أمثِّل أي نص سردي، أيا كان نوعه أو وسيطه، بمرافعة في محكمة الحياة يضطلع بتقديمها محام في حضور قضاة وشهود ورجال قانون ومدع عام. تتشكل مادة المرافعة التي يصوغها المحامي مما جمعه من مواد سمعها من المتهم، وبما يريد به إقناع محفل المحكمة. ليس المتهم هنا سوى السارد (المؤلف)، وليس المحامي سوى الراوي المكلف بتقديم المرافعة، من خلال «الخطاب السردي» الذي ينجزه. يتيح لنا هذا التمثيل إبراز الفروق الدقيقة بين السارد والراوي ومقاصدها. فإذا كان السارد صاحب قضية اجتماعية وثقافية وإبداعية، يريد تقديمها لعالم القراءة، فإنه يعمل على الانطلاق من مادة قابلة للحكي، سواء تجلت من خلال خبر بسيط أو قصة مركبة من مجموعة من الأحداث المتقاطعة، أو كانت تلك المادة من صميم الواقع الذي عاينه، أو سمعه، أو قرأ عنه، أو تخيلها في ضوء ما يحيط به من سرود يزخر بها الواقع أو التاريخ، أو حتى الأحلام التي تتراءى له في المنام. ليست كل العوالم التي يقدمها لنا السارد (المؤلف) في تجربته السردية جزءا من حياته الشخصية، وإن كان ذاك الجزء مهما في أحيان كثيرة. إنها جميعا حصيلة إدراكاته لما يمور به العالم، الذي يعيش فيه. لذلك فهو «ينيب» عنه صوتا سرديا (الراوي) يضطلع بالقيام بجعل تلك المادة قابلة للسرد، من خلال الخطاب، موظفا في ذلك عدة تقنيت تجعل القارئ مطمئنا إلى أن هذا الصوت يمكنه أن يتواجد في عدة أماكن، ويطلع على أسرار الشخصيات، ويعلم كل شيء عن القصة التي يرويها. ألا ترى أن صيغ الأداء السردية العربية تبتدئ عادة ب: يحكى، زعموا، قيل، ومما يروى، قال الراوي، دالة على أن «الصوت» (الراوي) الذي يحكي لنا غير «الصوت» الذي عاش التجربة، أو ابتدعها (السارد). نجد كل النكت المغربية تبتدئ بصيغة الأداء: « قال لك: هذا واحد...» فماذا تعني «قال» هنا؟ إن من يبدأ النكتة بهذه الصيغة راو من درجة ثالثة. إنه المتلقي الذي سمع النكتة من غيره، ونقلها عن «راو» لا يعرف عنه شيئا، وهذا الراوي كان الصوت الذي ابتدعه السارد المجهول.. إن الراوي ليس مسؤولا عن المادة التي يرويها، لأنه لا يمكن أن يتماهى معها، أو يتبناها لأنه ليس من ابتدعها. خارج المحكمة يتم تداول وقائع ما جرى فيها، ونوعية خطاب الراوي أو الرواة، وموقف السارد، وتتعدد تفسيرات وتأويلات القصة، حسب رغبات المتلقين الواقعيين (السامع، أو القارئ، أو المشاهد). ولهذا كانت حكمة «الرواية» (صنعة الراوي) عربيا تقضي بأن «راوي الكفر ليس بكافر». إنه فقط وسيط لذات مبدعة، لم تكن تكشف عن نفسها أو لم تكن لها هوية معترف بها في السرد الشفاهي. أما في السرد الكتابي الذي نعرف اسم مبدعه (الكاتب) فهو يعين راويا، سواء أعطاه اسما أو تركه نكرة ليقدم لنا تجربته من خلاله. اتخذ مصطلح الراوي بعدا دقيقا مع السرديات، وكان بذلك من أهم منجزاتها. وفي الوقت نفسه قدمت لنا «المروي له» تمييزا له عن القارئ، وهي بذلك تجعلهما مختلفين عن المؤلف والمتلقي، عكس ما كانت عليه الأمور قبل ظهورها،. سمى وين بوث هذا الراوي «الذات الثانية للكاتب». أسمي هذه الذات الثانية ب»الذات المتخيِّلة» (الراوي)، تمييزا لها عن الذات المبدعة (السارد). تتوجه الذات المتخيلة التي اصطنعها السارد لتقديم مادته الحكائية، إلى «ذات المتلقي المتخيِّلة» (المروي له). وهما معا تنتميان إلى دائرة الخيال السردي الإنساني، الذي يتعالى على أي لغة أو وسيط. لنعد إلى قاعة المحكمة الافتراضية، السارد متهم بإبداع قصة. يقدمها مادة خاما للمحامي (الراوي) الذي يصوغها وفق قواعد الخطاب الذي يراعي الشروط والمقتضيات المقبولة لدى المحكمة (الخطاب السردي)، ويرافع بحضور ذوات متلقية. قد يغير المتهم محاميه حسب قدرتهم على إيصال مراده، أو يجعلهم متعددين إذا اقتضت الضرورة. ويكون الحكم: قبول الخطاب أو تأجيل البت فيه. خارج المحكمة يتم تداول وقائع ما جرى فيها، ونوعية خطاب الراوي أو الرواة، وموقف السارد، وتتعدد تفسيرات وتأويلات القصة، حسب رغبات المتلقين الواقعيين (السامع، أو القارئ، أو المشاهد). قد يرى أحدهم أن المحامي ارتبط بالسرد النصي، فماذا عن الصوري الحركي؟ إنه هنا الوسيط الذي نوظفه لذلك، ومن ورائه حامل الكاميرا ومسجل الصوت. تغير الوسيط، ولم تتغير الوظيفة. والهدف هو نقل التجربة بالصيغة «المقبولة» سرديا، وفق القواعد السردية الإنسانية. ما جدوى هذا التمثيل الافتراضي؟ إنه تعبير عن الذهن السردي الإنساني الذي ينقلنا من الفضاء المغلق (المحكمة مثلا)، ومن الغياب إلى الحضور (نسرد الآن، ما جرى في ما مضى) لتحقيق رغبة الفضول الإنساني في التعرف على تجارب الآخرين وخبراتهم. ألا ترى أن كل متلق يتحول إلى راو، يوسع دائرة ما تلقاه من سرود، ولكنه يقدمها بطريقته الخاصة التي تؤكد خصوصية سردية الخطاب الذي يروي. إن من يبعث لنا صورة، أو فيديو عن طريق الوسائط الجديدة، راو من درجة ثالثة، وحين نتلقاها، نكون أمام إعادة بعثها إلى أحد الأصدقاء، أو حذفها باعتبارنا رواة، ولسنا مبدعين. السرد تعبير عن قلق الذهن الإنساني في مواجهة عنف المحكمة البشرية.