في النصف الثاني من الثمانينات، كان أبناء جيلي من المثقفين قد تفتح وعيهم وقد خلت الساحة أو كادت من تيارات المنازعة السياسية وأيديولوجياتها يمينية أو يسارية أو قومية ، وتسيدها التيار الأصولي الذي أعاد كل أسئلة ما سمي بالنهضة إلى المربع الأول. كانت الدولة الوطنية التي ظهرت بعد الاستقلال قد تحللت، أو كادت، وتوشك على إعلان إفلاسها، لمصلحة نخب اتهمت بالفساد والاستيلاء على الثروة في غياب كامل لما سمي «المشروع». كان أبناء جيلي يبحثون عن متكأ للتمرد على سلطة الأب ممثلة في الدولة الفاشلة كما على الثقافة التي جُنّدت في خدمتها وعاشت في ظلال أوهامها وصراعات فلول نخبها المضحكة، كنا في حاجة للتساؤل من جديد عن طبيعة هذا المجتمع الذي نعيش فيه، وبدا أننا لا نعرفه. هنا كانت مؤلفات عابد الجابري وبخاصة رباعيته التي بدأت بكتاب «تكوين العقل العربي» ثم «بنية العقل العربي»، مرورا ب«العقل السياسي»، وأخيرا «العقل الأخلاقي العربي»، شرفة عكسية نطل منها على ذواتنا. وكان الكتابان الأولان خصوصا إعادة تفسير للمواضعات الثقافية لما تغلغل في عقل المجتمع وشكل فضاء رؤيته عبر القرون. قسّم الجابري هذا العقل أقساما ثلاثة: العقل البياني وأصوله العربية والعقل العرفاني وأصوله الشرقية، وأخيرا العقل البرهاني ومصادره الفلسفية العقلانية، موضحا ملابسات كل منها وظروف تكونها في التاريخ العربي وعوامل انسدادها. وبغض النظر عن انحيازات الجابري العقلانية، وعن دقة هذا التقسيم وأسبابه التاريخية، فقد كانت فكرة مراجعة ذهنيتنا وما تركب في بنياتها من مواضعات الثقافة إحدى الأفكار الهامة التي شكلت وعينا وفي نفس الوقت سلاحا لمواجهة الشكوك الأصولية التي أعادت إلى الساحة كل صراعات التاريخ الفكرية، أو بدا وكأنها كذلك. على المستوى ذاته كان كتاب «الثابت والمتحول» لأدونيس الذي لم نقرأه فقط كدراسة في الشعر وحوافز تطوره، بل كتأسيس أيديولوجي لفكرة الحداثة، وإعادة غرسها ليس باسم نهضة اجتماعية وسياسية، بل باسم الصراع الدائم بين الجميل والسلطوي، الثائر والمتواطئ، وإن بدا أنه يتم على ارض شعرية، لكن الرسالة كانت واضحة. وكان ثمة جهد يقوم به مفكرون آخرون مثل حسن حنفي الباحث عن تثوير قيم الإسلام «من العقيدة إلى الثورة» والبحث عن لاهوت تحرير جديد، والذي بدوره خاض تجربة حوار ثرية مع الجابري نهاية الثمانينات على صفحات مجلة اليوم السابع (التي توقفت عن الصدور) والمعروفة باسم «حوار المشرق والمغرب» فقرأناها بلهفة قبل أن تطبع في كتاب. مثل كثيرين من مثقفي جيله ارتبط الجابري بالسياسة، وكان هذا الارتباط يعني ضمنا أن وراء المشروع الفكري لإعادة صياغة مقولات الثقافة العربية كان حلم التغيير السياسي في الإطار الوطني (أو القومي) هو الأساس. ارتبط الجابري بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حتى استقال عام 1981 للتفرغ للعمل الثقافي، وساهم في انتفاضة 25 يناير 1959 التي بدأت بمحاولة تصحيح مسار حزب الاستقلال وأفضت للانشقاق عنه. كما ساهم في الإعداد لانتفاضة 30 يوليو 1972، سجن واعتقل، وشارك في العمل الصحفي. في الوقت نفسه الذي كان ينهض فيه بعبء مشروعه الفكري فظهر عام 1971 أول مؤلفاته «العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي»، وهو يمثل أطروحته التي تقدم بها لنيل الدكتوراه، ثم أصدر في عام 1976 كتاب «مدخل إلى فلسفة العلوم» من جزءين. ثم تتابعت المؤلفات التي لم تكن جهدا علميا خالصا بل إعادة فرز للتجاذبات الأيديولوجية في المجتمعات العربية بحثا عن مخرج ونقدا صريحا ومبطنا أحيانا لتجارب النخب السياسية والفكرية، هكذا جاءت مؤلفاته من «الخطاب العربي المعاصر» إلى «في نقد الحاجة إلى الإصلاح». مأزق النخبة . ورغم نبل المسعى فإن السؤال «الوطني» كان أفقا محكوما، برأيي، بالانسداد. فلم يلتفت الجابري إلى أن تغير المجتمعات العربية وفشلها لم يكونا ذاتيين، ليس فقط بسبب ما استقر في ذهنياتها من بنيات عقلية، بل لأنه لا يمكن النظر إلى هذه المجتمعات إلا في إطار قطيعة شاملة مع تاريخها شكلتها لحظة الحداثة باعتبارها أول تجربة لهذه المجتمعات تفقد فيها استقلالها الكامل في خضم نظام عالمي لم تفهمه أبدا، ولم تعرف (أو تعترف) حتى الآن بمقدار ارتباطها به ارتباط التابع غالبا. وان المقولات الثقافية التي أعيد تكييفها من قبل المجتمعات والنخب لم تكن مطلقا تلك التي تنمى إلى الغزالي أو ابن سينا أو ابن مسكويه، وان نقد أو إحياء هؤلاء (تماما مثل خرافة إحياء التيار الاعتزالي) لا يمت بصلة إلى عوامل ظهور الإسلام السياسي المعاصر ولا يفسره. بدا عقل الجابري لا تاريخيا، متصورا أن نقده لابن سينا أو دعمه لابن رشد بإمكانهما إحياء نمط مختلف من التفكير داخل المجتمع. غير مدرك أن خطاب الشارع الإسلامي قد يكون مجرد قناع عاجز للممارسة السياسية غير الناضجة ولا الواعية بمصالحها. ومن ثم فهو قد يمثل ثقافة زائفة ومجتزأة و«شعارية» وليس حركة إحيائية بأي حال، ناهيك عن أن يكون ردة إلى الماضي. إنه سيطرة فاشلة على العصر وسلطته، ولذلك تستخدم التراث كأداة وليس كحقيقة تجادل عنها. تجاهل مشروع الجابري مقولات الحاضر وممارسات الناس، وراح يبحث عن العقل العربي في العصور الإسلامية الأولى، في صراعات الفقهاء وعلماء الأصول والكلام، في النشوء المتردد للفلسفة، كما في صراعات الولاية والخلافة، وكأن إسلام اليوم هو إسلام الأمس. في كتابه «العقل الأخلاقي العربي» مثلا يحاول الجابري إسناد ما طرأ على الفكر العربي من تراتبية السلطة ورسوخ تقاليدها السلطانية واحتقار المرأة وظهور صيغ من الأدب الكتابي المحتفي بالديباجة والتصنع والذي يمكن وصفه بالأدب السلطاني تحت تأثير الثقافة الفارسية، وكأنه يقوم بعملية تنقية متأخرة للتراث العربي الإسلامي مما يعتبره دخيلا عليه. وبغض النظر عن طرافة الفكرة بل أهمية النظر إليها بالفعل، فإنها تصلح لإعادة النظر في التراث العربي أكثر مما تسمح بالنظر في الواقع. الوعي الزائف . في نهاية الثمانينات على أرجح تقدير ظهر كتاب «الوعي والوعي الزائف» للراحل محمود أمين العالم. كان الكتاب يضم عددا من الدراسات والمقالات، وأهمها بنظري كان نقد العالم لمشروعي أدونيس والجابري. ورغم منطلقات العالم الخاصة ، فإنه ثمن المشروعين، غير أنه انتقد بقوة غياب التاريخ عنهما، غيابه كمنتج للبنى، ولتطورها أيضا، وكأن المقولات الثقافية تدور في فضاء خاص، وصراعات المقولات الفكرية يمكن استعادتها راهنا وكأنها هي هي. بعد عام 1967 ظهر من يمكن أن نسميهم بمفكري النهضة الثانية، خلافا لمفكري النهضة الأولى في مطلع القرن الماضي وما قبله، لكن النهضة الثانية جاءت بظلال الهزيمة ومن ثم كان محورها الشك. حاولت أن تبني مشاريع عجزت عنها الحكومات فأفرزت مثقفين موسوعيين وكتابا يتجاوزون التخصص لإعادة تأسيس أفق شامل للمعرفة الصحيحة. وهكذا برز الجابري وصادق جلال العظم منذ «نقد الفكر الديني»، وحسين مروة مع «النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية»، بالإضافة إلى كتابات جورج طرابيشي وتفسيره لما سمي «الجرح النرجسي» العربي. أما الجابري فلم يكتف بالتأليف بل أصدر مجلة فكر ونقد، وهي مجلة ذات مستوى علمي راق تجمع بين الكتابة والترجمة. وكان الجابري ينفق عليها من جيبه الخاص. وفي مشروعه الأخير لتفسير القرآن «فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول»، بدت واضحة محاولة التأسيس لتحديث الفكر الإسلامي من داخله بإعادة تمثل النص الأصلي، وهي محاولة يكشف عن حدودها ما ووجه به الجابري (من قبل حسن حنفي) من عدم رضى من التيارات الأصولية التي يفترض أن تقوم هذه المؤلفات بتثوير عقليتها، كما أنه بالطبع لم يصل إلى الجمهور العام من الناس، مما يشير إلى فشل الخروج من النخبوية، تلك النخبوية التي عابها الجابري على أنصار الحداثة من المثقفين المتعالين على مجتمعاتهم. يبقى الجابري مشروعا حيا للقراءة، والتباس تجربته العريضة بحجم التباس حياتنا وترددها. يبقى درسا في الجمع بين المنهجية الأكاديمية ومحاولة فهم حياتنا شأن أي ثقافة حقيقية. يبقى أرقه هو أرق الساعي إلى التغيير بغض النظر عن النجاحات والإخفاقات.