قطيعة في الرهان على الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل صدر حديثاً عن «منتدى المعارف» كتاب بعنوان «قراءة النص الديني عند محمد أركون» لعبد المجيد خليقي. والكتاب يسلط الضوء على المنهجية الأركونية من خلال المزاوجة بين الدراسة التحليلية للخطاب الأركوني من جهة والممارسة النقدية من جهة ثانية، هذا فضلاً عن إدخال منهج المقارنة، وهو منهج كبير وشامل، بين فكر أركون أو منهجه وبين غيره من المفكرين الآخرين الذين يقاسمونه التصور نفسه. الكتاب قراءة يعتبرها المؤلف تجديدية حداثية للمشروع الأركوني بوصفه مشروعاً له منهجه ونظريته وفلسفته ورؤاه الفكرية، كما له مقاربته للأفكار الأخرى المطروحة في إطار حاجة الواقع العربي الى مشروع تنويري يسلط الضوء على مشاكل الأمة العربية المستديمة ومحاولة ايجاد حلول لها. في الكتاب قسمان وتسعة فصول مع خلاصة ومقدمة واستنتاجات ثم خاتمة تركز على أهم الخلاصات والنتائج التي توصل اليها المؤلف في كتابه مع الإشارة الى أن الكتاب هو في الأصل موضوع رسالة جامعية تقدم بها المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت إشراف الدكتور محمد سبيلا. موضوع متشعب على الرغم من أن الدراسة محصورة في الجانب المنهجي من الفكر الأركوني ولجهة المنهج المعتمد، المنهج المقارن، فهو منهج صعب جداً ولا يُلمّ به سوى الأساتذة الأكاديميين الكبار المتخصصين في مثل هذه الدراسات المعمقة والتي تحتاج إلى الكثير من التمارين الذهنية والإجراءات ليكون تصميم البحث منجزاً، الى صعوبة الموضوع أصلاً وغياب الدارسات المنهجية المتابعة والرائدة في هذه الميدان. لذلك يسجل للأستاذ عبد المجيد خليقي مجازفته وتجاوزه الصعوبات ومغامرته الذاهبة في البحث في الموضوع وهذا المشوار المعرفي الجريء في ترجمة فكرية لمحمد أركون صاحب المصطلحات التي تحتاج بدورها الى ترجمة أخرى الى العربية. فكانت ترجمة الترجمة في هذا الإصدار القيم. النص التأسيسي لقد أطلق النص الإسلامي التأسيسي محاولات عدة لفهمه وتدبر معانيه فجاءت في شكل قراءات تنهل أساساً من علوم القرآن وتعتبر النص الديني بنية معلنة تكفي الأدوات اللغوية لفك رموزه وطلاسمه، وبالتالي هذه القراءات تندرج كلها ضمن القراءة التراثية، ومن داخل النص وتمزج ما بين المنهجي والعقائدي متغافلة عن التاريخي والنقدي، أي إطار اجتهادي لا يخرج عن منظومة النص وينتظم وراءه، أي قراءة ماضوية. القراءة الأركونية تنتظم في صف هذه القراءة وتتجاوز أطرها التقليدية السائدة بروحية نقدية تتبع خطواتها ولها خصوصيتها التي تميزها عن غيرها من القراءات المعاصرة الأخرى ومن سماتها: تحليل الخطاب الديني أو تفكيكه من دون إبطال التفاسير السامية.إبراز النظام المعرفي الذي يحويها. من هنا عندما توجه القراءة الأركونية بالنقد للخطاب الموروث فهي تحاول تفكيكه على غرار «الداروية»، موظفة عدة منهجيات من علوم إنسانية واجتماعية لتجاوز «السياج العقلي المغلق»، الذي كان وراء تحجيم النص الديني وحجب مقصديته المتفتحة على الكون والإنسان. القراءة الأركونية تعيد ترتيب الأولويات أو تضعها على خط بياني مفصل أكثر: الله، الإنسان والكون، مفسحة مجالاً أكثر للحرية الإنسانية المشروطة بالفاعل القدري أو الميتافيزيقي. بمعنى آخر هي تبرز العلامة التواصلية المفتوحة بين النص والمتلقي، الذي يأبى إلا أن يخضع النص القرآني باعتباره نصاً لغوياً للمنهج الألسني أولاً، قبل إخضاعه للمنهج الأنثربولوجي آخذاً في الاعتبار، مفهومه التاريخي الذي ينبغي أن يخترق النص وموظفاً علم الأديان المقارن بهدف فهم ظاهرة الوحي في السياقات الدينية التوحيدية الثلاثة: (اليهودية والمسيحية والإسلام)، كما تتجسد في الخطاب البنيوي باعتباره مفهوماً يميل إلى البنية اللغوية والسيميائية للنصوص لا إلى التعريفات وتأويلات لاهوتية عقائدية. آليات التفكير القراءة الأركونية تعري آليات التفكير الواعية واللاواعية وتميز بينها وتزرع شيئاً ما يتحكم بها وتفتح مسألة الوحي موضوعاً للتحري النقدي انطلاقاً من وجهة نظر أركون للأرضية المفهومية للعلوم الإنسانية لدى المتلقي المسلم. المتتبع للقراءة الأركونية في سياق البحث يرى نزوعاً ليبرالياً ما، ولكن ليس على حساب الحقيقة الدينية نفسها، بالعكس هي موجودة في كل المكان. لكن في رهان آخر حداثي أكثر على المعنى الاستراتيجي مع إمكانية التمييز هنا بين المعنى التكتيكي الذي يمكن تفكيكه وبين المعنى الاستراتيجي ببعده اللاهوتي والذي يمكن أيضاً مقاربته أكثر من البعد اللاهوتي الأرثوذكسي، وعلى اعتبار الأخير هو مصدر للشرعية. لهذا المعنى القراءة الأركونية ترفض المصادرة التقليدية بصدد وحدة النص والمعنى مؤكدة على التفاعل الجدلي بين النص والقارئ، آخذة في الاعتبار أفق انتظاره، اي كسراً لحالة «طربية» ما في القرآن وفق تنظير واحد من كبار المفكرين الأرثوذكس في لبنان، ويطور أركون منظوراً نقدياً قاعدته الحوار، العقل الديني الإسلامي، العقل أولاً الذي يروم تحليل المعرفة ويكون العنصر الجاذب اليها ولفحص أسس التفكير وآلياته، وبحثاً في كيفية انتاج المعنى الأساسي، أي جوهر الأشياء والخطاب الديني. هل هي منهجية القطيعة التي بدونها لا يمكن الوصول الى عصر الحداثة؟ هي قطيعة لا تقوم على الإمحاء يقول أركون، هي قطيعة مع القراءة التراثية وقطيعة مع الفكر الإسلامي التقليدي الذي يدخل في استمرارية اسيتيمولوجية وابستيمية مع الفكر الإسلامي التقليدي، وهي قطيعة في الرهان على الماضي لحل مشاكل الحاضر والمستقبل. إنها دعوة أركونية للتفكير بالظاهرة الإسلامية وليس بالإسلام مباشرة، لأن الإسلام ليس إلا أحد تجلياتها. ولكن وجب التمييز هنا في القراءة الأركونية والقراءة الاستشرافية، وأركون لا يرفض الاستشراف جملةً وتفصيلاً، لا بل يدعو الى الإعراض عن إدانته بشكل عشوائي انطلاقاً من رفض الآخر ككل. هل هو مشروع محمد أركون الذي يسعى لتحقيقه مشروعاً نقدياً للعقل الإسلامي ومنهجاً منجزاً؟. من الصعب الحسم بالأمر، فالمنهج المقارن شاسع جداً ويحتاج الى مقاربات شتى، والموضوع شديد الحساسية لجهة القطيعة المعرفية الكبرى بين مناخين فكريين: الفكر العربي الإسلامي الكلاسيكي المنغلق، والحداثة العقلية، باعتبار القراءة الأركونية قراءة حداثية. لكن في المقترح العام فتح العقلية الإسلامية المغلقة وتأهيلها للانخراط في صلب الحداثة، وتطبيق المنهجية التاريخية على الدراسات القرآنية. ويقول أركون: «يتعين على المؤرخ أن يفسر بشكل تاريخي الروابط الكائنة بين البنية الانتروبولوجية للتخيل وبين التوجهات السياسية والطقوس التي تتجاوز الدين الأرثوذكسي». ولكن ماذا عن الخطوات الإجرائية: اللسانيات بشقيها الثبوتي والتطوري، والقاعدة الاجتماعية التاريخية للتراث المدروس وجمالية المتلقي باعتبارها دراسة تقول بالتفاعل الجدلي بين المرسل والمتلقي. ثم الدراسة الأنثربولوجية التي تعمق منهج المقارنة والمماثلة. بعدها تأتي المقاربة الفلسفية، ثم في الأخير يأتي الطرح اللاهوتي باعتباره آخر خطوة منهجية ينبغي أن تتوج بها هذه القراءة الأركونية متعددة المشارب. مركّب هذا برنامج مركّب يتطلب إنجازه وقتاً، كما يتطلب تضامناً جماعياً للحقيقة. من هنا دعوة أركون إلى إنشاء علم تاريخ جديد للأديان يجمع البعد الأسطوري والبعد التاريخي النقدي ثم البعد الفلسفي. هذا اجتهاد بحثي معرفي، وتأطير علمي يراعي التعدد المنهجي والعقلاني، ولأركون نظريته الى برامج التعليم وما يمكن أن يؤسس لنهضة عربية أو لحركة تنويرية تأخذ في حسابها منجزات التراث المضيئة وكذلك منجزات الحداثة الغربية. المهم أن وراء مشروع أركون نظاماً فكرياً، والسياسة الحكيمة هي في فن تنظيم الأفكار وضبط آلياتها وخارطة الطريق معروفة تياراتها: العقلانية الدينية وهي عقلية إيمانية. العقلانية السيكولوجية ويمثلها علي زيعور وجورج طرابيشي. وهناك العقلانية النقدية وهي عقلانية تعتمد الحداثة معياراً لها للتعامل مع التراث ومن ممثليها: عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون، رغم ما بينهم من لونيات اختلافية. فبالنسبة للجابري أولوية النقد منصبة على العقل، وبالنسبة لعبد الله العروي الرباط مع التراث الإسلامي انقطع نهائياً والاستمرار الثقافي به يؤدي الى سراب. كلا الباحثين الجابري والعروي يجمعان على ضرورة تجاوز النكسة التي حاقت بالأمة العربية الإسلامية وضرورة ربط مشروع النهضة بمسألة التنوير، والأمة العربية مؤهلة بعمقها التاريخي أكثر من غيرها للتحدث عن مشروع نهضوي- تنويري. أما أركون محور الدراسة هذه فلا تختلف عقلانيته عن عقلانية الجابري والعروي، لكن لها خصوصيتها وضوابطها وخيارها الاستراتيجي. ومن هنا يمكن القول إنها أكثر عمقاً استراتيجياً من سابقاتها، ومن هنا يمكن الحديث عن تكامل لهذه الأوجه من العقلانية النقدية التي على عاتقها اجتراح الأفكار والحلول والمشاريع النهضوية وإن قامت على جملة فرضيات ضمنية أو صريحة منطلقاً لقراءات متميزة في الدراسات الإسلامية وفي الفكر العربي المعاصر، وعلى تصورات جديدة للإسلام تتجاوز التصورات الاقنومية السابقة له في مقاربة الوعي الإسلامي المعاصر، وفي نقد العقل الديني لفهم الإسلام اليوم وتفكيك التراكمات التراثية وفي السعي الى طريق التعايش السلمي للثقافات والأديان. جهد بحثي كبير لعبد المجيد خليقي حول أحد العلماء المعاصرين في العالم العربي وهو المعارض القوي لإطروحة صراع الحضارات، يكفي موقفه الذي يرى أن الغرب خلق صورة للثقافات الإسلامية لم تتغير منذ القرون الوسطى، ومن أهم ما طرح أركون تنبيهه الى أن «العاصمة الإسلامية بغداد كانت من أكثر المدن حداثة في الوقت الذي انطفأت فيها الأنوار في أوروبا». بالمحصلة يرى أركون أن المجتمع الإسلامي لم تتوفر له الفرصة لممارسة تنويره الخاص والذي هو بحاجة ماسة له. كما يرى ضرورة التمييز بين الإسلام كإطار ميتافيزيقي للتأمل وبين العقائد الخصوصية للمسلم المتدين، وبرأيه أن التراث الفلسفي منذ أرسطو يميز بين التأمل الميتافيزيقي وبين البحث اللاهوتي، وهذا التمييز ينطبق على الأديان التوحيدية الثلاثة. وهذا هو الصراع منذ القرون الوسطى بين العقل المستقل والنقدي والعقل الخاضع لمنطق الوحي. والتأمل يعود الى عقلنة العقائد والأيديولوجيات لا سيما وأن العقل اللاهوتي كان أكثر صرامة وحيوية وإبداعية في الإسلام منه في المسيحية، ومن هنا أهمية تطبيق المنهجية التاريخية والاجتماعية للخروج من القوقعة المحافظة والدوغمائية. * عن المستقبل