منذ أن بدأت الاشتغال بالسرد في بداية الثمانينيات، تبين لي أن من أهم ما جاءت به السرديات هو تمييزها بين الراوي والمؤلف، ومحاولتها تقديم نمذجة للرواة كما تتبدى من خلال الرواية. تكونت لديّ هذه القناعة نتيجة ما كنت أقرؤه في بعض الدراسات العربية حول الرواية التي كانت تتعامل مع الروائي تعاملها مع الشاعر، فتكتب قال نجيب محفوظ، وتحلل الرواية كما تحلل القصيدة (قال الشاعر)، وكل سعيها كان البحث عما يثبت «ذاتية» الكاتب وتأويل موقفه من الواقع، في ضوء سرد الراوي، أو أقوال بعض الشخصيات. كان الهدف إبراز موقف الكاتب باتخاذ النص ذريعة فقط. وكان موقفي من هذا التصور وليد رؤيتي المختلفة للدراسات الأيديولوجية السائدة. هذا التصور الذي جاءت به السرديات الكلاسيكية من خلال القولة المشهورة «لا سرد دون راو»، تمييزا له عن المؤلف صار موضوعا للنقاش، بعد أن أعيد النظر في قضية الراوي وعلاقته بالمؤلف، مع السرديات ما بعد الكلاسيكية، حيث ظهرت مقولة نقيض، تصر على أنه يمكن أن يكون ثمة سرد دون راو. وكانت سيلفي باترون التي دافعت عن مقولة «موت الراوي» من أهم المدافعين عن هذه الفكرة، من خلال ذهابها إلى أن مفهوم «الراوي» حديث، وهو وليد الرواية في القرن التاسع عشر؟ إن لأي سارد (مؤلف للسرد) كيفما كان نوعه صورة عن الجدة التي كانت تروي له قصصا في طفولته. إنها الراوي المحبوب، الذي ننتظر أن يحل الظلام ليحكي لنا حكاية عجيبة وجميلة، لأنه أخبرنا استحالة السرد في النهار. نعرف جيدا من خلال صيغ تعبير هذه الراوية، أنها ليست «مبدعة» هذا السرد. إنها فقط تنقلها إلينا كما انتهى إليها. وكل سارد، يحترف حكي القصص، من خلال تأليفه لها، يحلم أن يكون مثل ذاك الراوي. إنه سابق عليه في الزمان، والمعرفة والتجربة. وأتصور أن أي كاتب للسرد، أيا كان نوعه، يأمل، عن وعي أو عن غير وعي، وهو يكتب نصا سرديا، أن يكون في مستوى هذا الراوي الذي تستمر مروياته، وتتعالى على الزمان، والمكان معا. إن الراوي في السرد أقدم من المؤلف، حسب تصوري. إنه مثل اللغة سابقة على الكلام. الراوي يمثل اللغة في تعاليها. أما المؤلف فمتكلم يمتح من اللغة ما يجعله يتفاعل بها مع غيره. لقد ارتبط مفهوم الراوي، تاريخيا، بالسرد الشفاهي الذي ظل رواته يتناقلونه مع الزمن، إلى أن جاء المؤلف، أو الكاتب ليدونه، معطيا إياه صيغته النهائية التي تقيده، وتجعله منسوبا إليه (هوميروس مثلا). مفهوم الراوي قديم في الثقافة العربية. لقد ارتبط بالذاكرة الشعرية، والحديث النبوي، والأخبار، وغيرها من المرويات. منذ أن انتشرت الكتابة العربية مع تأسيس الدولة الإسلامية، كان التدوين ممارسة حَوَّل فيها «الرواة» ما كان متداولا شفاها إلى الكتاب. فظهرت بذلك صيغ الأداء التي تعبر لنا عن عملية التحويل هذه، لذلك نجد مفهوم الراوي مترسخا في الإنتاج الثقافي العربي، وحتى مع ظهور السارد (الهمذاني مثلا)، اتخذت المقامة، وهي نوع سردي كتابي، الصورة النموذجية ل»الراوي» بمعناه الكلاسيكي في الإبداع العربي، لذلك نجد كل المقامات تبتدئ بصيغة: حدثنا. فهل المحدث هو الراوي (عيسى بن هشام، أو أبو الفتح الإسكندري)؟ وما موقع بديع الزمان الهمذاني والحريري من هذا الخطاب؟ صورة الراوي في السرد الشفاهي، القابل للحكي، تقبع في ذهن أي سارد ينتج نصا سرديا ورقيا كان أو رقميا. أما السارد الجدير بهذه الصفة، فشخصية معينة محددة الملامح والهوية الشخصية. إنه من كنا نسميه الكاتب، أو المؤلف الذي يقدم لنا تجربة سردية كتابية من خلال بعض الأنواع السردية المتداولة في أي ثقافة، تختزن كل معارفه التي استقاها من الحمولة الثقافية، والذاكرة الجماعية التي يقدمها له الراوي، من جهة، ومن تجربته الشخصية من جهة ثانية، لذلك، إنه وهو يكتب نصا سرديا يستدعي صورة ذلك الراوي الذي يحتل مكانة خاصة في الذاكرة الثقافية. إن تمييزنا بين الراوي والمؤلف لا علاقة له بالمتكلم في السرد اليومي، أو الطبيعي الذي يحكي ما وقع له في الحياة اليومية، وما يقدمه من أخبار عما طرأ له، ولذلك كان تعريفنا للسرد متصلا بقبوله هذا الفعل السردي ذي الملامح الخاصة الذي يتوجه به إلى جمهور واسع، وبتقنيات معينة، ولمقاصد خاصة. هذا السارد تتكون لديه، في ضوء ثقافته السردية صور متعددة ما عن الراوي. وهو يصرفها وفق معرفته، واختياره، ومقاصده، وتبعا للعصر السردي الذي يعيش فيه. إن الراوي يمثل المتخيل الجماعي، والحلم الاجتماعي. إنه الصوت الثقافي الذي يستعيره كل الساردين محاولين تقديمه بصور وأشكال شتى تتلاءم مع الإبداعات السردية التي ينجزونها، أما السارد أيا كان جنسه، فلا يمكننا التعرف عليه إلا من خلال العمل السردي في كليته، كما يقول باختين. كانت إزاحة السارد، سابقا، ضرورة، وصار استحضاره، حاليا، ضرورة أخرى، لكن تمييزه عن الراوي يظل ضرورة ثالثة، وإن لكل ضرورة خصوصيتها.