عن الأجندات البحثية لأسبابٍ مختلفة سياسيّة جيوستراتيجيّة، وثقافيّة، دينيّة وغير دينيّة، ازدهرت في العقود الثلاثة الأخيرة الأبحاث حول الموضوعات المتعلّقة بالإسلام والديمقراطيّة، وتخصّصت فيها مراكزُ كاملة. وغالبًا ما أُجريت الأبحاث وأُقرّ تمويلُها بناءً على أجنداتِ مؤسّساتٍ أكاديميّةٍ غربيّةٍ ومراكزَ بحثيّة ذات علاقة بالمؤسّسة السياسيّة في الغرب من جهة، والمؤسّسات الإعلاميّة من جهةٍ أخرى. وقلّما بُحِث الموضوع بناءً على جدول أعمالِ التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي نفسِه. أمّا في السياق العربي، فقد اتّخذ البحث مساريْن لا ثالثَ لهما، يفترض أن يقود أوّلهما إلى تفسيرٍ "للاستثنائية العربية" في سياق موجة التحوّل الديمقراطي العالمية بتحميل المسؤولية للإسلام، ويفترض أن يقود الثاني إلى تبرئة الإسلام من هذه التهمة، بتفسيراتٍ نظرية حول توافق الإسلام والديمقراطية. والموضوع برمّته وهميٌ مثل موضوع المسيحية والديمقراطية، والبوذيّة والديمقراطية. واوُ العطف هنا توهم بوجود علاقة. وهذه لا يمكن تفسيرُها بالعلم. ولهذا فغالبًا ما تتحوّل واو العطف في مثل هذه الحالات إلى "واو العاطفة". وبالمجمل كان علينا أن نشرح ونبرّرَ لماذا لا يحصل تحوّلٌ ديمقراطي في العالم العربي. وهذه من الحالات النادرة التي لا يُكتفى فيها بتحميل العلوم الاجتماعية مسؤولية تفسيرِ ظاهرة، بل يُطلب منها أيضًا أن تفسّر غياب ظاهرة، وهو ما قد يُفقد البحث بوصلتَه العلمية، فينزلق إلى الشطح الفكري والتأويل، أي يحوّله إلى علمٍ في الغيب والغائب، من مثل أن نشرح لماذا لم تنشأ الديمقراطية أو الرأسمالية في بلادنا، مع أنّ العلوم الاجتماعية لا تكاد توفّر لنا الأدوات لنشرح لماذا نشأت في أوروبا، فما بالك بشرح سبب عدم نشوئها في أماكنَ أخرىّ! وبالمجمل، اتّخذ البحثُ مسارًا آن الأوان لمراجعته، هو مسار مقاربة الثّقافة السياسيّة كعائق رئيسٍ أمام التحوّل الديمقراطي، وهي الفرضيّة الأولى. ويُكتفى عادةً بفحصٍ جزئيٍّ لصحّتها، من نوع أنّ الإسلام هو الثّقافة السياسية أو المكوّن الرئيس فيها. وأقصى ما يصل إليه الفحص هنا ذلك التمييز بين ثقافاتٍ سياسيّة إسلاميّة بناءً على أنماط التديّن، وبناءً على التوزيع الطبقي والجغرافي من جهة، وأيديولوجيات الحركاتِ الإسلاميّة من جهةٍ أخرى، وغير ذلك، هذا إذا كان موضوعيًّا ولم يخلط الثقافة بالصفات الثابتة شبه العرقيّة؛ والفرضيّة الثّانية أنّ الثقافة السياسيّة عاملٌ مصيريٌّ في التحوّل الديمقراطي؛ والثّالثة أنّ الدين يلعب دورًا أكبر من الأيديولوجيات الأخرى في صنع الثّقافة السياسية. والرّابعة أنّ الأحزاب السياسيّة الإسلاميّة تيارات دينيّة قبل أن تكونَ أحزابًا سياسيّةً أيديولوجيّةً مثل بقيّة الأحزاب الأيديولوجيّة، سواء كان ذلك على مستوى تمسّكها بالفكرة أو تخلّيها عنها في الممارسة البراغماتيّة. يمكنُ بسهولة أن نبيّن عبر العمل الإحصائي المسحي والأدواتِ التحليليّة النظريّة السوسيولوجية المكتسبة باستقراء تجارب شعوبٍ أخرى، أنّ الفارق في الثّقافة السياسية الشعبيّة بين المتديّن وغير المتديّن في مجتمعاتنا فارقٌ ضئيل؛ ويصحّ ذلك بدرجةٍ أقلّ على مستوى النخب. كما يمكن أن نبيّن بأدواتٍ نظريّة أنّه إذا كان القصدُ بعبارة "فعل الدين في الثّقافة السياسيّة"، تأثيرَ الموروث التاريخي الديني، فإنّ تأثيرَه لا يقتصر على المتديّنين وإنّما أيضًا يتجاوزهم إلى غير المتديّنين، فهو يؤثّر في ثقافة المجتمع ككلّ. وسبق أن كتبت في المسألة العربيّة أنّ الاستبداد في منطقتنا، سواء كان دينيًّا أو علمانيًّا يستند إلى الموروث الحضاري ذاته، ويستخدم الأدوات الحديثة نفسها في الحكم في الوقت ذاته، كما يمرّ بالتفاعلات ذاتِها مع الحضارات والمجتمعات الأخرى. ولا شكّ في نفسي أنّ فهم الموروث الحضاري ضروريٌّ للمتديّنين والعلمانيين على حدٍّ سواء؛ لأنّه يؤثّر فيهم جميعًا سلبًا وإيجابًا. ولا أقصد ب "سلبًا" التأثيرَ السلبي فحسب، وإنّما الانفعال وردّة الفعلِ السلبيّة. ولا أقصد أيضًا ب "إيجابًا" التأثيرَ الإيجابي فحسب، وإنّما أيضًا الانفعال المستقبِل الموجَب الذي يغيّر في التراث ويعيد تفسيرَه. فالتراث ليس تراثًا إلا في الحاضر، أمّا في سياقه التاريخي فهو ليس تراثًا بل حاضرٌ في زمانه. التراث تراثٌ في ضوء الحاضر، وفي ضوء فهم المعاصرين فقط، واستدعائهم له. وهذا الحضور والفهم معًا يغيّرانه تغييرًا جذريًّا عمّا كان عليه في الأصل؛ إذ يُقرأُ ويُفهم في سياقٍ تاريخي مختلف عن سياقه، وبمصطلحاتٍ لم تكن قائمة؛ ويضفي عليه إسقاطاتٍ وتأويلاتٍ ورغباتٍ معاصرة. فهو إذًا ذاتُه حين لا يكون تراثًا وهو تراثٌ حين لا يكونُ ذاتَه. وأخيرًا، وبناءً على تجربة الأعوام القليلة الماضية الدالّة بحكم انطلاق ديناميّات عملية التحوّل الاجتماعي الكبرى من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ جديدة، يمكن أن نبيّن أنّ ثقافة المجتمعات السياسية لم تكن عنصرًا فاعلًا في إعاقة التحوّل الديمقراطي، بقدر ما كانت عنصرًا منفعلًا، لا سيّما حين فضّلت النخب المناهضة للتحوّل الديمقراطي، سواء كانت نخبًا على مستوى المنطقة أو على مستوى كلّ دولة على حدة، تعبئة الناس ضدّ الخصم لإفشاله على الحوار معه أو الاكتفاء بمعارضته سياسيًّا. وهذا ينطبق على الأحزاب المتنافسة. ففي خضمّ الصراع في مرحلة التحوّل قامت أوساطٌ واسعة من النخب السياسية والإعلامية بتجهيل الناس بدلًا من تنويرهم، وأقدمت على مخاطبة غرائزهم بدلا من عقولهم، ولم تتورّع عن استخدام الكذب البواح إذا لزم لتجنيد الناس ضدّ التحوّل الديمقراطي. فمَن يتحمّل المسؤولية في مثل هذه الحالة؟ ضعف ثقافة الجمهور الديمقراطية، أم ثقافة النخب المعادية للديمقراطية؟ الثقافة السياسية الهشّة للقواعد الشعبية قابلة للتعبئة ضدّ مبادئ الديمقراطية، وهذا طبيعي في مجتمعاتٍ لم تتمرّس بالعمل الديمقراطي، ولم تتشرّب قيمَه، أو تنشأ عليها. ولكن المسؤولية تقع على من لم يتورّع عن تعبئة المجتمعات ضدّ هذه المبادئ، واستخدام التجهيل ذخيرةً له ضدّ خصمِه، بدل تحمّل المسؤولية عن التحوّل الديمقراطي كعملية بناء، هي ذاتها مسؤولية وطنية. لهذا نقول: تتّخذ الإشكاليات والقضايا هذه في أيّامنا بالذات بعدًا جديدًا. إذ لم يعد مطلوبًا التمييزُ بين الثّقافة السياسيّة للمتديّن وغير المتديّن، بغضّ النظر عن جدوى هذا التمييز وأهمّيتِه لغايات البحث العلمي ولوضع سياساتٍ تهدف إلى تجذير الثقافة الديمقراطية. وإنّما السؤال الذي يشغلنا الآن هو الثّقافة السياسية للتيارات والأحزاب السياسيّة القائمة سواء كانت دينيّة أو غير دينيّة، وفعل هذه الثقافة في قواعدها الجماهيرية. ومن الظلم (والظلم في العلوم هو الانتقائية في اختيار المعطيات لتلائم الفرضيات، والتلفيقية وغياب الموضوعيّة في المنهج، والتعميمات غير المنضبطة في الاستقراء) أن نقصرَ بحثَنا على الثّقافة السياسيّة للتيارات الإسلاميّة؛ وإنّما آن الأوانُ لمراجعة الثّقافة السياسيّة لليسار واليمين وللتياراتِ القوميّة أيضًا، وكذلك ثقافة من يُسمَّون عن حقٍّ، أو زورًا وبهتانًا باللبراليين. فحتّى اللبرالي تاريخيًّا لم يكن ديمقراطيًّا بالضرورة في أوروبا القرن التاسع عشر؛ فما بالُك بالمتلبرل المستجدّ الذي يجهل، أو يتجاهل أن لا معنى لهذه الكنية إذا كان حاملها لا يدافع عن الحريات المدنية، والذي لا يعرف من اللبرالية وأصولِها ومبادئِها سوى التعصّب لنمط حياةٍ محدّد لا علاقةَ له بالحرية والتحرر، ولا يفقه منها سوى العداء للدين، وإن كان العداء ليس من مبادئها ولا من أصولها التاريخية أو النظرية؟ ثمّ علينا أن نبحث في العوائق الرئيسة أمام التحوّل الديمقراطي كما تبيّن، وكما كنّا نشخّصها قبل الثورات، وهي أوّلًا، أجهزة الدولة البيروقراطية وفسادُها، وفي مقدمتها جهازُ الأمن؛ وثانيًا، تفاعلُها مع الريوع النفطية وغير النفطية الفاعلة سياسيا وثقافيا على مستوى الإقليم بصيغة تعاضدِ الدول والقوى الاجتماعية الرجعية المعادية للتحوّل الديمقراطي. ---- المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات افتتح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة اليوم (السبت 28 أيلول / سبتمبر 2013) أعمال المؤتمر السنوي الثاني "الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي"، والذي يأتي هذا العام بعنوان "مسائل المواطنة والدولة والأمة". وتستمر أعمال المؤتمر على مدى يومين من خلال ست جلسات تعرض فيها نحو أربعين ورقة بحثية من قبل باحثين متخصصين. وقد أوضح الأستاذ جمال باروت، الباحث في المركز، في الجلسة الافتتاحية أنّ هذا المؤتمر يأتي بعد النجاح الذي حظي به المؤتمر السنوي الأول لموضوع "الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي" الذي عقد تشرين الأول/ أكتوبر 2012، مشيرًا إلى أنّه يجري تناول موضوع المؤتمر من زاوية بحثية علمية لأداء الحركات السياسية الإسلامية. وقدّم الدكتور عزمي بشارة، المدير العامّ للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المحاضرة الافتتاحية في هذا المؤتمر.