتها عبر تفككها وتناقضها ووقوع اصطدامات بين مكوناتها وتتشتت الجهود وتتضارب لا تستقيم على نهج واضح المعالم وعلى خط يبرز مدى شفافية العمل والفعل السياسي ووسائل تنفيذه … ، هنا يمكن استصدار شهادة وفاة السياسة، والذي يمكن أن يكتب تلك الشهادة هو حامل المشروع السياسي الجديد المتكامل للسياسة السابقة والذي لا يحمل في فكره ومخططاته نفس بذرات السياسة السابقة التي سلمت مفاتيح ماكينة الحكم للنخب الجديدة التي ستحل محلها . والتغيير السياسي عبارة عن موت السياسة القائمة وحلول سياسة بديلة مكانها، والعنصر الأساسي والمحدد لتلك الوفاة أو الحياة هو المواطن الواعي ، المشارك في صنع سياسة بلاده من خلال المشاركة الفعلية عبر المساهمة والانتماء للبنيات السياسة لتفعيلها بالرأي والاقتراح والحضور الفعلي عبر العمل انطلاقا من المكان الذي يوجد فيه بالكلمة بالفعل بالتظاهر والاحتجاج ، وبكل الوسائل الشرعية التي تنظمها القوانين في العالم الديموقراطي . والأكيد أن الموت السياسي لا يأتي إلا عبر ثغرات الضعف في الجسم السياسي الذي يتكون منه النظام السياسي ككل والذي تتجمع بداخله مكونات حزبية ونقابية ونخب سياسية ومهندسين ومخططين داخل أروقة الأجهزة السياسية الحكومية والبرلمانية والقضائية والمجتمع المدني وكل التكتلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعمل على تغذية وتوجيه السياسة القائمة والتي تعمل على استمراريتها لتدوم لمدة أطول. والموت السياسي يمكن تعريفه، بلحظة عدم حركية السياسة وعدم قدرتها على إيجاد الحلول الناجعة والسريعة للقضايا التي تكون هي المسؤولة على حلها أو تقع ضمن اختصاصاتها ، والعمر السياسي لأي سياسة لا يقدر بعدد السنوات التي استمرت على مدته تلك السياسة بل هي كل الإنجازات الفعلية التي أنجزت والتي كانت وفق برنامج الحكومة التي قدمته خلال مرحلة انتخابها ، واستمرار تلك السياسة يكون عبر حصولها على الثقة من قبل ناخبيها ومكونات المجتمع وهيئاتها الحزبية والنقابية والمجتمع المدني عبر الجمعيات والفاعلة في الحقول المختلفة من المجتمع . . ومن بين مسببات الموت السياسي أيضا، هي لما تظهر الدولة أو مكوناتها السياسية والاقتصادية والفاعلين في تلك المجالات نوعا من التكلس والتقوقع حول الذات واعتبار كل الأفكار والمكونات الأخرى الفكرية والسياسية والاقتصادية مجردة من كل مصداقية ويجب أن تكون تابعة وخاضعة لها بصفة اوتوماتيكية ودون نقاش أي ان الانغلاق والغرور والإحساس بالتفوق كلها من مسببات حدوث الموت السياسي للطرف الذي يكون موضوع تلك التصرفات والنوايا والممارسات. فالبنية السياسية التي تعتقد أو تجد أسس فكرها وتنفيذها في خريطة طريق عنوانها أنها الشرعية الوحيدة في المكان والزمان الذي هي فيه، وتنفي عن باقي البنيات والمكونات السياسية الأخرى ،الشرعية في الوجود ومنحها مساحة تناسب حجمها لممارسة السياسية وفق مرجعيتها مهما كانت، اللهم ما إذا كانت تقوم على الميز العنصري أو الإقصاء الديني أو العرقي كما أن السياسة تموت وتشبع موتا لما تكون بنياتها وأسسها تقتصر على الأشخاص الطبيعيين وبل تختزل وجودها وتقدمها في فرد واحد أو مجموعة أفراد أو سلالة ، فهي بذلك تزرع أولى بذرات فنائها ، لأن السياسة لا يمكن أن تمارس خارج مكونات الشعب الذي قد تتعدد مشاربه الفكرية والعرقية واللغوية . ومن المؤكد أن الموت السياسي يكون موجودا ضمن البنية السياسية لحظة تكونها ، لأن منذ البداية كانت مبنية على عنصر يحمل مسببا من الأسباب التي تؤدي لا محالة للموت السياسي مثل اعتبار الدولة أو الحزب أو المرجعية السياسية أو الاقتصادية كاملة وشاملة ، والحال أن كل الأمور الفكرية والاقتصادية والسياسية لها محدوديتها في الزمان والمكان المحددين ، لذا وجب اعتبار ذلك وتحيين السياسة بنسب تجعلها تتجدد وتتماشى مع التغييرات التي تواكبها وإلا تقع تلك السياسة في متاهة الارتجال واتخاذ قرارات توقع نهايتها بيدها وتكون عرضة للموت ، والموت السياسي يعني فيما يعنيه أن هناك بدائل ومشاريع بديلة سياسة واقتصادية وفكرية للسياسة التي تموت والتي لم تكن تتوقع موتها لأنها لم تكن نراجع أفكارها ولم تستعمل كل الوسائل التي تقيم سياستها موضوعيا بعيدا عن التحليلات التي تمجد وتطبل لها وتنمق مسارها . . والموت السياسي يمكن تشخيصه من خلال بعض المظاهر والأفعال والقرارات التي يتخذها الفريق السياسي الحاكم، عندما يفقد اختصاصاته ويفوضها كليا أو جزئيا لجهات أو جماعات تكون مصالحها تتناقض مع المشروع المجتمعي أو الاقتصادي أو غيره وبالتالي تنقل الصلاحيات من مركز القرار الى محيطه الذي يستغل الفرصة للنيل من غريمه ويسقطه في أو منحدر ، كما أن لحظة وفاة السياسية القائمة يمكن التنبؤ بها عندما تصدر قرارا ولا تجد القناة أو الجهة التي تنفذه على أرض الواقع وهنا تسقط مكانة السلطة التي أصدرت القرار المعني في أعين المواطنين وهنا ترتسم لديهم فكرة إسقاط الحكومة التي أصبحت بدون قوة تنفيذية لقراراتها. كما أن الموت السياسي يكون على موعد مع النخب الحاكمة إن هي فقدت استقلاليتها لتفعيل أحد اختياراتها . . وهذا الأمر ينطبق أيضا على السياسة الدولية والأممية، والسياسات التي تصدر عن المنظمات المتخصصة والجهوية في مجالاتها، إن لم تكن سياسات لها من الدعامات الذهنية والمادية والأسس الإنسانية وعدم الكيل بعدة مكاييل كما هو حال بعض الدول بخصوص صراعات جهوية أو قضايا إنسانية حيث تظهر تلك السياسات تحيزها لهذا الفريق دون الأخر لأسباب غالبا ما تكون مصلحية ذاتية. فالأمم المتحدة خرجت عن ميثاقها الذي بالأساس يحمل في طياته عم جدوى هذه المنظمة في حل النزاعات الدولية والدليل على ذلك هو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي ظل يتراوح مكانه منذ 1948 الى الآن، فلا فلسطين أصبحت دولة ولا إسرائيل عرفت الأمن والسلام . . ومن كل هذا يمكن استخلاص ما يلي، هو أن العاملين في الحقل السياسي لا يضعون الموت السياسي في الحسبان ويتعاملون معه على ذلك الأساس فإنهم تماما تجهلون محدوديتها ، لأن غالبيتهم لا يمتلكون أفق استشراف المستقبل والعمل على تحيين قراراتهم وتوسيع أفق تلك السياسة وجعل البدائل تحل مكان الأحصنة التي تعبت في الساحة السياسية من خلال تجديد النخب وفسح المجال للعناصر والوجوه الجديدة التي تحمل مشاريع مختلفة عن التي سبقتها ، أي أن التداول السياسي هو الضامن الوحيد لاستمرارية السياسة بأحرف بارزة، والتداول السياسي يعني فيما يعنيه ضرورة البناء الديموقراطي كأسس للنظام السياسي القائم ،وبالتالي لما تكون ألة الحكم تنتقل من تيار أو هيئة سياسية أو مجموعة تحمل أفكارا جديدة وتمثل طبقات اجتماعية واقتصادية مكنتها للوصول للحكم عن طريق صندوق الانتخابات. . إن الموت عموما هو نهاية الوجود لشخص ما أو لجماعة ،والموت بالنسبة للسياسة هي حقبة مظلمة لحاملي المشروع السياسي الميت ، وكم هو صعب على هؤلاء أن يحضروا جنازة سياستهم وهم يحملونها على نعشها الى مثواها الأخير ، وهم الذين كم خاطبوا الجماهير بصلابة وقدرة سياستهم لحملهم الى بر الأمان ، وكم مجدوا خططهم السياسية وكم هي كثيرة هي تلك الوعود التي منحوها للجماهير بسخاء ووعدوهم بالفردوس على الأرض ، فها هي الأن جسد بلا روح ، قراراتها السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها كلها زالت عنها تلك القدرة النافذة التي كانت تتجند لها كل الإدارات والمحاكم والأجهزة المختلفة لتعتمد عليها كل المرافق العمومية وكل المواطنين لقضاء حاجاتهم ورعاية مصالحهم . لذا من الأجدى امتهان سياسة واقعية ومتأنية وليس السياسة الاندفاعية والحالمة دون وضع الأقدام على أرضية صلبة، لأن المتغيرات تجرف كل التوقعات التي يرسمها المخطط السياسي سواء في الاقتصاد أو في العلاقات الدولية أو في التركيبات والمواقف الاجتماعية وتموقع الهيئات السياسية وتغير اصطفافها وتحالفاتها تبعا للمتغيرات التي هي سمة كل شيء يتحرك ويتبدل . أخيرا من سيتأثر بموت السياسة؟ دون شك الذين كانوا يستفيدون منها والتي كانت تفتح لهم صنابير خيرات البلاد ليرتووا ملئ عطشهم بل ويهربون الخيرات كلما شعروا بقرب موت السياسة التي تغدق عليهم بكل شيء. ومن سيحمل النعش السياسي للسياسة التي لم تعد قائمة؟ انها النخبة الجديدة التي تحمل المشاريع الكبرى ولها مفاتيح حل الأزمات التي أدت الى وفاة السياسة السابقة. وحتى لا يقع للسياسة الجديد ما وقع للسياسة القديمة التي رحلت، لابد أن تكون النخبة التي حلت محل النخب التي توارت وراء الستار، واعية بكل مسببات التي أسقطت السياسة القديمة وتفاديها ووضع خطط التحيين والتغيير ووضع البدائل لكل مشروع، ورغم ذلك فالتغيير ضرورة حتمية تاريخية لا يمكن تلافيه هل تقام لسياسة الميتة جنازة؟ ومن يقون بها؟ وكيف. ؟ نعم يمكن أن تكون للسياسة المتوفاة جنازة، يقيمها أصحاب تلك السياسة، إن هم أرادوا العودة لممارسة السياسة وذلك بوضع اليد على مواطن ضعف سياستهم التي توارت عن الوجود، وتابين السياسة المتوفاة في اعتقادي لابد أن تكون عبر المثقفين الذين كانوا في حياتها يدافعون عنها عبر مداخلاتهم وكتاباتهم ومقالاتهم ، وهكذا فالسياسة توت كما تموت كل الكائنات الطبيعية لأن الزمن السياسي لا يستمر عبر سياسة لا تحمل في طياتها مشاريع الحياة والحرية والأفاق الواسعة للشعوب ويتطور بشكل سريع لأنه زمن السياسي هو بالأساس زمن البحث عن للحياة والرعاية والحفاظ على الأنسان ، وليس العكس.