اعتبرت فعاليات فكرية وثقافية رحيل المفكر الكبير محمد أركون ، الذي وافته المنية مساء يوم الثلاثاء بالعاصمة الفرنسية، خسارة كبرى للفكر العربي والإنساني، بالنظر لمشروعه الفكري الذي فتح أوراشا فكرية هامة وكذا لخصائص كتاباته ورؤاه. أكدت هذه الفعاليات في تصريحات لوكالة المغرب العربي للأنباء يوم الأربعاء، أن التراث الفكري للراحل يشكل نبراسا للأجيال الحالية والمستقبلية، التي هي في حاجة إلى فكر متنور كالذي أنتجه محمد أركون. وفي هذا الصدد ، أكد المفكر والباحث الجامعي محمد سبيلا ، أن محمد أركون يعد من أبرز المفكرين العرب الذين أخضعوا التراث للفحص النقدي انطلاقا من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة وعلى رأسها اللسانيات والإبستمولوجيا والسيميولوجيا والأنتربولوجيا وعلم الأديان المقارن وغيرها من الأدوات الفكرية والمنهجية المستقاة من العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة. وأبرز في هذا الإطار، أن أركون استعمل العديد من المفاهيم المستقاة من هذه العلوم كمفاهيم « العقل» و « المفكر فيه » و «اللامفكر فيه» و «النسيان الاجتماعي»، و«الإبيستيمي» (البنية الفكرية) وغيرها من المفاهيم التي استخدمها كمباضع لتحليل بنية الفكر العربي الإسلامي. وقال سبيلا إن تحليلات الراحل اتسمت أساسا بنكهتها الحداثية، ذلك أنه لم يقدم نفسه كمجرد مؤرخ للفكر العربي الإسلامي، بل تعمد عن وعي أن يتخذ موقف المؤول والمحلل لمكونات وبنيات هذا الفكر انطلاقا من توجه حداثي نقدي. وهكذا ، يضيف سبيلا، جاءت أحكامه وتحليلاته لهذا الفكر و أو لما يسميه هو «العقل الإسلامي » متسمة بالكثير من الجرأة والإقدام وإصدار أحكام تتسم بنزعة نقدية قوية، حيث إنه يرى أن الفكر العربي الإسلامي ظل أسير مكوناته التقليدية ولم يطور أصوله وجذوره. فأركون يرى أن الفكر العربي مر بمرحلتين، أولاهما مرحلة التجديد المرتبطة بالقرنين الأوليين من الإسلام استعار فيها المفكرون والفقهاء العرب العديد من الأفكار اليوناينة والمعارف المستقاة من ثقافات أخرى، فحققوا نوعا من التجديد والتطوير في الفكر الإسلامي،فيما المرحلة الثانية هي مرحلة الجمود، حيث تجمدت الاجتهادات وتكلس إطارها الفكري وأصبحت اجترارا وتكرارا وترجيحا للبداهات والمسلمات. وأضاف أن أركون كان يعتبر أن مهمته الأساسية تتمثل في إعادة الروح التجديدية ل«العقل الإسلامي» والعمل على تطويره وتنويره في اتجاه اكتساب ما كان يسميه بالحداثةالثقافية والفكرية. وتهدف «جرأة أركون المعرفية» -حسب تعبير سبيلا- والتي تمثلت في اقتحام النصوص التقليدية عبر أدوات العلوم الإنسانية، إلى تشريح مكوناتها وهو بذلك من أكثر المفكرين العرب المعاصرين جرأة في نقد العقل الإسلامي على غرار محمد عابد الجابري والطيب التيزيني وحسن حنفي وحسين مروة. وإذا كان سبيلا قد ركز على جرأة أركون المعرفية، فإن الباحث والإبستمولوجي محمد وقيدي اعتبر من جهته أن الراحل تميز باستمرار موقفه النقدي لما دعاه ب«العقل الإسلامي» ويقصد بذلك من جهة بنية العقل الإسلامي الذي نشأ وتكون في إطارها أي الثقافة الإسلامية،ومن جهة ثانية العقل الذي أنشأ وطور هذه الثقافة . وتميز مشروع أركون، يقول وقيدي، بامتداد نقده الى العقل الاسلامي المعاصر ، وربما يمكن القول ، يضيف وقيدي ، إن نقد العقل الإسلامي الوسيطي كان الهدف منه هو معرفة ونقد العقل الإسلامي المعاصر. وضمن هذا المشروع قرأ أركون الإنتاج الإسلامي، كما درس قضايا إسلامية معاصرة، كما أن للنقد الأركوني، في رأي وقيدي، وجه آخر وهو أنه كان يدعو الى تطبيق المناهج المتطورة في العلوم الإنسانية وعلى النصوص الإسلامية كالتاريخ وعلم النفس واللسانيات(...). وقال الاستاذ وقيدي، الذي تعرف على أركون سنة1976 وجمعت بينهما صداقة كبيرة، إن أركون ظل يدافع عن مشروعه النقدي الذي كان يراه مفتاحا لتحديث المجتمعات الإسلامية انطلاقا من فهم قضاياه فهما معاصرا، مضيفا أن مشروع أركون «مشروع كبير أخذ عرضه حدا أكثر من حد تطبيقه» . واستطرد أن هذا لا يعني أن أركون لم يكن يهتم بالتطبيقات، بل على العكس من ذلك فله كتابات تعتبر «دراسات تطبيقية» خاصة عندما درس على سبيل المثال النزعة الإنسانية في الثقافة الإسلامية ومن زاوية أخرى، يرى محمد الصغير جنجار ، مدير مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية ومدير مجلة( مقدمات) أن الراحل استطاع بفضل انفتاحه الفكري وتمكنه من مختلف العلوم المرتبطة بالفكر الإنساني أن يسهم في فتح أوراش فكرية وطرح أسئلة منهجية كبيرة ، شكلت حدثا جديدا في معاهد الدراسات الدينية في العالم العربي، والتي كانت تعتمد مقاربات تراثية تقليدية تعتبر، حتى في جانبها الأكثر تبلورا، مجرد إعادة إنتاج لأسئلة وخطابات العلوم الدينية كما أنشئت في الفترة الإسلامية الكلاسيكية. وأوضح بهذا الخصوص أن مسار محمد أركون تميز بعمله الدؤوب على إرساء قواعد الدراسات الإسلامية الحديثة، أو ما أسماه «الإسلاميات التطبيقية» عبر إحداث دمج ديناميكي للترسانة المفاهيمية والمنهجية للعلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة في حقل الدراسات الدينية الحديثة. فيما أبرز الشاعر محمد بنيس ، أن محمد أركون ، الذي تعرف عليه قبل حوالي ثلاثين سنة، يشكل وجها مشرقا للفكر والثقافة العربية و« اختيارا نحتاج إليه للمضي بشعوبنا نحو زمن عربي جديد». واعتبر أن الرسالة التي حملها أركون، وشغلته طيلة حياته الفكرية ،هي «رسالة موجهة لكل واحد في العالم العربي ولا تقتصر على خطاب النخبة » مؤكدا أن أعمال هذا المفكر،الذي طبعت إسهاماته الفكرية مسارات أجيال متتالية من المفكرين والمثقفين العرب في العقود الأخيرة ، تعبر عن رؤية جديدة للإسلام تقوم على الدعوة إلى انفتاح الفكر الإسلامي والعربي وإعادة النظر في المسلمات التقليدية التي يقوم عليها حتى يتمكن من أن يستعيد تلك الشعلة الكبرى التي جعلت منه منارة لباقي الحضارات، ودوره كموجه للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية داخل الوطنين العربي والإسلامي. وقد ترك الراحل ، الذي توفيّ عن عمر يناهز82 عاما بعد معاناة مع المرض، مكتبة واسعة من المؤلفات من بينها ( الإسلام: أصالة وممارسة) ، ( تاريخية الفكر العربي الإسلامي) أو (نقد العقل الإسلامي) و( الفكر الإسلامي: قراءة علمية ) و( الإسلام: الأخلاق والسياسة) و ( من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي) و(الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة) و( نزعة الأنسنة في الفكر العربي) و( قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ) .