طرح المفكرون العرب والمسلمون سؤال النهضة بكثافة في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. إلا أن هذا السؤال لم ينفك يرافق مسيرة الفكر العربي-الإسلامي حتى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي من خلال قراءات تراثية تتجاوز الآليات التقليدية والنصية بل تستحضر الأدوات القرائية وتحليل الخطاب المعاصرين، بهدف التواصل النقدي مع التراث ثم تجاوزه لتحقيق النهضة التي كانت المسألة الأهم في القرن العشرين. في ظل سؤال النهضة، حضر سؤال الديمقراطية، كبديل لسؤال لم يحسم (أي مرجعية النهضة)، أو كمركب جديد من سؤال النهضة. وكما سأل شكيب أرسلان سؤاله المشهور في الثلاثينيات: «لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟»، وجعل سؤاله عنوانا لكتاب عالج هذا الإشكال، عاد العرب وأعادوا إنتاج هذا السؤال منذ الثمانينيات، ولكن بصيغة جديدة، «لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر غيرهم؟». كتاب الدكتور عزمي بشارة «مقدمة لبيان ديمقراطي عربي» لا يجيب عن هذا السؤال بهذه الصيغة الأيديولوجية، ويعتبر أن الكتاب طرح المسألة الديمقراطية بصيغة «لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر العرب؟» فيها الكثير من الخلط بين البحث العلمي الرصين والمواقف السياسية، وهي تعبر عن أماني تؤدي بصاحبها إلى التكاسل السياسي والمعرفي لا إلى الفعل وإمعان العقل. وفي سياق الأدبيات السياسية والاجتماعية التي بحثت مسألة التحول الديمقراطي، كما يقول بشارة، فإن العلوم الاجتماعية خرجت عن «عرفها في حالة غياب النظام السياسي الديمقراطي عربيا كإشكالية مطروحة للبحث العلمي. فمألوفها ... هو تفسير ظواهر قائمة أو شرحها وشرح أسبابها وتاريخها. وفي الحالة العربية تخرج عن هذا السياق المفروغ منه إلى محاولة فهم أو تفسير غياب ظاهرة اجتماعية سياسية» (ص:54). وهذه الإشكالية التي يطرحها بشارة شبيهة بمثال طالب دراسات عليا يتقدم باقتراح لكتابة رسالة دكتوراه حول غياب العنف في مجتمع يهنأ بالسلم الأهلي والاجتماعي. ويكون سؤاله البحثي، لماذا يغيب العنف عن هذا المجتمع؟ المنطق العلمي يفرض عليه طرح سؤال بحثي حول أسباب انتشار العنف في مجتمع يعاني من مشاكل العنف والجريمة، وليس غيابه في مجتمع ينعم بالسلم والأمن من الخوف على غرار التعبير القرآني الكريم «وآمنهم من خوف». يتجاوز بيان بشارة حول الديمقراطية الأدبيات النظرية حول التحول الديمقراطي، وأحسن عندما أطلق على هذا الفصل «بؤس نظريات التحول الديمقراطي»، فليس هنالك نظرية تحول ديمقراطي تحاكي الأصل، على حد تعبيره. وهذا صحيح، فإن نظريات التحول الديمقراطي سواء تلك التي تعتمد على نظرية الحداثة أو وجوب وجود الشروط المسبقة للتحول الديمقراطي، أو النظرية البنيوية أو نظرية الانتقال (كما عند دانكوارت راستو وطورها لاحقا بريتسفورسكي)، كلها عدلت عندما استحضرت لتفسير حالة تحول ديمقراطي جديدة، وأدخل عليها متغيرات جديدة لكي تحاكي التحول الجديد، وتعيد إنتاج نفسها في التجربة التي تليها، فليس هنالك نظرية تصلح أن تكون شاملة في مسألة التحول الديمقراطي، وخصوصا في الحالة العربية. المقولة الأساسية لبشارة في بيانه هو وجود استثنائية عربية، وهذه الاستثنائية هي المعيقة للتحول الديمقراطي، ويمكن القول على هامش هذه الاستثنائية، أنه بقدر خصوصية الاستثنائية العربية جاءت خصوصية الاستثنائية الثورية العربية لاحقا. ينفي بشارة وجود استثنائية إسلامية تعيق الديمقراطية، كما يحلو طرحها في بعض الأدبيات الاستشراقية والاجتماعية الغربية والإسرائيلية. يمثل صامويل هانتنغتون هذه السهولة في طرح الاستثنائية الإسلامية، رغم ما تحتويه فرضيته من استسهال معرفي في تعريف الثقافة والحضارة وهي كافية لتفكيكها من الداخل. في المقابل يفكك بشارة ويحلل هذه الاستثنائية بطريقة رائعة عبر فصول الكتاب، بدءا بمسألة الدولة الريعية وانتشارها عبر نماذج وقوالب مختلفة تجاوزت دول النفط، مرورًا بعائق الثقافة متناولا قضية القومية والهوية الدينية، وحضور القبيلة وارتباطها في تشكل المبنى السياسي والفعل الاجتماعي والاقتصادي وانتهاء بخصوصية الإصلاح عربيًا. إن بحث هذه المعيقات (الريع، الثقافة، القبيلة، الطائفة، الهوية والمواطنة) بدون إطار الاستثنائية العربية سيجعل البحث عقيمًا والفعل السياسي كسولا. إلى جانب مقولة الاستثنائية وهي مقولة نظرية هامة، والتي ضاعت أوصالها معرفيًا في خضم النقاش الذي استنزف البحث العلمي والفكر السياسي العربي والإسلامي في العقود الثلاثة الأخيرة بانشغاله بالعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وكأن الإسلام هو المعيق للديمقراطية. فالإسلام ليس معيقا للديمقراطية ولا هو دافع لها. ربما كان لا بد من الانشغال أكثر وبشكل أكثر عمقا في العلاقة بين الحركات الإسلامية والديمقراطية، وحتى هذا الانشغال يقع ضمن الاستثنائية العربية، استثنائية الحركات الإسلامية العربية وخصوصيتها مقارنة مع الحركات الإسلامية غير العربية، فهذه الخصوصية الإسلامية الحركية نابعة من الاستثنائية العربية كما طرحها بشارة وليس من الاستثنائية الإسلامية. نقول، إلى جانب مقولة الاستثنائية، هنالك الإضافة السياسية لبيان بشارة إلى جانب الإضافة المعرفية الهامة، فهو يحاول تجديد الفكر القومي، من خلال مقاربة قومية للديمقراطية وحلا ديمقراطيًا للمسألة القومية، فهو يعتقد أن الفصل إلى درجة القطيعة، التي تمت بوعي وبدون وعي، بين الفكرة القومية والديمقراطية، أضر بالمسألة القومية والديمقراطية معًا. كتب بشارة بيانه قبل الثورات العربية، إلا أنه يحمل مقولة أخلاقية هامة، يخصها بشارة بمساحة كبيرة من الكتاب، وليس صدفة أن يفتتح بها كتابه بفصل مطول، وهي ذات صلة في الواقع الثوري العربي، وهي مقولة رفض التدخل الأجنبي لتحقيق الديمقراطية. ويحذر في كتابه من الخلط بين الإصلاح السياسي والتدخل الأجنبي الاستعماري، فالديمقراطية يجب أن تكون مشروعًا وطنيًا تحمله نخبة تؤمن بالديمقراطية أو كما يسميها الجابري «الكتلة التاريخية» في كتابه إشكاليات الفكر العربي المعاصر. بشارة، كالجابري وغيره من المفكرين العرب، لا يؤمنون بالانتقال إلى الديمقراطية كنتاج لتسوية سياسية بين قوى سياسية غير ديمقراطية. فخصوصية الإصلاح العربي من خلال النظام السلطوي العربي كانت هي بالذات معيقًا للديمقراطية.فالإصلاح إما تم عبر مناورة للنظام السياسي التسلطي أمام التدخل والضغط الأجنبي، وإما كجزء من مناورته أمام قوى سياسية تطالب بالإصلاح، سواء كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية. أو مناورته أمام قوى تقليدية وحداثوية من خلال تحالف النظام مع طرف ضد طرف، واستغلال التناقض بينهما لخدمة مصالحه، فيتحول الصراع بين قوى تقليدية وحداثوية بدل الصراع ضد النظام السلطوي، لاحظ الشبه الكبير لهذه الاستراتيجية في تعامل إسرائيل مع قوى المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. يعتقد بشارة أن المشروع الديمقراطي يحتاج إلى نخبة ديمقراطية تؤمن به وتناضل من أجله وأن هذا الانتقال والإصلاح لا يتم من خلال النظام السلطوي، وهذه مقولة تجاوزت في الحقيقة الفترة التاريخية التي كتب فيها بشارة بيانه، وكأنه يقول لا تعولوا على الإصلاح السياسي من خلال النظام السلطوي القائم، لأن الاستثنائية العربية سوف تهدم حتى أركان هذا الإصلاح. وقد توصل كاتب هذا المقال إلى نتيجة شبيهة في رسالته للدكتوراه حول التحول الديمقراطي في مصر وتونس، من خلال إدعائه أن الإصلاح السياسي في النظام التسلطي العربي أصبح جزءا عضويًا من مبنى النظام وتكوينه كالفساد والزبونية والرعوية. بيان بشارة الديمقراطي هو بيان ديمقراطي وقومي هام، ومساهمته في إنتاج العلاقة بين الفكرة القومية والديمقراطية مساهمة هامة يقدمها بشارة في بيانه، إضافة إلى المساهمة المعرفية لبحث الديمقراطية ومعيقاتها في الحالة العربية. وأعتقد أن بشارة أعاد تأسيس هذه العلاقة من خلال مشروع التجمع الديمقراطي في الداخل قبل أن يؤسّسها تنظيرًا في كتابه بشكل محكم وهام لتطور هذا الفكر، وإعادة تجديده من حالته الأيديولوجية المتكلسة إلى حالته السياسية المنفتحة. لا بد من القول إذن،أنّ الكتاب لكونه كتابًا ينظر للمسألة الديمقراطية قبل الثورات العربية، يبقى له ما له وعليه ما عليه، ما له ذكرناه من خلال أطروحة الإصلاح السياسي في ظل الاستثنائية العربية التي أكدتها الثورات العربية بإمتياز. ولكن في نفس الوقت تضع الثورات العربية تحديات نظرية للكتاب، مثل الحاجة التاريخية إلى كتلة تاريخية أو نخبة ديمقراطية لتحقيق مشروع الديمقراطية الوطني في مرحلة ما بعد التسلطية. هل تتوفر هذه الكتلة؟ وهل هي متشكلة حتى النهاية؟ أم أن هنالك عودة إلى الديمقراطية كتسوية سياسية بين أطراف ديمقراطيين وغير ديمقراطيين؟ هل تستطيع الثورات الديمقراطية تجاوز مراحل مرت بها التجارب الديمقراطية الأخرى في العالم، والتي استطاعت من خلالها تأسيس ثقافة ديمقراطية على مستوى الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة؟ خصوصًا أن بشارة يؤكد أهمية هذه الثقافة دون الوقوع طبعًا في التنظيرات الاستشراقية الفارغة حول هذا المعيق. لن أستعرض مسألة الحركات الإسلامية وأنماط التدين لأن بشارة أشار في بيانه إلى أن هذا الموضوع يحتاج إلى كتاب آخر يعمل عليه وأصبح ملحًا الآن. وهنالك سؤال آخر لا يقل أهمية، وهو غير متعلق بكون سائله ديمقراطيًا أم لا، وهو :هل الانتقال إلى الديمقراطية صيرورة تاريخية طبيعية لا بد منها في تاريخ الشعوب، أم مشروع سياسي؟ هذا السؤال هام حتى للديمقراطيين لأن الديمقراطية تحتاج إلى مشروع سياسي مثابر ولا يكفي التعويل على كونها صيرورة لا بد من الوصول إليها وكأنها جزء عضوي من التاريخ، حيث إن تعثر الانتقال إلى الديمقراطية في المجتمعات هو ارتكان النخب إلى الحالة الأولى، وتجاهل المشروع السياسي في الديمقراطية، والحقيقة أن بشارة من أصحاب التوجه الثاني. بيان بشارة حول المسألة العربية والديمقراطية يعتبر تجديدًا فكريا وقوميًا هامًا في سيرورة الفكر السياسي العربي والحركة القومية العربية، وله أهمية حتى في التداول الفكري والسياسي في واقع مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، فالكثير من الطروحات في الكتاب، يمكن التعامل معها، من خلال الاستيعاب والنقد، لقضايانا الداخلية، مثل القبلية، الريعية (غياب الاقتصاد الوطني) الثقافة السياسية وبناء المؤسسات التمثيلية الديمقراطية الوطنية الجامعة وغيرها. *: محاضر في كلية الدراسات الأكاديمية- اور يهودا وباحث في مركز دراسات المركز العربي للحقوق والسياسات ومركز مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية