انقسام الصف الفلسطيني قاس، مؤلم، مخيب للآمال، مؤثر على مسار القضية وعلى طموح الشعب الفلسطيني وتعاطف الشارع العربي والإسلامي. أما الطريق إلى المصالحة ولملمة جراح الانشقاق بين أهل البيت حركتي فتح/ رام الله، وحماس/ غزة، فبدورها شاقة، متعبة، معقدة ومتشابكة الخيوط، تتطلب من الدولة صاحبة المبادرة التوفر على ثقل سياسي وقرب جغرافي ودعم مالي ودور إقليمي فاعل للتدخل، فضلا عن العلاقات المؤثرة في أصحاب القرار الفلسطيني ومن يقف خلفهم ومن حولهم. فمن دون حضور هذه المعطيات سيكون صاحب المبادرة محكوم عليه بالفشل، ولن يزيد الصف الفلسطيني إلا تشرذما، تتراكم معه المحاولات الفاشلة للمصالحة، ويحرج قياداتها أمام الشارع الفلسطيني والعربي، وأمام أنظار دول العالم المتعاطفة أو الملتصقة بالقضية، اللهم إلا إذا كانت لصاحب المبادرة نوايا وأهداف أخرى خارج السياق الفلسطيني. ومن خلال متابعة للسجل الطويل لحوارات المصالحة الفلسطينية الذي بدأ بالقاهرة وانتهى بالجزائر، مرورا باتفاقات القاهرة في مناسبات أربع، ثم مكة فصنعاء والدوحة والحوارات الداخلية وأخرى باسطنبول 2020، نخرج بخلاصة مفادها أن من يريد اقتحام دروب المصالحة عليه أولا إيجاد إجابات عن الإكراهات والمعوقات التي تحول دون إنهاء الخلاف، قبل الدفع بالفلسطينيين إلى حفل توقيع جديد، يدرك صاحبه جيدا أنه لن يكون سوى حبر على ورق. فالخلاف بين الطرفين الرئيسين فتح وحماس عميق تجدر، استقوى وطال أمده ، فهو غير مرتبط فقط بالتنافس على من يقود المؤسسات الفلسطينية بدءا من الرئاسة إلى المجلس التشريعي فالمجلس الوطني والبلديات، بل المشكل أعمق من ذلك بكثير، إذ يتعلق بجوهر القضية وكيفية تدبير شأنها وتقرير مصيرها. فبينما ترى حركة "فتح" أنه بعد تجربة أكثر من 70 سنة من الكفاح، فلا سبيل للحل سوى باعتماد لغة الحوار والتفاهم مع إسرائيل ونهج طريق السلام " أوسلو وما تلاها من اتفاقيات.." والانخراط في الجهود الدولية والمبادرات للتوصل إلى السلام، ولو على حساب الثوابت كالاعتراف بدولة إسرائيل والتنسيق معها في الشؤون الأمنية والعسكرية والاقتصادية والمالية وغيرها، تقف حركة " حماس" على الطرف النقيض، بتأكيدها أن تحرير فلسطين لن يأتي سوى بالمقاومة المسلحة والعمليات الاستشهادية والانتفاضات وضرب المستوطنات، والكفاح ضد قوات الاحتلال، فلا اعتراف بإسرائيل بل فلسطين كاملة بعاصمتها القدس. ومما زاد من تأزيم الوضعية، وصول حركة حماس إلى سدّة الحكم بفعل الانتخابات التشريعية التي جرت في يناير 2006، وتمكنها من السيطرة بالكامل على قطاع غزة وإدارة شؤونه بمعزل عن السلطة الوطنية الفلسطينيةبالضفة الغربية، لما يقرب من 15 سنة، استقوت خلالها حماس بدعم من بعض الأطراف العربية. وقد أثر هذا الانفصال على الأرض بظهور سلطتين منعزلتين بكل من الضفة الغربيةوغزة كل منهما يتحدث باسم الشعب الفلسطيني. ماأاا فاجأت الجزائر المراقبين منذ مطلع السنة بالدخول على الخط، والعجلة في التحرك في اتجاه القضية الفلسطينية والتقارب مع قادتها، ثم الانتقال إلى إطلاق مبادرة للمصالحة بين قيادة حركة فتح وحركة حماس، والترتيب لإجراء لقاء بالجزائر بين قيادتي الحركتين بغرض إصلاح ذات البين. تزامنت هذه المبادرة مع استعدادات الجزائر لاحتضان القمة العربية مطلع شهر نوفمبر القادم. وقد تمخضت اجتماعات المصالحة، عن التوقيع (13 أكتوبر الجاري) على إعلان الجزائر، وسط أجواء فرح وانشراح أبرزتها صور العناق الحار والشد على الأيدي وتبادل عبارات التعاطف والتضامن. إعلان يبدو أنه جاء نزولا من الفلسطينيين عند رغبة الرئيس الجزائري عبد العزيز تبون الذي يستعد لاستقبال القمة العربية بعد أيام، لاسيما بعدما تبين أن الاجتماعات انتهت في هدوء دون صخب أو مفاوضات عسيرة تجنبا للاصطدام بمسببات الأزمة. فكيف كانت مجريات الحوار وما دور الوسيط الجزائري في التقريب بين الطرفين؟ يبدو أن الوساطة انحصرت في صياغة بيان محدود في شكله ومضمونه، مرضي للجانبين الجزائريوالفلسطيني. وفور صدور إعلان الجزائر حامت الشكوك حول مدى قدرته على تحقيق الأمنيات المتضمنة له، وأجمعت آراء المراقبين على أن مصيره سيلقى مصير بقية الاتفاقات التي جرى التوقيع عليها سابقًا، والتي ظلت معلقة، بحكم الشرخ عميق والبون شاسع في المواقف الفلسطينية، ليس من السهل القفز عليه. فكفى صياغة البيانات التبشيرية وضجيج المنابر رأفة بالشعب الفلسطيني. لقد تتبعت جهود المصالحات السابقة ودققت في مخرجاتها، فوجدت أن اتفاق مكة للمصالحة فبراير 2007 بإشراف المملكة العربية السعودية، ذهب بعيدا بأربع نقاط فقط، عندما أكد على أهمية الوحدة الوطنية كأساس للتصدي للاحتلال، واعتماد لغة والحوار وتحريم الدم الفلسطيني، كما حدد خطوات عملية فورية، لما وضع أسس تشكيل حكومة وحدة وطنية وتوزيع المناصب الوزارية بين فتح وحماس وشخصيات مستقلة، والبدء بالإجراءات الدستورية لتشكيل هذه الحكومة، كما حرص اتفاق مكة على استحضار العواصم العربية المؤثرة في أصحاب القضية، عبر الإشادة بالجهود المصرية لتهدئة الأوضاع في غزة، والدعوة لتسريع عمل اللجنة التحضيرية لتطوير منظمة التحرير الفلسطينية استنادا إلى تفاهمات القاهرة ودمشق. بينما نجد أن إعلان الجزائر قفز على كل مراحل المصالحة، وكأننا أمام مشروع مصالحة فلسطينية يرى النور لأول مرة، حينما تجاهل وغض الطرف عن كل جهود المصالحات السابقة التي سعت إليها أطراف عربية محورية وازنة كمصر والسعودية. لأن أية خطوة مصالحة جديدة إن كانت جادة وهادفة عليها الاستفادة من تراكمات المصالحات ومخرجاتها والبحث في أسباب تعثرها واقتحام نقط الخلاف الرئيسية التي تقف حائلا أمام أي تقدم للمصالحة الفلسطينية، أما غير ذلك فهو نوع من العبث السياسي. لذلك نجد أن بيان الجزائر جاء عبارة عن صياغة عابرة مرضية لكل الأطراف بابه مفتوح للتنصل من أي التزام، أجندته مفتوحة مرشحة لكي تفرز خلافات أخرى. وهنا يثار التساؤل عن دوافع المبادرة الجزائرية، هل جاءت فعلا من أجل خدمة القضية الفلسطينية أم خدمة لأجندة جزائرية؟ فمعالم الصراع غير مشجعة وأجواؤها لا توحي بأن القيادات الفلسطينية جاهزة لتقديم تنازلات لوضع حد فعلي لحالة الانقسام والاتفاق على برنامج عمل سياسي موحد. فقد تسربت عن اجتماعات المصالحة بالجزائر معلومة تفيد أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، طلب من حركة حماس الاعتراف بشروط الرباعية الدولية، وهو الطلب الذي رفضته قيادة حماس وفصائل أخرى جملة وتفصيلا، معتبرين أن هذه الخطوة تعد اعترافا ضمنيا بإسرائيل كدولة. وإذا غاب الاعتبار الموضوعي للمصالحة، يظل أمامنا طرح آخر يفيد أن صاحب المبادرة أي النظام الجزائري له دوافع أخرى للرغبة في جمع الفلسطينيين على أرضه . فقد ارتبطت المبادرة بالقمة العربية المزمع أن تحتضنها الجزائر، لذلك هناك مسعى لتسجيل نقطة استباقية قبل القمة العربية، غايتها التحضير لتضمين البيان الختامي للقمة، لإعلان الجزائر للمصالحة الفلسطينية وتزيين هذا البيان بدور نظام الجزائر في خدمة قضية فلسطين. لم يكن أمام القيادات الفلسطينية، في سياق الخضوع المتعاظم للعامل الخارجي، سوى الإذعان للإصرار والرغبة الجزائرية الجامحة، بالحضور للجزائر مدركين الغايات، وفي أن القضية الفلسطينية تحولت لدى بعض القادة العرب مطية لقضاء مآربهم السياسية، فلا مجال للإبحار ضد التيار. أما الشارع الفلسطيني اليقظ فكما يبدو فإنه لم يلتفت للاتفاق الجديد بالجزائر، وعيا منه أن خطوات الخروج من المأزق الفلسطيني لا تتم بهذا الشكل الاستعراضي والبهرجة والدعاية الإعلامية. فالخلافات في الرؤى والتصورات بين فتح وحماس وباقي الفصائل ظلت قائمة، والنفاذ إلى عمق المشاكل الحقيقية القائمة تم الالتفاف عليها، عبر إعلان خفيف عابر حقق منه البلد المحتضن غاياته وأهدافه، وعاد منه الفلسطينيون كما جاؤوا. كيف يمكن لنظام الجزائر أن يخدم القضية الفلسطينية ؟ وما المنتظر منه لمساعدة الشعب الفلسطيني وقيادته في تحقيق غاياته؟ بكل تأكيد يتطلب الموقف توفر شرطين أساسين: تقديم الدعم اللامشروط للقضية الفلسطينية، وعدم استخدامها لخدمة مصالح محلية أو محاولة لرفع أسهم حتى لا تتحول فلسطين إلى بورصة. دبلوماسي سابق