عرف العمل الجمعوي بالمغرب تطورات كبيرة عبر تاريخه المعاصر، فقبل الاستعمار كانت المؤسسات التقليدية المتمثلة في الزوايا والجماعة والتويزة والرباطات والأوقاف... هي التي تقوم بكل ما يسمى الآن بالعمل العمومي الجماعي والحكومي (الجماعة والأوقاف والرباطات) بالإضافة إلى العمل الجمعوي الثقافي والاجتماعي (الزوايا والأوقاف) والعمل التعاوني )التويزة). وفي عهد الاستعمار كانت هناك قوانين تنظم العمل الجمعوي، ولكنها كانت خاصة بالمستعمرين فقط، وكان المغاربة ممنوعون من ممارسة العمل الجمعوي، وحتى إذا ما كان يسمح لهم به يتعرضون لشتى المضايقات ومن منع لأنشطتهم، وكان العمل الجمعوي في الغالب بمثابة ستار للعمل الوطني التحريري الذي تميز بالسرية في أغلب الأحوال. أما في عهد الاستقلال، وبالرغم من قدم ظهير الحريات العامة (1958) الذي يسمح بممارسة العمل الجمعوي بكل حرية، فإن هذا الأخير عرف بطئا كبيرا في تطوره ونموه، سواء على مستوى عدد الجمعيات الذي ظل ضعيفا إلى غاية السنوات الأخيرة بحيث قفز من 30 ألف إلى 40 ألف جمعية تقريبا بمعدل جمعية لكل 750 نسمة (في فرنسا مثلا جمعية لكل 100 نسمة)، أو على مستوى الفعالية والمردودية وأسلوب العمل فالغالبية العظمى من الجمعيات مازالت تعيش مرحلة العمل الطوعي والعفوية والقليل منها انتقل إلى مرحلة المهنية وقلة منها وصلت إلى مرحلة المؤسساتية. وإذا أردنا تتبع تطور العمل الجمعوي من بداية الاستقلال إلى الآن، فإنه لا يمكننا الحديث على نسيج جمعوي واحد، لأن العمل الجمعوي ظل لصيقا وبشكل قوي بالعمل السياسي، لذا فمن الناحية الموضوعية سنعمد إلى تتبع تطور العمل الجمعوي لكل تيار سياسي من التيارات السياسية الثلاثة التي تكون المشهد السياسي المغربي، وهي: التيار اليساري، والتيار الليبرالي، والتيار الإسلامي. أ- التيار اليساري: المقصود باليسار ما تفرع عن حزب الاستقلال سنة 1959 أي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وما تفرع عنه، والحزب الشيوعي بتسمياته المختلفة وما تفرع عنه خصوصا ما يعرف باليسار المتطرف. 1- مرحلة الستينات: مرحلة حرب الوجود ظهر العمل الجمعوي الحقيقي بالنسبة لهذا التيار خلال الستينات، أي بعد صدور ظهير الحريات العامة سنة 1958، وبعد انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 عن حزب الاستقلال، وتشكيل حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1960. وفي هذه المرحلة كان النشاط السائد هو العمل السياسي والنقابي والطلابي والتلاميذي، إذ كان الصراع السياسي على أشده، وكان بمثابة حرب وجود بين اليسار وحزب الاستقلال من جهة وبين اليسار والحكم من جهة ثانية. وهذا ما انعكس سلبا على العمل الجمعوي بحيث كانت هناك جمعيات قليلة وغير نشيطة. 2- مرحلة السبعينات والثمانينات: مرحلة دور الشباب وهي المرحلة التي عرفت انتشارا ونشاطا واسعين للجمعيات التابعة أو المتأثرة باليسار، وكانت دور الشباب هي المسرح الرئيسي لهذه الجمعيات، وتميز عملها بالخصائص الآتية: - طبيعة العمل: نشاط ثقافي وتربوي بمرجعية سياسية ولغايات سياسية وبخطاب سياسي. - طبيعة التمويل: التطوع وانخراطات الأعضاء كان هو الأساس، بالإضافة إلى الدعم العمومي خصوصا دعم الجماعات المحلية (أساسا البلديات) التي كانت تسير من طرف الأحزاب اليسارية، وحتى التي كانت مسيرة بتيارات سياسية أخرى كانت مضطرة لدعم الجمعيات ذات الطابع اليساري لأنها هي التي كانت موجودة آنذاك بكثرة في الساحة. ثم كانت هناك استفادة كبيرة من منح وزارة الشبيبة والرياضة، بحكم تواجد أطر كثيرة من هذا التيار في مؤسسات الوزارة (دور الشباب، مراكز التخييم، مراكز الاستقبال، المصالح المركزية والخارجية) كما أن ما كان موجودا من أطر مكونة ومدربة في مجال التنشيط والعمل التربوي هم من اليسار أيضا. - طبيعة الوسائل: "النشاط" أو "الأنشطة" كان هو المصطلح السائد، بحيث كان عمل الجمعيات عبارة عن أنشطة وليس "المشاريع" كما أصبح اليوم. وكانت الجمعيات التي تعد جمعيات نشيطة وناجحة هي التي لها أنشطة كثيرة ومتنوعة. - طبيعة الخطاب: استمرارية الخطاب المعارض ولكن كان في مواجهة الحكومات أو الإدارة أكثر ما كان في مواجهة الحكم، بحيث أصبح هناك تمييز بين الاثنين بسبب انخراط الأحزاب اليسارية في البرلمان والجماعات المحلية ومؤسسات عمومية كثيرة دون الحكومة، نتيجة التوافق الذي حصل مع الحكم حول القضية الوطنية. كما تميز هذا الخطاب بمعاداة ومواجهة التيار الإسلامي. بينما استمر خطاب اليسار المتطرف في معارضة الحكم وفي معاداة حتى الوحدة الوطنية، ولكن عمله الجمعوي ظل محدودا في بعض الجمعيات الحقوقية، وانحصر نشاطه داخل الحرم الجامعي وفي بعض داخليات الثانويات، وظل نشاطه قويا في القطاع الطلابي إلى بداية التسعينات حين سقطت أقوى وآخر قلاعه وهي جامعة فاس في الهجوم المنظم والكاسح الذي شنه عليه أحد الفصائل الطلابية المنتمية للتيار الإسلامي. - طبيعة الجمعيات: جمعيات شمولية غير متخصصة لصعوبة تأسيس الجمعيات بسبب التضييق والتعسف من طرف الإدارة، أو بسبب هجوم اليسار المتطرف عليها، الذي كان لتفاديه لا بد من الإجراءات الآتية: التجنيد في الجموع العامة، إخفاء الإعلان عن هذه الجموع، عدم فتح العضوية أمام الأشخاص غير المعروفين... ثم كان هناك التوجه لتأسيس جمعيات وطنية (الجمعية الوطنية هي التي لها خمسة فروع على الأقل) ذات فروع في مختلف المدن المغربية لسببين: • لأن رئاسة هذه الجمعيات على مستوى المكاتب المركزية تكون من طرف القيادات السياسية البارزة التي لها وجود في الغالب في مؤسسات الدولة والتي تحظى بالحصانة وبالاحترام، مما يسهل ويشكل الغطاء السياسي لتأسيس الفروع . • الجمعيات الوطنية تمكن من الاستفادة من منح وزارة الشبيبة والرياضة . 3- المرحلة الحالية: مرحلة النضج والتطور هذه المرحلة التي ابتدأت من بداية التسعينات، اتسمت برغبة الحكم في إشراك اليسار في السلطة التنفيذية بعدما أثبت حسن نواياه في الثمانينات من خلال إدارته لمعظم البلديات الكبرى، هذه الإدارة التي لم تغير من الأمر شيئا، فهناك استمرارية الفساد الإداري واستمرارية التحكم غير المباشر للسلطات الإقليمية والمحلية. كانت المبادرة إذن من طرف الحكم، إذ سمح للكتلة الوطنية (تحالف حزب الاستقلال وثلاثة أحزاب يسارية برلمانية) بتقديم ملتمس الرقابة في أواخر الثمانينات والمذكرة المشتركة حول التعديل الدستوري سنة 1993، ثم اقتراح الوزارة الأولى على حزب الاستقلال ورفض باقي أطراف الكتلة، وبعد ذلك موافقة هذه الكتلة على دستور 1996 باستثناء منظمة العمل الديمقراطي التي دفعت ثمنا لهذا الموقف غاليا إذ كان سببا لانشقاق الحزب الاشتراكي الديمقراطي عنها، ثم انتخابات 1997 التشريعية التي أدت إلى تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أولا لحكومة التناوب (حسب الحكم والإدارة) أو حكومة التوافق الوطني (حسب الكتلة التي لم تحصل على الأغلبية وإنما تحالفت مع أعداء الأمس أي الأحزاب الإدارية)، ونفس الشيء تكرر مع انتخابات 2002 ولكن بوزير أول تقنوقراطي بدل التمديد لليوسفي. ولقد أدت المشاركة اليسارية في الحكومتين إلى خسائر كبيرة تمثلت في الانشقاقات الكثيرة، فمنذ 1996 تاريخ المصادقة على تعديل الدستور إلى الآن انشق عن الأحزاب اليسارية الثلاثة للكتلة خمسة أحزاب على الأقل خصوصا من طرف التيار النقابي، ولكن الانشقاق الأكبر والأهم كان هو انعزال وعزوف أعداد كبيرة من الأطر ومن المثقفين اليساريين والمتعاطفين والمتأثرين بالخطاب والفكر اليساريين، ولكن جزء لا بأس منهم خصوصا الذين كانوا عبارة عن زعامات فكرية في المرحلة الطلابية من عمرهم أو في حياتهم العملية والنضالية بعد التخرج، قاموا بتأسيس جمعيات متخصصة تعمل بالأسلوب العصري المهني، بينما الزعامات السياسية والنقابية استمرت في العمل الحزبي، سواء في أحزابها الأصلية أو في الأحزاب المتفرعة عنها. وهذه الجمعيات يمكن تقسيمها إلى قسمين كبيرين، هما: * الجمعيات الحقوقية: خصوصا في موضوع الدفاع عن حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق المتضررين من المرحلة التاريخية التي أطلق عليها بسنوات الرصاص... وكل هذه الجمعيات اعتمدت المقاربة الحقوقية وحققت إنجازات ضخمة في مقدمتها: عملية الإنصاف والمصالحة، وإصدار مدونة الأسرة، وتأسيس المحاكم المتخصصة خصوصا المحكمة الإدارية وقضاء الأسرة، وتأسيس ديوان المظالم... * الجمعيات التنموية: وهي جمعيات تشكلت أساسا من طرف الأطر التي لها تخصصات تقنية والتي عملت أو ما تزال تعمل في الإدارات التقنية العمومية. فمن هذه الجمعيات من تخصصت في مجال المحافظة على البيئة وأخرى في مجال دعم الأنشطة المدرة للدخل بواسطة القروض الصغرى وأخرى اهتمت بمسألة التكوين ودعم القدرات... ولكن الذي يميز هذه الجمعيات بصنفيها، مايلي: - التخصص: فهذه جمعيات متخصصة وبدون فروع في الغالب . - اعتماد مقاربة المشروع بدل النشاط: فتم إدخال ثقافة جديدة بحيث لم يعد السؤال عن الأنشطة وإنما عن المشاريع، والجمعيات النشيطة هي التي لها مشاريع كثيرة. والمشروع هو مجموعة أنشطة بينما البرنامج هو مجموعة مشاريع. - الاعتماد على تمويل المشاريع بدل دعم الجمعيات: وذلك من خلال التعامل المباشر مع المؤسسات المانحة التي أصبحت تفضل التعامل مع الجمعيات بدل الحكومات التي تعاملت معها في البداية مرورا بالجماعات المحلية. - معاداة العمل السياسي الحزبي: وذلك بسبب انعدام الديمقراطية داخل الأحزاب، وبسبب كثرة الانشقاقات التي يرجع أغلبها للعوامل الشخصية، وبسبب غياب نزاهة الانتخابات... - معاداة التيار الإسلامي: بسبب مخالفته للمبادئ العلمانية التي تؤمن بها. - المهنية واستعمال وسائل العصر وسيادة نوع من الشفافية في معاملاتها المالية، ولكنها لم تستطع الانتقال إلى المؤسساتية لأنها مازالت تعتمد على فرد أو فردين، وتستعين بكفاءات من غير الأعضاء أو التي ليس لها أية علاقة بالعمل الجمعوي أو السياسي. ب- التيار الليبرالي: المقصود بالتيار الليبرالي التيار الليبرالي التقليدي المحافظ، أما التيار الليبرالي العصري فبالكاد بدأ الآن مع بعض الأحزاب الصغرى، أما الأحزاب الكبرى فهي مازالت مستمرة في تقليديتها وفي محافظتها. يمكن تقسيم هذا التيار إلى قسمين: الأول يتمثل في حزب الاستقلال، والثاني فيما يسمى بالأحزاب الإدارية. ب.1- حزب الاستقلال: في بداية الاستقلال تركز نشاطه الجمعوي على الكشفية، ثم بعد ذلك تلخص نشاطه في فترة الستينات والسبعينات في الصراع على رئاسة اتحاد كتاب المغرب مع كل من الحكم واليسار. وفي الثمانينات تميز نشاطه في مبادرته المتميزة المتمثلة في قيامه بتأسيس جمعيات الأحياء أو وداديات السكان التي اتخذها كقاعدة انتخابية له، ولكن سرعان ما انكشف هذا التوجه، وانتشرت هذه الجمعيات بشكل كبير بعد ذلك من طرف كل التيارات السياسية ومن طرف الإدارة وحتى من الناس العاديين. ويكمن ضعف النشاط الجمعوي لهذا الحزب في الأسباب التالية: - الهجوم المتواصل على مؤسساته من طرف قوى اليسار، التي خاضت حربا استئصالية للوجود الاستقلالي سواء في الوسط الجمعوي أو في الوسط النقابي أو في الوسط الطلابي (الذي انسحب منه بشكل نهائي بعد تعرضه لمذبحة بجامعة محمد الخامس بالرباط أواسط الستينات). - تآكل الحزب بسبب التحاق عدد من أعضائه بالأحزاب الإدارية. - فقدانه للشرعية التاريخية المتمثلة في العمل الوطني لأن هذه الشرعية أصبح يشاركه فيها كل من الأحزاب اليسارية التي انشقت عنه، والأحزاب الإدارية التي أسسها بعض قادة المقاومة وجيش التحرير. - فقدانه للخطاب الديني بظهور التيار الإسلامي وباندماجه في الكتلة ذات الأغلبية اليسارية. بحيث أصبح الحزب بدون هوية تماما، لا هو إسلامي ولا ليبرالي ولا يساري. وعموما ما هو موجود أو ما استمر من عمل جمعوي لهذا الحزب ينحصر في الكشفية (التي تفرع عنها عدد من الكشفيات التابعة للأحزاب الإدارية) والمنظمات الموازية للحزب، خصوصا منظمة المرأة الاستقلالية والشبيبة الاستقلالية. ب.2- الأحزاب الإدارية: هذه الأحزاب التي تكاثرت في الثمانينات بسبب انخراط المعارضة (أساسا اليسار) في معترك الانتخابات البلدية والتشريعية. وبما أن هذه الأحزاب مكونة أساسا من فئات الأعيان والمقاولين، فإن أغلب جمعيات هذا التيار السياسي هي عبارة عن جمعيات مهنية، الهدف منها هو تشكيل جماعات الضغط على الحكومات أو اتخاذها قواعد انتخابية للسيطرة على الغرف المهنية ومن تم على المقاعد المخصصة لهذه الأخيرة داخل البرلمان، سواء في عهد ما كان يعرف بالثلث الناجي أو في عهد الغرفة الثانية. كما انخرطت هذه الأحزاب في الجمعيات الجهوية التي أسستها الإدارة والتي كانت تنعت ومازالت بجمعيات السهول والهضاب والوديان، وهي جمعيات كان الهدف منها: - في المرحلة الأولى، استقطاب الأطر العليا المتواجدة داخل الإدارة العمومية وبعض المقاولين الصغار وبعض العاملين في المهن الحرة، وذلك باستغلال العصبية القبلية أو الجهوية، لمنافسة العمل الجمعوي التابع للتيارات السياسية الأخرى، وللحيلولة دون انتمائها إلى أحزاب المعارضة أو التيار المتطرف أو التيار الإسلامي الصاعد، وذلك بواسطة الإغراءات المختلفة: الترقية، تقلد مناصب المسؤولية... - في المرحلة الثانية، استقطاب هذه الفئات كأعضاء داخل الأحزاب الإدارية التي تفتقد كثيرا للأطر العليا، وجعلها أطرا حزبية تقوم بإدارة فروع الحزب، وترشيحها في الانتخابات، والاعتماد عليها في تسيير الوزارات والجماعات المحلية الكبرى... وإذا كانت قد نجحت في تحقيق الهدف السياسي، فإنها لم تستطع تحقيق الهدف في المجال الجمعوي، فأداءها ظل ضعيفا بالرغم من الأموال الطائلة التي حصلت عليها ومازالت وبالرغم من استفادتها من أطر وموظفي الدولة التي فرغت للعمل في هذه الجمعيات. والسبب في هذا الضعف يرجع إلى: * فقدان الأطر المستقطبة للخبرة التنظيمية، لأن غالبيتهم لم تكن لهم سابقة في العمل المنظم، سواء في المرحلة الطلابية أو في الحياة السياسية والنقابية والجمعوية بعد تخرجهم. * غياب المشروع والقناعات المذهبية والتصورات المستقبلية. ج- التيار الإسلامي: هذا التيار ليس واحدا وإنما هو عدة اتجاهات وتنظيمات ولكن يمكن تقسيمه إلى تيارين: دعوي وسياسي. وأول ظهور منظم له كان في بداية السبعينات، وهو يمتاز حاليا بالخصائص الآتية: - تزايد مضطرد لعدد الجمعيات - إقبال كبير على أنشطته - تطور سريع في أسلوب ومجال العمل - فعالية كبيرة في مجال العمل الاجتماعي - الفصل الواضح بين العمل الجمعوي والعمل السياسي والنقابي - تمويل معتمد أكثر على التطوع والتبرع بحكم الامتداد الجماهيري - اكتسابه المتواصل للمصداقية من طرف المؤسسات المانحة الوطنية والدولية لنزاهته في التدبير المالي. أحمد الطلحي عن كتابه "ثقافة التنمية" الصادر بفاس سنة 2007 ""