استهدفت في اشغالها العلمية إسناد الفاعل السياسي والمؤسساتي بخلفية علمية قوية، لتقوية موقع المغرب داخل محيطه وتعزيز ترافعه عن قضاياه الوطنية والاستراتيجية، في سياق مزيد من الحاجة لإعادة بناء الخطاب السياسي المنتظم حول الصحراء المغربية، بما يجعله أكثر علمية وحججا وبراهين واستثمارا لِما راكمه مجال البحث العلمي ولا يزال، ضمن استيعاب ما هناك من متغيرات متسارعة يعرفها ملف القضية الأولى بالبلاد في ضوء ما هناك من مكاسب ذات الصلة. وفي سياق ايضا تتزايد الحاجة لتملك ملف الصحراء معرفياً من أجل انخراط فعلي للباحث، ووضع إمكاناته في خدمة قضايا الوطن، في اطار دبلوماسية أكاديمية موازية، معزز بذلك إشعاع نموذج المغرب الحضاري على الصعيد الاقليمي الدولي والقاري تلكم هي ندوة كلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة ابن زهر بأكادير الوطنية، التي نظمها مختبر البحث "المغرب في افريقيا التاريخ والذاكرة والمحيط الدولي"، بشراكة مع المركز الوطني للبحث العلمي يومي 13 و 14 يوليوز 2023. ندوة علمية توجهت بعنايتها وموضوعها ومداخلاتها لقضية الصحراء المغربية "الصحراء والأرشيف"، وقد أثث جلساتها عدد من الباحثين مستحضرة تنزيل التوجهات الملكية الرامية لجعل الجامعة في صلب الاختيارات الوطنية، فضلا عن تعزيز فعل وتفاعل وإلتقائية الباحثين المؤسساتيين وانخراط الجامعة في ديناميات البلاد، تكوينا وتأطيرا وبحثاً علمياً خاصة منه ما يتعلق بقضية الوحدة الترابية. ندوة كلية الانسانيات بأكادير هذه، كانت مناسبة لمساهمة ومقاربة وتدارس عدد من الباحثين والخبراء لمسألة وأرصدة الأرشيف الأجنبي والوطني، وما يتيحه هذا المكون من قوة علمية لتقوية كتابة تاريخ الصحراء من زاوية وطنية، من جهة لتوسيع وعاء النصوص البحثية من أجل تملك معرفي أمثل للصحراء المجال والانسان، ومن جهة ثانية إحداث ما ينبغي من تراكم كفيل بتقوية حجج الترافع حول مغربية الصحراء. واحدة من مداخلات ندوة أكادير العلمية الوطنية هذه، استهدف بها الأستاذ خاليد عيش"باحث في التاريخ ومكلف بقسم التواصل والنشر بمؤسسة أرشيف المغرب بالرباط، تسليط بعض الضوء على السياقات التي لازمت الاهتمام بالوثائق المتعلقة بالصحراء المغربية، وقد ارتبطت بثلاثة عوامل أساسية منها أولا تطور الأطماع الترابية الامبريالية في الأراضي المغربية عموما، واهتمامها المتزايد للاطلاع على تاريخ المغرب وخبر بنياته الاجتماعية والاقتصادية. وثانيا ما فرضته الحاجة لتسطير الحدود المغربية الصحراوية الممتدة بالشمال الشرقي في اتجاه الجنوب الغربي، لتسوية نزاعات المتدخلين الأساسيين المجالية وهما فرنسا وإسبانيا من جهة وبينها والمغرب من جهة ثانية. ثالثا أهمية هذه الوثائق في إبرام الاتفاقيات بين هذه الدول لشرعنة تدخلها في هذه المجالات. واحاطة بالموضوع وتنويرا منه لحضور الندوة من باحثين ومهتمين، ارتأى الأستاذ خاليد عيش ثلاث محطات اعتبرها مدخلات أساسية من اجل بلوة بحث في الوثائق والأرشيف. حول المحطة الأولى وقد قسمها لمرحلتين؛ أورد أن أولها هي الفترة التي تلت احتلال الجزائر 1830م، وما طرحه المتغير من إكراهات شملت قضية الحدود التي تطورت مع حلول الأطماع العملية المجالية الفرنسية، التي جندت كل إمكانياتها من أجل البحث في تاريخ المغرب عموما منه تخومه الصحراوية الشرقية خاصة. وقد تميزت هذه المرحلة – يضيف الباحث– بالاشتغال على مسألتين أساسيتين. أولا ما تعلق بالعمل الكارطوغرافي لإنجاز خرائط لهذه المجالات، مستحضرا أعمال "الكونت دوكاستر" البحثية لإعداد وثائق طبغرافية وكذا عمل البحث عن الوثائق للتعرف على هذه التخوم، ومن هنا ما قام به القبطان"بول مارتان" من جمع لوثائق خاصة بالواحات الصحراوية. أما ثانيا فهو ما هَمَّ الصحراء الغربية المغربية وقد تميزت بظهور متدخل آخر هو إسبانيا، ليتطور الصراع بين مغرب مدافع عن أراضيه وبين توسع مصالح إسبانيا من الجهة الغربية المقابلة لجزر الكناري من جهة، وبين فرنساالمحتلة للسنغال والمتسعة شمالا باتجاه منطقة أدرار (موريتانيا حاليا) من جهة أخرى. أما المحطة الثالثة التي ارتآها الباحث منهجيا في مقاربته للوثائق المتعلقة بالصحراء المغربية، فقد ارتبطت بمرحلة نظام الحماية على المغرب، مركزا على ما بذلته سلطاتها من مجهود كبير في مجال التوثيق والأرشفة، لبلوغ وثائق من شأنها دعم منهجية التدخل الفرنسي لاستكمال تسطير الحدود الصحراوية الشرقية، من خلال تقوية البحث في جذور العلاقات التاريخية بين المغرب والكيانات السياسية التي جاورته على امتداد تخومه الشرقية. وقد أورد الأستاذ خاليد عيش في هذا السياق تكليف الجنرال"ليوطي" ل"الكونت هانري دوكاستر" منذ 1913، بجمع الأرشيفات المتعلقة بالموضوع وإحداث الشعبة التاريخية سنة 1919 والتي أنيطت بها مهمة جمع المادة المتعلقة بتاريخ المغرب. وفي المرحلة الثانية من هذه المحطة فقد توجه الاهتمام صوب الصحراء المغربية الغربية– يقول الباحث–، لاستكمال احتلال الجنوب المغربي وفتح آفاق أرحب للاستغلال الاقتصادي. وعليه، يرى في مقاربته للموضوع أنه كان من الضروري البحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للصحراء الغربية، عبر جمع المادة المتعلقة بالأرشيف المكتوب ومعها المعلومات المتعلقة بالتراث الشفهي. مستحضرا ومستشهدا في هذا السياق أشغال المؤتمر السنوي السابع للمعهد العالي للدراسات المغربية المنعقد بالرباط يوم 30 ماي 1930، والتي خصصت لموضوع الصحراء الغربية. وكان هدف المؤتمر أساسا جمع المادة الوثائقية والتعرف على الصحراء الغربية التي ظلت مجهولة بشكل كبير مقارنة بالصحراء الشرقية، بعدما أصبح واقع الحال يفرض نفسه في استكمال السيطرة على هذه الأراضي وتيسير ذلك بالكشف عن أسرار هذه الربوع لتسهيل العمل العسكري قبل المرور إلى مرحلة الاستغلال الاقتصادي. ثالث المحطات التي توقف عليها الأستاذ "عيش" في مداخلته بندوة أكادير حول قضية الصحراء المغربية "الصحراء والأرشيف"، شملت مرحلة استقلال المغرب. وقد ميز هنا بين فترتين مهمتين الأولى منهما جسدتها الحاجة للوثائق المتعلقة بالصحراء الشرقية بعد تطور نزاع الحدود بعد حرب الرمال 1963. أما الثانية فقد تمثلت في رصد مسار استرجاع المغرب لأراضيه في الصحراء الغربية، التي بقيت تحت نير الاستعمار الاسباني من طرفاية وسيدي إفني، لمجمل أراضيه في الساقية الحمراء ووادي الذهب، فكان ضروريا التذكير بشرعية المغرب في أراضيه بقوة الوثائق التاريخية الداعمة والمثبتة لوحدة ترابه. كلها ظروف وتطورات اسهمت في اهتمام الدولة المغربية بالدراسات التاريخية– يقول الباحث–، وفتح أوراش كبرى اهتمت بالبحث في تاريخ المغرب وجمع المصادر والوثائق، بداية بالملتقيات العلمية الأكاديمية المنظمة على مستوى الجامعات. حيث تدرج العمل باتجاه إحداث هياكل إدارية ومؤسسات مشرفة على الوثائق، من قبيل مديرية الوثائق الملكية واللجنة المغربية للتاريخ العسكري وصولا لإحداث مؤسسة أرشيف المغرب. ولعل ما جعل مداخلة الأستاذ "عيش" بقيمة مضافة عالية لفائدة ندوة كلية العلوم الانسانية بأكادير، عرضه لنماذج من الأرشيفات والمادة الوثائقية المحفوظة بأرشيف المغرب والمتعلقة بالصحراء المغربية. هكذا خلص الباحث خاليد عيش عن مؤسسة أرشيف المغرب، الى جملة اشارات بقدر عال من الأهمية، منها ما بات من ضرورة تخص إعادة استغلال هذه الوثائق وتغيير زاوية قراءتها، معتبرا كون المغرب تجاوز الأغراض السياسية التي تحكمت في البحث عنها واستغلالها وأن الأمر الآن محسوم في مغربية الصحراء. وعليه، انتهى الى ضرورة إعادة استثمار هذا الأرشيف باعتباره رأسمالا لا ماديا. من جهة لإنجاح مشروع البلاد التنموي الكبير، ومن جهة ثانية توظيفها فيما يوطد اللحمة الثقافية المغربية المميزة للهوية المغربية. لكونها– يضيف– تميط اللثام عن أحد أهم روافد هذه الهوية، لعله النسق الثقافي الصحراوي. من خلال ما تجود به من معلومات عن المكونات الثقافية الصحراوية في مختلف مظاهرها، من عادات وتقاليد وشعائر وطقوس وغيرها، وما ارتبط بالمعيش اليومي من تنقل ومسكن وملبس ومأكل وزينة، وما تعلق أيضا بالأدب والشعر والتعبير ومختلف فنون الموسيقى وطقوس الغناء والرقص ، فضلا عن صور مكنون موروث الصحراء الثقافي. مؤكدا أهمية هذه الوثائق التي تبقى قائمة في دراسة تاريخ المغرب وحفظ ذاكرته الوطنية، وتقديم صورة حقيقة للأجيال الحالية واللاحقة حول تضحيات الأجداد حفاظا منهم على سيادة البلاد الترابية ضد كل أشكال الاستعمار، الذي عمل على طمس الهوية المغربية بجميع مكوناتها العربية والأمازيغية والصحراوية والعبرية، وكذا استلاب الثقافة المحلية وتطويعها خدمة لمصالح امبريالية محضة. مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث