النظافة الرقمية، التمدن الرقمي والمواطنة الرقمية العالم الافتراضي، العالم الازرق، العالم الرقمي، إنها مسميات لشيء واحد، إنه الأنترنيت. وهو ذلك الفضاء الذي ارتمينا فيه ونحن لا نعرف عن ميكانيزماته إلا النزر القليل جدا. عانقناه في دهشة بكل ما أوتينا من قوة وضعف٫ بغنى حيواتنا وفقرها، بجهلنا وتخلفنا، بطيبتنا وخبثنا، بجمالنا وقبحنا، بتلقايتنا و حساباتنا، بسلطويتنا و خضوعنا... بكل هذا وزيادة. ارتمينا في هذا الكون/الكائن غير المحايد معتقدين أنه كذلك، في عالم شديد المعرفة التكنولوجية والعلمية في تركيبها٫ ولكن وفي نفس الآن ضعيف التقنين من أجل حماية الناس وحماية معطياتهم الشخصية وحقوقهم. بل يمكن القول إن جله لا يزال خارج القانون. وتتقاطع في هذا الارتماء الأعمى ثلاثة أبعاد، البعد الفردي السيكولوجي، البعد الأسري، والبعد المجتمعي، عبر جهاز شديد الحميمية، الهاتف أو الحاسوب الشخصي، لكنه مفتوح على مصراعيه على عالم بدون حدود. فتختلط هذه الأبعاد الثلاثة ولا يطفو ويتحكم الا البعد الفردي. فنصاب بشبه تنويم مغناطيسي رقمي يعطينا الإحساس كأننا على أريكة الطبيب النفسي نبوح له بكل أسرارنا طواعية، وقد نتقيأ أحيانا كل قذاراتنا دون اية اعتبارات مدنية. إن أول ما يجب وضعه في الحسبان هو انه عندما نكون امام حواسيبنا او هواتفنا، فإننا نكون امام عالم مفتوح، أمام الملأ. وكل ما نقوم به هو في عداد المنشور أو القابل للنشر. وهذه عملية نتدرب على ركوبها ولا تأتي دفعة. نتوصل يوميا بعشرات المضامين السمعية أو السمعية البصرية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وبالخصوص عبر الواتساب والفيسبوك، منها ما هو مفيد مطلوب ومعظمها لا قيمة له لا إنسانيا ولا معرفيا، لا يعير أي اهتمام للقيم الإنسانية بل ينشر أعراض الناس وتخلفهم وجهلهم باستمتاع فج وغير انساني، ان لم نقل عنه أحيانا سلوكات سادية. والأنكى من هذا أن من يقوم بالتقاسم تجدهم ينتمون لمثقفين وأساتذة وما شاكل، وعوض رميها في سلة المهملات، تجدنا نساهم في نشر القبح والتفاهة. وعندما تقوم بجولة في بعض المواقع الاجتماعية فتجد حياة الناس منشورة على حبالها بما فيها لحظات حميمية كالمرض٫ او الاحتفال بل وحتى لحظات الحزن ذات الصلة بالفقد. ومرد هذا هو اعتقاد الاغلبية ان ما ينشر في مأمن من الاستعمالات المغرضة وكان الصفحات الخاصة خاصة بالفعل لا يمكن لأحد استعمالها لغير الأغراض التي نشرت من أجلها. وخلاصة الأمر أننا ولجنا عالما لا نعرف مدى خطورته علينا كأفراد أو كجماعات. إننا نضع بل نهدي معطياتنا الخاصة على طبق من ذهب للكافام GAFAM ( google-apple- facebook-amazon-microsoft). قد يقول قائل وما قيمة المعطيات الخاصة بكل واحد منا؟ اننا مجرد أشخاص مجهولين لا قيمة لهم. والحال أن رواد ورائدات العالم الأزرق هم عماله دون علاقة عمل، هم مستهلكونه بل حطبه وطاقته. لنتصور عالما أزرقا من دون زوار كيف سيكون حاله٫ كسوق من دون متبضعين سرعان ما ستغلق دكاكينه ويفلس تجاره. ومع الجيل الثالث من انترنيت، اي إنترنت الأشياء والبيغ داتا، لا تظل العلاقة خطية في اتجاه واحد بين الخوارزميات والبشر، إن هذه الخوارزميات أصبحت لها قدرة على تجميع معلوماتنا الشخصية وميولاتنا بما فيها الحميمية منها لتتحكم في توجيه طريقة وحجم استهلاكنا الرقمي من مواد تَعْلَم اننا نرغب فيها وأخرى نعتقد أننا اكتشفناها ولكن في الحقيقة اكتشفتها لنا الخوارزميات. فكلما وضعنا معلوماتنا الشخصية على النيت كلما ساعدنا الخوارزميات على فهمنا أكثر من أنفسنا، وكلما أضعفنا قدرتنا كبشر على التحكم في ذواتنا وفي التكنولوجيا. ومع سياسات الضبط التي أصبحت تتبناها الدول في مختلف أنحاء العالم، ومع ما مشروع المُعَرِّفات الكونية للأفراد Identifiant Universel الذي انخرطت فيها بلادنا لغاية اجتماعية، قد يصبح كل ما يتعلق بنا في الانترنيت متصلا بمُعَرِّفنا. ولا يتعلق الأمر بهوس وخوف من المجهول لا مبرر له، ولكن بتهذيب سلوكياتنا الرقمية والاعتدال فيها. فإذا كانت حياتنا الواقعية قد أصبح لها ما يوازيها في العالم الأزرق، اي اننا أصبحنا نعيش حياتين متراكبتين متداخلتين لا يمكن فصل الواحدة عن الاخرى، فلا بد لنا من أن نفكر في تنظيم ومَعْيَرة حياتنا الافتراضية وأن ننشر ثقافة المواطنة والتحضر والنظافة على المستوى الرقمي. وقد سبقنا إلى هذا من سبقونا تاريخيا. إن الصورة التي يعكسها العالم الافتراضي عنا تجسد تلك الازدواجية السلوكية كما أكدتها بعض من الأبحاث حول التحولات القيمية للمجتمع المغربي الذي لايزال يجمع بشكل متراكب بين القيم العتيقة والحديثة في تَطَبُّق مَرِن ونَفُوذ. أي أن القيم ترسبت في طبقات، الواحدة فوق الاخرى في مرونة شديدة جديرة بالعالم الافتراضي. قد تطفو هذه الطبقة القيمية في سياق، واخرى نقيضة في سياق آخر. إذ أصبحنا نجسد ذلك الفرد السائل الذي يزاوج بين سيولة المجتمعات المتخلفة كمجتمعنا في رحلة غير متوقفة بين التقليدانية والحداثة، وسيولة المجتمعات الحديثة السائلة كما وصفها سيجموند بومان Zigmund Bauman المتقلبة بسرعة فائقة. من بين المفاهيم التي ظهرت علاقة بمَعْيَرة الحياة الافتراضية نجد العدالة الرقمية والديمقراطية الرقمية والمواطنة الرقمية والتمدن الرقمي والنظافة الرقمية. وقد جَمَعْتُ هذه المفاهيم في مفهوم المسؤولية المجتمعية الرقمية. فإذا كانت المسؤولية المجتمعية تخص المنظمات كيفما كانت طبيعتها من مقاولات ونقابات وأحزاب وجمعيات ومؤسسات حكومية، فان المفهوم هاهنا في هذا المقال يخص المواطنة والمواطن والمجموعات الرقمية علاقة بسلوكياتهم الرقمية. وسوف لن أتطرق لمفهومي العدالة والديمقراطية الرقميين لانهما يحتاجان لمقال لوحدهما نظرا لارتباطهما اساسا بمسؤولية مؤسسات الدولة وأيضا بالمؤسسات الخاصة بدرجات متفاوتة. إن المسؤولية المجتمعية كما جاءت في الأدبيات المقاولاتية الانكلوسكسونية عبارة عن مقاربة طوعية ولكنها لا تتأتى إلا إذا استنفذت كل شروط احترام القانون. وهي عبارة عن التزام مواطنٍ تجاه المجتمع والبيئة، بتبني سلوكات نظيفة بيئيا، وعادلة اجتماعيا، ومسؤولة سياسيا، ومتسامحة ومحبة للتعدد ثقافيا. وبعيدا عن أية محاولة لتصور مواطن رقمي مثالي، فإن للمواطنة الرقمية أبعادا سياسية واجتماعية وثقافية وبيئية بل وايضا اقتصادية. وإن كانت هذه المفاهيم وما يوجه السلوكات الرقمية في كل هذه الأبعاد معروفة وسوف لن نخترع في هذا الأمر العجلة من جديد. فمعايير المواطنة كما نعهدها في الحياة المادية التي نحياها خارج النيت، تتجلى في مدى تشبع السابح في العالم الرقمي بالقيم والمبادئ الإنسانية استعمالا وتداولا في علاقته مع المجتمع الرقمي ومواطنيه، وكذلك في مدى انخراطه والتزامه بالقضايا العادلة لها، من احترام المعطيات الخاصة بالأفراد والمجموعات وعدم تقاسم الا ما ينمي الحس الإنساني وما يبعث على الابداع والجمال وينبذ البشاعة وينأى عن نشرها وتقاسمها. فالمواطنة الرقمية تنبني على السلوكات العقلانية المسؤولة والاستهلاك المتوازن للمنتجات الرقمية دون الإسراف فيها لأن من شأن ذلك الإضرار بالصحة البشرية والبيئية والمجتمعية، لما ينتج عنه من اثار سلبية على الفرد والجماعات ومن غازات الاحتباس الحراري. وليست غاية المواطنة الرقمية والمجتمع الرقمي القفز على الواقع ولا على أشكال العمل المواطن ومؤسساته الكلاسيكية، بل لا تكون جديرة بهذه الصفة إلا إذا قامت بمد جسور المواطنة الرقمية بالمواطنة الواقعية على الأرض، وضخ دماء جديدة فيها بعدما أصابها الوهن والعياء قابله عنفوان المجتمع الرقمي والفعل الرقمي. فالمواطنة الرقمية كممارسة وكنظرية لا يمكن فهمها خارج النظام السياسي الديمقراطي المبني على الحرية في التعبير والرأي وعلى الحق والواجب المتلازمين مع احترام التعاقدات والقوانين والمؤسسات الممثلة للشعب والموضوعة لخدمته. إذ تصبح عبارة عن التزام سياسي ومدني أخلاقي تجاه المجتمع خارج العالم الافتراضي وداخله. تكون المواطنة الرقمية والحالة هذه، اذنها على الشارع وعينها على النيت لتجعل منه فضاء للتعبير الحر المسؤول وحلبة للنقاش المتزن البناء وليس سوقا فوضويا للشجار والنبز التشهير. وإذا كانت النظافة الرقمية تتصل بالبعد البيئي في استعمال العالم الرقمي والتكنولوجيات المرتبطة به لآثارها السلبية على البيئة وما يتطلبه ذلك من ممارسات معتدلة في استهلاكه، فإن المواطنة والتمدن الرقميين يتصلان بالأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية أيضا باعتبارها شأنا عاما في حاجة إلى بلورة رأي عام رقمي. لم تكن الغاية من هذا المقال إحكام الرقابة على الذات والحد من حرية التعبير، بل هو عبادة عن غمزة للانتباه للسلوكاتنا الرقمية اليومية وبالخصوص مع تنامي مافيا الصورة وسطنا وما نقدمه لها من خدمات دون وعي منا بنشر فظاعاتها. انها محاولة لإشعاع ثقافة الحرية المسؤولة والوعي الرقميين، إنها استفزاز للنقاش حول قضايا جديدة لا عهد لنا بها من قبل.