في الوقت الذي يزداد فيه الحديث عن تأهيل الحقل الديني بالمغرب، وتستكمل فيه وضع اللبنات العقائدية (العقيدة الأشعرية)، والمذهبية (مذهب مالك)، والمؤسساتية (الزوايا والأضرحة) الداعمة لهذا التأهيل والمجسدة له، يكثر الحديث عن البنيات الفكرية والتنظيمية التي يراد لها أن تعاود اشتغالها بعد الاعتراف الرسمي بتراجع أنماط التدين المحلية، وبروز أخرى "غريبة" عن البيئات المحلية، لكنها متوافقة مع ما يشهده المحيط العالمي من عولمة لم ينج منها الدين ومتعلقاته من معتقدات وتمثلات وطقوس. "" بدايات التراجع ولا يرتبط الحديث عن تراجع الزوايا والأضرحة ببداية ظهور وانتشار الحركات السلفية، بل يرجع إلى ما قبل ذلك بكثير؛ فقد أدى التدخل الاستعماري الغربي إلى ردة فعل قوية ضد التقاليد الدينية الكلاسيكية، أي الزوايا والأضرحة؛ مما أدى إلى ازدهار الإسلام النصوصي المعتمد على القرآن والسنة باعتبارهما الأساسين الوحيدين المقبولين للسلطة الدينية، بحيث اعتبرت الحركة السلفية الوطنية أن ما تقوم عليه هذه المؤسسات من مربوطية وطرقية ما هو إلا هرطقة بالية، وهي معركة انتهت ليس إلى انتصار السلفية على مستوى المناقشات العلمية، وإنما أيضا على المناقشات الشعبية. استأنفت التنظيمات السلفية الجديدة عملها في السبعينيات، وأبانت عن قوتها في الثمانينيات بضرب المرتكزات الاجتماعية والثقافية والنفسية لهذا التدين، تماما كما كان الشأن بالنسبة للسلفية في صيغتها الأولى؛ مما كان له كبير الأثر على قدرة الزوايا لممارسة نفس الفعالية. ومن المسائل التي لها دلالة في هذا الباب اعتراف العديد من شيوخ الطرق ومقدمي الزوايا التي تمتلك مقرات داخل المدينة عن الدور المهم الذي لعبته هذه التنظيمات في محاربة التدين التقليدي بشكل أدى إلى انحصار ممارساته في مجالات جد ضيقة ومعزولة داخل المدينة. التراجع على مستوى الطقوس يمكن ملامسة تراجع الزوايا والأضرحة على عدة مستويات؛ فعلى مستوى الطقوس أصبحت هذه الأخيرة مفتقدة للكثافة التي يمكن بالاستناد عليها اكتشاف رمزية الطقس ودلالاته المختلفة، ومنها طقس قراءة دلائل الخيرات الذي يقوم من خلال جماعة عرفية تكونت لهذا الغرض، أي القيام بقراءة الدليل عشية كل يوم خميس بضريح سيدي بن سليمان الكائن بمدينة مراكش، بحيث ظهر واضحا افتقاد هذا الطقس للهالة الروحية اللازمة، والتي يمنع من تحققها أكواب الشاي التي توزع باستمرار، والضوضاء التي تصاحب دخول الزائرين، والفوضى التي تحدث عند دخول الأكل في نهاية القراءة. وعلى عكس ما كان معمولا به في الماضي، فقدت الزوايا والأضرحة دورها في استقبال الزائرين، وتوفير المأوى والمأكل والمشرب لهم، وأصبحت زيارتها لا تستغرق سوى دقائق متعددة يستغرقها الزائر في الجلوس قبالة مرقد الولي والدعاء له قبل أن يهم بالانصراف؛ مما لا يوفر فرصة لمسيري الزوايا وحفدة الأولياء وخدام ومريدي الأضرحة من إشاعة قدرات أجدادهم في إنجاز المعجزات، والدعاية لقدراتهم على الاستجابة لرغبات الزوار. وقد لا يشترك المسيرون والحفدة وسدنة الأضرحة في ممارسة هذه الدعاية، بل إن منهم من ينكر ما نسب إلى أجدادهم من قدرات خارقة، فإذا كان مقدم ضريح سيدي عبد العزيز قد دافع أثناء تواجدنا هناك عن قدرة الولي على مداواة الناس من الأمراض، فقد أنكر مقدم ضريح سيدي بن سليمان ذلك مكتفيا بالقول: "إن البركة الوحيدة التي تركها سيدي بن سليمان هي الدليل"، كما أنكر هذا الأخير أي مقدرة شفائية لما يقدم في الضريح من أشياء يتهافت عليها الحاضرون. وبالرغم من تراجع الإيمان بها فما زال الاعتقاد بالقدرات الخارقة للأولياء مستمرا في التواجد في بعض الزوايا والأضرحة؛ إذ تتميز الطقوس الممارسة عند طائفتي حمادشة وعيساوة بطابعها الاستشفائي المحض؛ فعند هاتين الطائفتين يظهر جليا أن الديني والسحري مندمجان كليا في عملية العبادة، ومن مظاهر ذلك استمرار اتباعهما في الاعتقاد بالعين الشريرة، والجن، والصلاح، واللعنة، وغيرها من بقايا الممارسات السحرية الكامنة داخل المعيش الديني للمغاربة، كما يوجد العديد من قارئات الطالع بجانب ضريح الولي الغزواني بحي القصور العتيق مقدمين خدمتهم لنسوة من مختلف الأعمار والمستوى الاجتماعي. إن من أهم التأثيرات الناتجة عن الدعاية السلفية أن صورة الأولياء لم تحتفظ في مخيلة العامة بنفس المكانة التي كانت تحتلها من قبل، فلقد أصبح أغلبية المريدين الذين تم استجوابهم لا يعرفون الشيء الكثير عن كرامات الولي الذي يزورونه بما فيها تلك الكرامات التي كانت تدخل في التراث الشعبي الشفوي المتداولة بكثافة حتى عهد قريب، وبالتالي لم تفقد ظاهرة الأولياء دلالاتها التاريخية والاجتماعية فحسب، وإنما كذلك ما يدخل في صلب تكوينها، وهو الجانب الأسطوري.تمثل الممارسة المتواجدة في زوايا الأولياء إذن بقايا طقوس استمرت في الوجود، بينما سقط معناها من الذاكرة الجماعية بفعل مرور الوقت، وتعاقب الأزمة، وانتشار معتقدات الإسلام الأصلية. التراجع على مستوى الانتشار وعلاوة على جانب المعتقدات فقد سجل بحثنا تراجع الزوايا والأضرحة أيضا على مستوى الانتشار، يظهر هذا من خلال تموقع هذه المؤسسات في طريقة انتشارها وتوزيعها؛ إذ أصبحت الزوايا والأضرحة تنحو نحو التشكل في فضاءات معزولة وضيقة؛ بسبب توسع المدن وامتداد أطرافها، حتى إن الطابع الصوفي الذي اشتهرت به هذه المدن يكاد يختفي ولم يعد معبرا عنه إلا من خلال مراكز دينية كثيرة، ولكنها معزولة وخافتة. ومن المعلوم أن الطقوس الدينية تحتاج ضمن ما تحتاج إليه من أجل ضمان استمراريتها إلى مجال ترابي مناسب واسع تكون البنى التي تمارس فيها هذه الطقوس بمثابة المراكز النابضة فيه، الشيء الذي لم يعد يتوفر بالنسبة للزوايا والأضرحة. فعلى مستوى الفضاء الذي يحتضن الزوايا والأضرحة، لا يلاحظ الزائر أي تأثير لهذه المؤسسات على الأحياء التي تحتضنها، حتى في الوقت الذي يقام فيه حفل المولد النبوي داخل هذه المقرات، تبقى تلك الأحياء في هدوء وسكينة فارغة من المارة، بحيث لا يستقطب الحفل إلا جزءا من الزوار الذين ينتمون إلى أحياء أخرى غير تلك التي يتواجد بها المقر. وحتى على مستوى بناية الزاوية أو الضريح فلا تكاد مداخلها تميز عن أبواب المنازل القديمة المجاورة لها؛ إذ تتخذ هذه الأخيرة شكلا هندسيا مقوسا مشابها، كما أن تواجد بعضها في عمق الأزقة يزيد من صعوبة العثور عليها ما لم يتم طلب الإرشاد. وبالمثل، أصبح الضريح لا يطبع محيطه بطابعه الخاص، بحيث تقل أو تنعدم المنتجات التي تعرض عادة في هذه المقرات، والتي يكون لها ارتباط بالطقوس المقامة في الضريح (شموع، وبخور، وفواكه جافة...) في مقابل تواجد بعض الحرف التقليدية (خياطة، وحدادة...)، وبعض الحوانيت التجارية (بقال- جزار- كهربائي...) والتي تعرض سلعا وخدمات عادية ليس لها علاقة مباشرة بالطقوس الممارسة داخل الضريح. أما على مستوى البنية الداخلية لمقرات التدين التقليدي فقد أصبحت الزوايا لا تضم سوى قاعة لممارسة العبادة وقاعة الضريح إذا كانت تابعة له، مع اندثار الزوايا الكبيرة المشتملة على عدد من المرافق كالجامع وملحقاته وقاعة الدراسة ومدارس السكنى، فبعدما كانت الزوايا مؤسسات تؤدي خدمات متعدد مثل التعليم الديني والإيواء والإحسان لم تعد سوى أمكنة يقوم المريدون فيها بعدد من التمارين الروحية التي صاغها الولي الدفين. ومن المؤشرات الدالة على ذلك الغياب التام للدروس والمواعظ حتى عن حفل المولد النبوي؛ حيث تقتصر الكلمات الملقاة بهذه المناسبة على التذكير بمناقب الولي، وبأهمية تمثل صوره، واستحضار معاني الورد الذي وضعه، والالتزام بقراءته، وعدم إرفاق ذلك بأي انشغال دنيوي آخر. التراجع على مستوى الأتباع وعلى مستوى قدرة الزوايا والأضرحة على تعبئة الأتباع، وعلى الرغم من المجهود الذي قامت به وزارة الشئون الإسلامية من أجل الدعاية لحفلات المولد النبوي، فلم تستطع المقرات المذكورة ملء مقراتها في هذه المناسبة التي كانت تشهد فيها الأنشطة الدينية ذروتها فيما مضى, فعلى سبيل المثال وصل عدد الحاضرين حفل الميلودية بالزاوية النظيفية حوالي 450 زائرا فيما لم يكن الحضور اليومي يتعدى عشرة أشخاص، أما الزاوية الكنسوسية فلم يبلغ الحضور 300 شخص، وهو عدد لا يكاد يتجاوز عدد المؤدين لصلاة عادية في مسجد كبير. وفي ضريح سيدي الزوين بنواحي مدينة مراكش، وعلاوة على قلة الحضور في الحفل المذكور لاحظنا غيابا شبه كامل لطلبة المدرسة الملحقة بالضريح؛ حيث لم يتجاوز عددهم الثمانية، ولم يلتحق البعض الآخر إلا عندما تم نقل مكان الحفل إلى قاعة مجاورة تم فيها تناول الطعام ليصل العدد الإجمالي للحضور إلى 36 شخصا. أما في ضريح سيدي عبد العزيز الكائن في قلب مدينة مراكش، فقد كان عدد المتواجدين ليلة المولد النبوي هو نفسه الذي يزور الضريح في الأيام العادية، وذلك بمعدل 60 زائرا لليوم الواحد، وغالبيته من النساء اللواتي يقصدن مرقد الولي للتداوي ببركته وبركة حفدته من النساء اللواتي يقمن بهذه الخدمة عن طريق التناوب. ومن المؤشرات الدالة على تراجع القدرة التعبوية للأضرحة والزوايا عدم توفر هذه الأخيرة على أتباع خاصين لكل زاوية أو ضريح يقومون بإحياء حفل المولد النبوي في مقراتها، بل إن الجماعة العرفية المسماة دلائل الخيرات والتي تتكون من 40 شخصا هي التي تقوم بهذه المهمة في العديد من الزوايا والأضرحة، فتوازيا مع قيامها بمهمتها الرسمية، وهي قراءة الدليل في ضريح سيدي بن سليمان أسبوعيا عشية كل يوم خميس، يقوم الجماعة بإحياء حفل الميلودية في كل الأضرحة السبعة، وفي بعض الزوايا في أيام الأسبوع التي تلي يوم المولد النبوي.ومن اللافت للانتباه الغياب البارز لفئة الشبان عن حفل الميلودية الذي يقام في مقرات الدين التقليدي؛ إذ تتراوح الفئة العمرية الحاضرة بين 45 و70 سنة، وبالكاد لمسنا حضورا شبابيا في الحفل الذي أقيم في الزاوية الكنسوسية ممن يتقنون إلقاء فن المديح، لكن هده الفئة تبقى قليلة بالمقارنة مع ال300 فرد الذين حضروا الحفل. تراجع الموارد المالية وتمثل موارد الزوايا والأضرحة جانبا آخر يتضح من خلاله تراجع مقرات التدين التقليدي؛ فقد تمثلت أهمية الزاوية والضريح في تعبئتهما لموارد مالية يستفيد منها سلالة الولي والقائمون على شئون الزاوية، بحيث يعيش المعوزون من هؤلاء بعين المكان، ويتناوبون تباعا على الاستفادة من الإحسان الذي يقدم للضريح، ومن مداخيل الزيارات اليومية، والمناسبات الدينية، وإيرادات عيادات العلاج والاستشفاء، بحيث تكمن وظيفة مقدم الزاوية أو سادن الضريح في توزيع الحصيلة اليومية على المعنيين بحضور جميع الأحفاد، خلافا لصندوق الزاوية الذي يتكلف به مقدمها. وتتوفر مقرات أخرى على موارد أكثر أهمية أبرزها مقر ضريح أبو العباس السبتي الموجود بمدينة مراكش؛ وذلك بفضل مداخيل السياحة الدينية، والهبات المتعددة التي يتلقاها من عدة جهات من أهمها: الهبات الملكية، والمداخيل المستخلصة من عمليات العلاج والاستشفاء، وتزيد من وفرة هذه المستخلصات الطريقة العصرية المتبعة في تنظيم هذه الموارد وتوزيعها حسب المستحقين لها، بحيث يقع تسجيل هؤلاء في سجلات ملفات خاصة، كما يتوفرون على بطائق للاستفادة تمكن من عقلنة توزيع المداخيل. ومن أثاث الزاوية الكنسوسية وسمت مريديها يظهر يسر حال الزاوية، حتى إنها استعانت في تنظيم الميلودية بطاقم محترف مؤد له، وترجع هذه الوضعية إلى شيخها الذي هو في نفس الوقت مؤذن القصر الملكي بالرباط مما يمكنه من تعبئة الموارد المالية لزاويته. لكن هاتين الحالتين مجرد استثناء من أوضاع تتميز بالضعف العام للإمكانيات الذاتية لمقرات التدين التقليدي بمراكش، وهو حال بدأ مع وضع "النظارة" أيديهم على معظم أملاك الزوايا المحبسة لصالحها، وتحويل أرباحها إلى الميزانية العامة لوزارة الأوقاف، تلك المصاريف التي كان من المفروض أن تدبر محليا، وأن تكون مصدرا أساسيا تستفيد منه دور العبادة على الصعيد المحلي، زد على ذلك أنه في مقابل استيلاء النظارة على هذه الأملاك، فإنهم لا يقدمون سوى النزر اليسير للزوايا، ويتمثل في تمويل بعض أعمال الترميم البسيطة، وتأدية فواتير الماء والكهرباء، والتزويد بالحصير بدون أن تشمل هذه الخدمات جميع الزوايا. أما فيما يخص الأضرحة فتقتصر النظارة على أداء أجور أئمة وقيمي المساجد التابعة للضريح، وغيرها من المصاريف التي تستفيد منها المساجد الأخرى، لتبقى مصاريف الضريح عالة على ما يتلقاه حفدة الولي من إحسان، ومدى تصريف مقدار هذا الإحسان من لدن هؤلاء، إلى جانب ما تتلقاه أضرحة الأولياء السبعة من هبات ملكية، ليبقى الدور الحقيقي للنظارة محصورا في مراقبة ما يقام في هذه المقار من ممارسات دينية على جانب التدخل لحل النزاع الذي قد يحدث بين الحفدة عند توزيع الفتوح (المداخيل). على أن دعم الجهات الرسمية بقي في معظمه سلبيا ومضمونه عدم المنع والسماح بالوجود، وقد تطور مؤخرا إلى دعم دعائي لما يقام في الزوايا والأضرحة من مناسبات دينية والتي تلقى ترويجا إعلاميا من طرف أجهزة الإعلام الرسمية الوطنية والجهوية، خصوصا إذا حظيت بزيارة لبعض المسئولين الكبار وبعض الموظفين الساميين. *باحث في جامعة الحسن الثاني، الدارالبيضاء، المغرب. إسلام أونلاين.نت