محمد بوعزة المرجع/ إغراء النموذج إذا كانت السرديات في سياقنا الثقافي، في بداياتها وانبثاقاتها الأولى (بداية الثمانينيات)، قد ركنت بفعل إغراء « النموذج» إلى ألفة تصوراتها وجاهزية إجراءاتها وتطبيقاتها،و تحولت بفعل هذا الوعي التلقائي إلى نوع من الممارسة الاستنساخية للنموذج الآخر، فإنها في مرحلة تالية وبفعل التراكم الحاصل على مستوى الممارسة ستعرف يقظة منهجية في الوعي والرؤية، انطلقت بإعادة النظر في مسارات هذه الممارسة وتفكيك خطابها، خاصة بعد أن وصلت السرديات إلى أفق مسدود في سياقها الغربي، حين تنبه «جيرار جنيت» إلى الأفق الضيق الذي آلت إليه السرديات بسبب حصرية مجال اشتغالها . بفعل هذا الإكراه الابستيمولوجي بدأ التفكير في البحث عن مخارج جديدة لتجديد السرديات في السياق الثقافي المغربي (العربي) وإطلاق دينامية جديدة في مسارها. من بين هذه المخارج كان الاهتمام بالسرد العربي الكلاسيكي كأفق جديد لتطوير التصور العربي للسرديات. وكانت الغاية من هذا الإبدال (تغيير موضوع السرديات) تهدف إلى تطوير المنظور العربي للسرديات بإخضاعها لسياقات وجماليات السرد العربي الكلاسيكي. لم يعد تطبيق السرديات بشكل مرآوي (آلي) على نصوص عربية حديثة (الرواية، القصة القصيرة)، بل تم إسقاط هذه الألفة واختبارها على نصوص سردية أصيلة تشكلت في تراث الثقافة العربية، بحيث تم استبدال الألفة بمسافة التوتر، الشيء الذي شكل مسوغا نظريا لاختبار السرديات بوضعها على محك التفاوض الابستيمولوجي والثقافي. في هذا الأفق النقدي المشروخ بديناميات ثقافية متوترة (الذات/ الآخر، النص/ التأويل، الألفة الغرابة، الأصل/ النموذج ) ينخرط كتاب « الرحلة المغربية في القرن 19»1 للباحث عبد الرحيم مودن، فهو من جهة يتخذ موضوعا له نصا مغربيا تكون في أحضان الثقافة المغربية (العربية) الأصيلة، و من جهة أخرى يتوسل السرديات نموذجا في القراءة والتحليل. وبالتالي، فإنه يجتاز العتبة، عتبة الأصل والهوية. والسؤال الجوهري ، هل يتم هذا الاجتياز دون تكلفة و مخاطر دراماتكية تهدد طمأنينة الفضاء الأصلي للذات، وألفة النص الأصلي؟ هل استطاع الباحث بلورة قراءة طباقية2 بوعي متزامن لسياق النموذج الآخر ولمقتضيات سياق النص، بحيث تصبح القراءة حدا بين مرجعيتين وأفقين، قراءة بينية تقع في التخوم وفي تماس المرجعيات، في تقاطعات وشروخ المابين. قراءة في التفاعل وفي تمفصل وانتهاك الحدود، بحيث لا تصبح القراءة مجرد استنساخ للآخر و نزهة في سيناريوهاته الجاهزة، بل مكابدة لانتهاك الحدود، وتفكيكا للهوية و أسطورة النموذج، قراءة انتهاكية تكون تفكيكا لميتافيزيقا الحضور؟ مدارات الخطاب/ حدوده اتجه مدار البحث إلى شكل محدد من أشكال الثقافة المغربية، هو الرحلة بوصفها جنسا سرديا خلال القرن19،، و تركزت بؤرة التحليل حول سردية نص الرحلة، بغية استكشاف بنياتها السردية وتمظهراتها الخطابية. ينطلق المؤلف من نظرية الأجناس الأدبية، حيث يتوخى من خلال مقولة النوع تمييز هذا الجنس شكلا ومضمونا عن باقي الأجناس الأخرى، خاصة ما يسميه بمتون السفر المغربي في القرن 19، متن الحركة (بسكون الراء) الذي تأرجح بين الرحلة والدليل ومتون المسالك والممالك. من هذا المنظور أيمكن الحديث عن الرحلة باعتبارها نوعا ذا خصائص ثابتة ؟ خاصة إذا عرفنا أن الرحلة هي جنس مترحل، إنها نص السفر والتنقل بين الفضاءات والحدود بامتياز، وليست نص الثبات والانغلاق. نص الصيرورة وانتهاك الأنساق والحدود. لذلك تميزت بنيتها بانفتاحها على شفرات وأساليب وأنواع ولغات متعددة. وهذا ما يشكل إشكاليتها الأجناسية، حيث «تعد الرحلة كتابة ملتبسة، سواء على مستوى الهوية الأجناسية، أو على مستوى محاورتها في سياق نظرية الأدب لأجناس أدبية أو غير أدبية تخلقت من صلب الرحلة، وخلقتها أيضا، بصيغ جديدة، وأنماط كتابية وشفاهية متعددة» (ص23). للخروج من هذا الإشكال الأجناسي يدرج الباحث الرجلة ضمن السرد. وحتى إذا اعتبرنا الرحلة جنسا سرديا، فإن هذا التوصيف لا يحل الإشكالية الأجناسية، لأنه يفتح المقاربة على أسئلة جديدة معقدة تتتشعب حين يتعلق الأمر بموقعة الرحلة ضمن أرشيف الأجناس السردية الأخرى التي عرفتها الثقافة العربية، وحين يتعلق الأمر بتحديد سردية الرحلة من منظور الشعرية المعاصرة، حيث يطرح مشكل النموذج والمعايير. وأخيرا، حين يتعلق الأمر بتأويل الأنساق الضمنية التي توجه المنظور السردي، بما يتجاوز الدلالة الأدبية التي تحصر السرديات نفسها في دائرتها الضيقة، حيث تشكل الرحلة من المنظور الثقافي فضاء لاختبار الهوية وانتهاك العتبة وتمثيل الآخر. يتجاوز الباحث الإشكال الأجناسي بإدراج الرحلة ضمن جنس السرد. ويشتغل على سردية الرحلة انطلاقا من منظور السرديات البنيوية التي على خلاف السيميائيات السردية تتخذ من الخطاب السردي موضوعا لها، من حيث هو طريقة تقديم القصة، باعتبارها متوالية من الأحداث. ما يهم سرديات الخطاب هو المستوى البنائي وليس المستوى الدلالي، والسبب في ذلك أن السرديات هي فرع من الشعرية. والشعرية كنموذج نظري هي بخلاف النقد، تسعى إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم بنية عمل ما. وهي أيضا بخلاف المنظور التأويلي ، تستنبط القوانين من داخل الأدب ذاته،و لذلك يتحدد موضوعها في ظاهرة «الأدبية»، أي الخصائص المجردة التي تشكل بنية العمل الأدبي. انطلاقا من المقاربة الشعرية يقدم الباحث خطاطة للإمكانات الأدبية كما تشخصت في جنس الرحلة المغربية في القرن 19، باعتبارها متنا خاصا . وكنتيجة لهذا الاختيار المنهجي، ظل البحث يتنازعه ويتجاذبه منطلقان: منطلق الشعرية في نزوعها المجرد من خلال بحثها في القوانين العامة، ومنطلق النقد في نزوعه التجريبي من خلال اشتغاله على نصوص خاصة. و يظل المسلك التجريبي مهيمنا على المسلك التجريدي. وبقدر ما تسعف الشعرية الباحث في تحديد «أدبية» الرحلة، فإنها على صعيد القراءة تظل غير معنية برصد انتهاك النص لإكراهات الجنس، واختراقه لسلطة النسق، وهذا ما يحد من انفتاح المقاربة على ظواهر دينامية أخرى في النص، لا يسعف منظور الشعرية في مقاربتها، ونقصد بذلك ما يعرف بالظواهر اللاخطية في نظرية الكاوس (العماء) . على الرغم من أهمية المنظور البنيوي في كشف الجانب البنائي للرحلة، نعتقد أنه كان من الأفضل توسيع مجال المقاربة باعتماد منظور السيميائيات السردية على اعتبار أن الرحلة هي نص الحكاية بامتياز، حكاية الذات. إنها نص ثقافي. وبالتالي فإن دراسة حكاية الرحلة من الجانب السيميائي الثقافي، أي جانب المعنى والتأويل، كان بإمكانه أن يغني البحث في الكشف عن نمط الحكاية التي تطرحها الذات في مواجهة الآخر، بقصد الوقوف على أشكال التأويل والتمثيل التي تضمرها الرحلة المغربية، ضمن منظورات التأويل الأخرى في القرن 19 . انطلاقا إذن ، من المنظور البنيوي يقارب المؤلف البنية السردية في نص الرحلة من خلال مستويات: السرد، زمنية السرد، السارد والمسرود له، والفضاء والوصف. يتميز سرد الرحلة بأنه سرد حمال لغزارة تجربة إنسانية تشكل محتوى الرحلة وأبعادها. ويتم تسريد هذه الغزارة وفق بنية سردية متمفصلة يقترن فيها السرد بالوصف « كأن الرحالة، أثناء الرحلة يسرد ليصف، ويصف ليسرد» (ص264). وترتبط غزارة المادة السردية للرحلة بتعدد صور المسرود له: مسرود له تاريخي، مسرود له تعليمي، مسرود أجنبي، مسرود محلي. أما السارد فقد تجسد في نمط ثلاثي الأبعاد، فهو سارد ومؤلف وشخصية مركزية، مع هيمنة لشخصية المؤلف على بقية الأطراف. وإذا كانت السيميائيات تؤكد بأن اجتياز العتبة هو شرط الحكاية، يمكن التسليم بأن الرحلة حكاية مكان «ذلك أن الرحلة نص يتأسس بناؤه بواسطة المكان الذي يتم تقديمه بوسائط عديدة» (ص353) .ويستمد المؤلف مفهوم التقاطب من الشعرية البنيوية في مقاربة أدبية المكان في الرحلة المغربية. . وقد أتاح له هذا الإجراء البنيوي دراسة المكان في الرحلة من حيث هو فضاء لتقاطبات وثنائيات دينامية ( الأسفل/ الأعلى، المدنس/ المقدس، البر/ البحر، الغريب/ الأليف، المحلي/ الأجنبي ) تخلق التوتر بين الفضاء الأصلي والفضاء الأجنبي، وتمنحه طابعه الجدلي بما تستفزه من تجاذبات بين الذات والآخر، بين الأصل والغريب . ما يجمع بين هذه التقاطبات هو « أن هذه الفضاءات برمتها خضعت ل»كرونطوب» الطريق الذي جسد لحظات التعالق الزماني والمكاني، في سياق المنظومة الثقافية المتحركة في الرحلة ومساره» (ص397). ولم ينفصل السرد في الرحلة عن باقي أنواع الخطاب السائدة في القرن 19، سواء تلك التي تنتمي إلى متن السفر عامة من حركات ونصوص جغرافية أو مسالك وممالك، أو لامست السفر، مثل النص التاريخي والفتاوى والخطب، فضلا عن الشعر والمرويات الحكائية. وهذا ما أسعف المؤلف على كشف مظاهر التفاعل النصي بين الرحلة والنصوص الغائبة من خلال مفهوم « المعارضة» الذي يستوحيه من مدونة الشعرية العربية التراثية بدل مصطلح التناص، قياسا على المعارضة الشعرية. مفارقات الخطاب/ انثناءاته لقد تمحور الرهان العلمي للمؤلف في تأصيل جنس الرحلة في الحقل الأدبي الثقافي، بغية تجاوز ما تعرض له من إهمال وإقصاء من سلطة المؤسسة الثقافية، وإعادة الاعتبار له استطيقيا بما يحقق أنطلوجيته. وقد تحقق له ذلك، أولا منهجيا بإدراج الرحلة ضمن جنس السرد من منظور الشعرية، حيث توفق الكاتب في استقصاء مظاهر هذه الأدبية سرديا وبلاغيا وتناصيا. ثانيا ابستيمولوجيا، حيث أتاح له له منهج الشعرية تجاوز النموذج التاريخي الذي غلب على معظم الأبحاث في الرحلة من المنظور التحقيبي على مستوى الزمن، أو التصنيفي على مستوى الموضوعات. فأغلب الذين درسوا الرحلة اهتموا بمادة الرحلة والتأريخ لها، وقلما اهتموا بأدبيتها وجانبها البنائي المتمثل أساسا في سرديتها . إلا أن هذا التجنيس يظل محدودا ما دام أن الباحث اقتصر على تجنيس الرحلة من خلال «سرديتها» (الخطاب) وليس من خلال «حكائيتها» (الحكاية/ المحتوى)، خاصة أن الرحلة تتضمن حضورا ثقافيا ورمزيا طاغيا (إشكالية الهوية: الأنا/ الآخر) . هذا التجاذب الثقافي يبرز لنا أولا من خلال العوالم الحكائية ومحمولاتها الفكرية والشعورية والتخييلية. وهذا ما يفتح البحث على أفق أوسع هو أفق الشعريات الثقافية والتمثيل الثقافي، للبحث في سياسات السرد الرحلي واستراتيجياته الثقافية.. هكذا فإن القراءة الطباقية ينبغي أن تبني استراتجيتها على إعادة النظر في النموذج وفق ما يطرحه النص من مفاجاءات واحتمالات، مما يحتم مشروعية تكييفه وإعادة تشييده، بما يجعل القراءة إنتاجا وإعادة اكتشاف لأسئلة مغايرة ومناطق جديدة « فلكل نص عبقريته الخاصة، كما أن لكل إقليم جغرافي في العالم عبقريته، بتجاربه المتقاطعة الخاصة، وبتواريخ النزاع المتداخلة الخاصة به. ويمكن إقامة تمييز مفيد، فيما يخص العمل الثقافي، بين الخصوصية والسيادة. ومن الجلي أنه لا ينبغي لأي قراءة أن تعمم إلى درجة إلغاء هوية نص ما، أو كاتب ما، أو حركة ما. لكن بالمعيار نفسه، ينبغي أن تدخل القراءة في الاعتبار أن ما كان مؤكدا، أو بدا أنه مؤكد بالنسبة لعمل ما أو مؤلف ما، قد يكون أصبح عرضة للخلاف.3» و إذا كان الباحث قد نجح في إزاحة ما كان مؤكدا بفعل المؤسسة الأدبية في القرن 19، من تهميش وإقصاء للرحلة بوصفها جنسا أدبيا سرديا، بإعادة الاعتبار له من خلال إبراز أدبيته وكشف سرديته، فإن القراءة على صعيد الرؤية لم تتحرر إلى حد ما من سلطة النموذج الآخر، بحيث ظل استلهامه للتصورات السردية العربية الكلاسيكية محدودا. على الرغم من أن بعض الأبحاث4 قد كشفت عن بعض التنقيبات والحفريات في مجال التصور العربي للسرد، التي أظهرت خصوصية هذا التصور بالمقارنة مع النموذج الغربي. وتزداد أهمية هذه الحفريات بما عرفته الرحلة من استلهام لأشكال السرد العربي الكلاسيكي في مستوى الرؤية السردية، من حيث التأثر بنظام الإسناد وطابع الشفاهية في السرد التراثي. لذلك نعتقد أن السرديات العربية لا يمكن أن تحقق وجاهتها الابستمولوجية وضرورتها الثقافية، بما تقتضيه من ملاءمة علمية واجتماعية، ما لم تشتبك مع متون السرد العربي الكلاسيكي في سياقاتها المعقدة وإشكالاتها الثقافية وأسئلتها الراهنة. اشتباك مع الذات والآخر يساهم في تنسيب سلطة النموذج الغربي « بوصفه معيارا معرفيا قياسيا، لا خلاف حوله، لأنه ضرب من المعرفة العلمية التي لا هوية لها.5». ******************** احالات د. عبد الرحيم مودن: الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر، دار السويدي للنشر والتوزيع أبو ظبي، الأهلية للنشر والتوزيع عمان،ط1، 2006.1 2- اد وارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، ط1، 1997،ص:118. 3 - الثقافة والإمبريالية، ص:135. 4- نشير إلى أعمال عبد الفتاح كليطو، « الأدب والغرابة»، «الحكاية والتأويل، « المقامات»، وأيضا دراساته عن ألف ليلة وليلة. 5- د. عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، المركز الثقافي العربي،ط1، 1999، ص:80.