الملك محمد السادس يهنئ قداسة البابا فرانسيس بمناسبة ذكرى اعتلائه الكرسي البابوي لحاضرة الفاتيكان    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم لتوسعة منطقة التسريع الصناعي "طنجة طيك"    التجسس الجزائري في فرنسا: سر مكشوف وتغيرات إقليمية تقلب الموازين    جرائم فساد مالي تُلاحق زوجة هشام جيراندو    ظاهرة فلكية نادرة مرتقبة فجر يوم غدٍ الجمعة    "المحكمة الدستورية تُقر قانون الإضراب وتُبدي تحفظات على ثلاث مواد    دوري أبطال أوروبا.. "ويفا" يدرس إجراء تعديل حول ضربات الجزاء بعد واقعة الأرجنتيني ألفاريس    في ندوة «التمكين الاقتصادي للنساء ومساهمتهن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية» بنيويورك .. لطيفة الشريف: تمكين المرأة اقتصاديا يرتبط بشكل كبير بوصولها إلى موارد مالية وتحسين الإطار القانوني والتشريعي    الفريق الاشتراكي يسائل الحكومة بشأن إعفاءات المديرين الإقليميين للتعليم    قناع الغرب.. البروتوكولات المضللة 12- الأكاذيب الآمنة في يد السلطة    مجلس الحكومة يطلع على اتفاقين دوليين موقعين بين حكومة المغرب وحكومتي بنين وأنغولا    مكاسب في تداولات بورصة البيضاء    تفاصيل تكاليف العصبة الاحترافية    أمطار قوية من الخميس إلى السبت    الحسيمة.. أمطار الخير تنعش منطقة أيت أخلال وتعزز الآمال في موسم زراعي ناجح    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    سفير الصين بالمغرب يكتب: الضغوط التجارية الأحادية لا تؤدي إلى أي نتيجة    الهواري غباري يؤدي "صلاة الخائب"    مستشار الرئيس الفلسطيني يشيد بالدعم الموصول لجلالة الملك للقضية الفلسطينية    جديد دراسات تاريخ الأقاصي المغربية: التراث النوازلي بالقصر الكبير    الوكالة المغربية لمكافحة المنشطات تكرم الدولي السابق محمد التيمومي    صحيفة إسبانية: المغرب فاعل رئيسي في قطاعي السيارات والطاقة المتجددة    لمجرّد يكشف تفاصيل عمليته الجراحية ويطمئن جمهوره    المغرب يحتل المركز السادس عربيًا وإفريقيًا في الحرية الاقتصادية لسنة 2025    أخبار الساحة    فضل الصدقة وقيام الليل في رمضان    يسار يعرض "لمهيب" في مركب محمد الخامس    أزيد من 25 مليون مصل في المسجد الحرام خلال العشرة الأولى من رمضان    هذه نسبة ملء السدود الواقعة بجهة الشرق    نشرة إنذارية.. أمطار قوية وتساقطات ثلجية وهبات رياح من الخميس إلى السبت بعدد من أقاليم المملكة    المغرب يواصل البحث عن "النفق السري" نحو سبتة باستخدام أجهزة استشعار وكاميرات    برنامج إعادة إعمار إقليم الحوز يحقق تقدما ملموسا    السعودية تسعى لإنشاء مختبر للكشف عن المنشطات والمحظورات في المنافسات الرياضية    اضطراب حركة الملاحة البحرية بين طريفة وطنجة بسبب سوء الأحوال الجوية    مطالب للداخلية بالتحقيق في توزيع جمعية مقربة من "الأحرار" للمساعدات باستعمال ممتلكات الدولة    عدوى الحصبة تتراجع في المغرب    ماذا يحدث للجسم إذا لم يتناول الصائم وجبة السحور؟ أخصائية توضح    روسيا تستقبل مفاوضين من أمريكا    بوريطة يستقبل وزيرة خارجية إفريقيا الوسطى حاملة رسالة إلى جلالة الملك من رئيس بلادها    "حماس" ترحب بتراجع ترامب عن دعوة "تهجير سكان غزة"    أداء الشعائر الدينيّة فرض.. لكن بأية نيّة؟    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    الاحتراق الإبداعي..    لعيوب صناعية.. شركات في كوريا تسحب أكثر من 15 ألف سيارة    دراسة: الوجبات السريعة تؤدي إلى تسريع الشيخوخة البيولوجية    رسميًا الزمالك المصري يعلن تفعيل بند شراء محمود بنتايك    المضيق-الفنيدق: حجز أزيد من 640 كلغ من المواد الغذائية الفاسدة    بوحموش: "الدم المشروك" يعكس واقع المجتمع ببصمة مغربية خالصة    أوراق من برلين .. قصة امرأة كردية تعيش حياة مليئة بالتناقضات    الأمم المتحدة تحذر من موت الملايين من الناس جراء نضوب المساعدات الأمريكية    تعميم المنصة الرقمية زيارة على كل المؤسسات السجنية في المغرب    هذا ما صرح به الهيلالي للصحافة الإسبانية: رفضت البارصا مرتين و « سأكون أسعد شخص في العالم إذا تلقيت دعوة اللعب مع المغرب »    الفيفا … الاتحاد الذي لا يعرف الأزمات … !    وزارة الثقافة تفرج عن نتائج جائزة المغرب للكتاب    من الخليج إلى المحيط… المَلكيات هي الحلّ؟    دراسة: التغذية غير الصحية للحامل تزيد خطر إصابة المولود بالتوحد    أطعمة يفضل الابتعاد عنها في السحور لصيام صحي    بنكيران .. القرار الملكي لا يدخل ضمن الأمور الدينية وإنما رفع للحرج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا صنع مهاتير نهضة ماليزيا
نشر في لكم يوم 15 - 11 - 2021

قبل فترة ليست بالقصيرة اصبح لدي هاجس يحركني و يثقل كاهلي، فعندما أتابع حال البلدان العربية و الإسلامية، أتساءل عن حاضر و مستقبل هذه البلدان ، و عن دورنا كمواطنين و كنخب علمية و أكاديمية في تغيير واقع بلداننا الرديء، و من قرأ مقال "ثنائية "الخبز و الخبر" من خلال فكر مالك بن نبي، و قصة الهدهد و نبي الله سليمان عليه السلام…" و الذي خصصته لتحليل فكر "مالك بن نبي" رحمه الله، سيلاحظ أني انتقدت بعض السلوكيات التي تطبع أخلاق بعض المغاربة خاصة و العرب عامة، من قبيل المادية المفرطة و الأنانية و الغوغائية و السطحية.. و لتوضيح ذلك ، إعتمدت على كلمتين "الخبز و الخبر" الخلاف بين الكلمتين في النقط فقط، لكن بينهما بون شاسع ، وذلك البون حاصل بين الطبيعة و الثقافة، فالمواطن العادي همه الجامع و الكبير و الأساسي ،هو توفير الخبز و المعيش اليومي.. فالبعض منا يعتقد بتوفيره الأساسيات الأمن و الملبس و المأكل و المسكن ، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها و هو ما يسميه بعض المغاربة بعبارة "وصل" ، فقد وصل بنظرهم إلى "سدرة المنتهى"...؟؟!!هذا التصور هو تصور رجل الشارع و المواطن البسيط الذي لا يتطلع و لايطمح إلى صناعة التغيير و إلى عمارة الأرض و إلى القيام برسالة الإستخلاف كما حث عليها الإسلام، و لا يطمح للحرية و التحرر و إقامة مجتمع العدل و المساواة و الكرامة، و العيش الكريم الذي يليق بالإنسان الذي كرمه خالقه ورازقه، فالإنسان هو محور الكون، و محور الخطاب القرآني، فهو المخاطب الرئيس في القرآن، والقرآن لأجله نزل، ولا عجب في ذلك، فهو أكرم مخلوق على الله تعالى، وقد فضله سبحانه على كثير ممن خلق، يقول سبحانه و تعالى في محكم كتابه: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (سورة الإسراء الاية 70)...فالإنسان يرتفع بالمعرفة لا بالخبز ، المجتمع يترقى بالخبر و تداول المعلومة ، لا بالخبز و البطنة ...و هو ما نبه إليه مالك بن نبي عندما ميز بين العوالم الثلاث: الأفكار و الأشياء و الأشخاص..
رحلتنا مع فكر مالك بن نبي ستقودنا حتما بإتجاه قضايا فكرية معاصرة لها راهنيتها، و من هنا تكمن أهمية و فرادة هذا المفكر الإسلامي الموسوعي، و لن أركز في تحليلي لكتبه ، و إنما سأحاول قدر الإمكان عصرنة أفكاره و تصوراته …خاصة و أن جميع إنتاجه الفكري يصنف تحت عنوان كبير وهو "مشكلات الحضارة" حيث يقول: "كتبي كلها بعناوينها المختلفة أدرجت تحت عنوان عام هو مشكلات الحضارة؛ لأن المجتمع لا يعاني عندما تحلّ به أزمة سوى مشكلة واحدة؛ هي مشكلة حضارته في طور من أطوارها يتلاءم أو لا يتلاءم مع ضرورات الحياة، فعندما يتحقق شرط الانسجام تكون الحضارة مزدهرة، ويكون المجتمع بمثابة العقل السليم في الجسم السليم، وإن لم يتحقق هذا الانسجام تحل بالمجتمع في هذا الطور من أطوار حضارته كل المحن التي يعانيها تحت أسماء مختلفة، من استعمار، إلى جهل، إلى فقر... إلخ، بينما في الحقيقة كلها أعراض لمرض واحد هو فقدان الحضارة، إذاً فكتبي أردت أن أخصصها من ناحية لدراسة أعراض هذا المرض ومن ناحية أخرى إلى تقييد طرق علاجها".
و ما أثار إهتمامي هو تصور مالك بن نبي لمفهوم الحضارة فهو يرى بأنها : " جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه" أو بتعبير آخر: هي مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل أفراده المساعدات الضرورية للنمو كالمدرسة، المستشفى، المصنع، دار الثقافة…
وعليه يمكننا القول، إن من شروط النهضة الحضارية وتقدم البشرية، توفّر قدر من العوامل المادية، التي تتيح للفرد الراحة والأمان والحماية، وفي نفس الوقت العوامل المعنوية التي تتكون أساسا من الترابط المجتمعي والعامل الديني الذي يعتبر محركا أساسيا للتقدم والنمو، و انطلاقا من هاته الشروط يضع مالك بن نبي معادلة أساسية لبناء الحضارة وهي:
الحضارة = الإنسان + التراب + الوقت
أولا- الإنسان: بنظر مالك بن نبي يعتبر المحرك الأساسي للحضارة، وهو أساس المعادلة النهضوية وذلك مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (سورة الرعد:11)، فالتطوّر الحضاري يحتاج إلى إنسان جديد، أو يعمل على تجديد نفسه، فعلى الرغم من أن بناء إنسان فطري لم يدخل قط للحضارة ومحاولة كبح جماحه وتجديده عملية أسهل نوعا ما من بناء شخص خرج من حضارة أو انسلخ من حضارته ومبادئه وأخلاقه؛ فالأول مازال يتمتع بطاقة معينة ومازال في نقطة الصفر، ولكن الثاني انتهت طاقته ويحتاج لمجهود وعمل أكبر ليتجدّد ويعود لنقطة التجديد والدخول للحضارة لكن العملية ليست مستحيلة فقط تحتاج بعض الوقت والجهد.
ثانيا- التراب: اعتبر ابن نبي أن الإنسان هو الحلقة الأهم في المعادلة، واختصر في الحديث عن العنصريين الباقيين، فالتراب بالنسبة له هو مورد للثروة وقيمته من قيمة الحضارة أو الدولة بالتالي إذا تمّ استغلاله بشكل جيد تظهر أهميته وإن تمّ تجاهله أو غاب أثر الإنسان فيه فلا قيمة له.. فأهمية التراب تتوقف على مدى قدرة الإنسان على استغلال الثروات في بناء المجتمع.
ثالثا- الوقت: تناول مالك بن نبي المفهوم الوظيفي للزمن أي قياس نسبة الأعمال المنجزة في فترة زمنية معينة، ولكن يبقى للوقت أهمية كبيرة لهذا يجب العمل على استغلال الوقت في أداء مهامنا وواجباتنا، فالاستغلال الأمثل للوقت هو أهم شيء…
وإلى جانب هذه العناصر الثلاث يركز مالك بن نبي على أهمية ومحورية الجانب الديني، فعلى الرغم من أنه لم يتم ذكره في المعادلة أعلاه، إلا أن بن نبي طرح سؤالا حول سبب غياب الناتج الحضاري في بعض الحالات على الرغم من توفر العناصر الثلاث؟
واستخلص أن الفكرة الدينية هي المحرك الرئيس لهذه المعادلة، وهذه الفكرة تتمثل في القيم الأخلاقية، قواعد ومبادئ تشريعية وحتى عادات وتقاليد… هذه الفكرة تشحن الإنسان وتحقّق التمازج بين مختلف مكوّنات الحضارة…و قد ركز مالك بن نبي على تحليل الفكر التنموي في الإسلام و ركز على مفهوم الاستخلاف و عمارة الأرض…
ذلك أن الإسلام اهتم بالتنمية وأعطاها معنى أعمق من ذلك وهو "العمارة"، واعتبرها عبادة لله تعالى وجعلها من واجبات "الاستخلاف"، مصداقا لقوله تعالى: (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).. وعمارة الأرض بهذا المفهوم تسعي لخلق مجتمع المُتَقِين الذي يستخدم الموارد المسخرة له في التمتع بمستوي معيشي كريم مع استشعار تقوى الله وشكر نعمه.. ولقد استخدم المسلمون الأوائل لفظ عمارة الأرض للدلالة على التنمية الاقتصادية ونادى العلماء و أولي الأمر منذ فجر الإسلام بعمارة الأرض، ولقد جاء ذلك في كتاب الخلفاء إلى الولاة عندما كتب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى والي مصر:"وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة .." ذلك أن التوسع في عمارة الأرض يؤدي إلى زيادة النشاط الإنتاجي، و زيادة الدخل المتولد عنه …
وتبعا لذلك، يمكن تعريف التنمية الاقتصادية بأنها : " مجموع الأحكام والقواعد والوسائل الشرعية المتبعة لعمارة الأرض إشباعاً لحاجات المجتمع الإنسانى الدنيوية والأخوية وتحقيقا لعبادة الله تعالى "..وخلافا للفكر الإقتصادي الرأسمالي أو الاشتراكي، يرى الإسلام أن مشكلة التنمية الاقتصادية لا تتمثل في نقص الموارد أو شح الطبيعة كما يرى الفكر الرأسمالي (نظرية مالتيس مثلا)، ولكن المشكلة الاقتصادية في الإسلام تكمن في ظلم الإنسان لنفسه وكفرانه بهذه النعم، فقد وفر الله تعالى للإنسان الموارد الكافية لسد حاجاته المادية، لكن الإنسان ضيع على نفسه هذه الفرصة، بظلمه لنفسه وكفرانه بالنعم الربانية، ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي في سوء توظيف و توزيع الموارد… وللمساهمة في حل مشكلة التنمية الاقتصادية و حسن توظيف و توزيع الموارد وضع الإسلام عدة ضوابط نذكر منها:
أولا- فلسفة الضمان الاجتماعي الكفاية بدلا من الكفاف:
الفكر الاسلامي يقرر ضرورة كفالة حد أدنى من المعيشة لكل فرد في المجتمع الاسلامي، و لا يعني بذلك حد الكفاف وإنما حد الكفاية، لأن حد الكفاف يُقَاتِل عليه المضطر لدفع غائلة الهلاك عن نفسه، و هنا نستحضر – بتحفظ _ المقولة الشهيرة المنسوبة للصحابي الجليل أبو ذر الغفاري" عجبت لمن لم يجد القوت يومه في بيته، ألا يخرج على الناس شاهراً سيفه؟!"
أما حد الكفاية فهو الحد الذي تكون فيه مسؤولية تحقيق هذا الهدف إما مسؤولية مباشرة، تقع على الأفراد من باب التكافل الاجتماعي ..و إما مسؤولية جماعية تقع على المجتمع وتقوم به الدولة نيابة عن أفراد الأمة وتمثلهم في تحقيق ذلك…وحد الكفاية حق مشروع لجميع الأفراد في حال عجزهم عن تحقيق هذا الحد لأسباب خارجة عن إرادتهم كالمرض والعجز والشيخوخة و البطالة .. و في هذا الصدد يقول "الماوردي" في كتابه "الأحكام السلطانية" :" فيدفع إلى الفقير والمسكين من الزكاة ما يخرج به من اسم الفقر والمسكنة إلى أدنى مراتب الغنى..و تقدير العطاء معتبر بالكفاية.."
والجدير بالذكر، أن حد الكفاية حد نسبي غير ثابت، و يتغير تبعا لتغير ظروف المجتمع، و تغير الضروريات و الحاجيات و التحسينات. فحاجيات الأمس تصبح ضروريات اليوم وتحسينات الأمس تتحول حاجيات اليوم، وهكذا في حركة دائبة تصاعدية يرتقي معها هذا الحد برقي المجتمع وتقدمه..و عدم وجود آليات فعالة لمواكبة هذا التغير يؤدي إلى اتساع الفجوة بين طبقة الفقراء والأغنياء ..
ثانيا- العنصر البشري غاية التنمية و وسيلتها :
العنصر البشري في الفكر الاقتصادي الاسلامي هو غاية التنمية البشرية وأهم وسائلها ، لذلك اهتم الإسلام بإعداده للقيام بمهمة "الاستخلاف" ، وشرط الاستخلاف يعني تسخير هذا المال لخدمة الخلق المستخلفين وتمكينهم منه ، أي تمكين استعمال و ملكية انتفاع.. قال تعالى : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون} (الأعراف الآية 10) و إعداد الإنسان للقيام بواجب الاستخلاف أي عمارة الأرض يقتضي بالضرورة تربيته تربية إسلامية صحيحة وتعريفه بأن المال هو مال الله، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور الآية 33)، وتعريفه انه مطالب بأن يحصل عليه بالحلال وأن يوجهه للإنتاج الطيب والاستهلاك الطيب .. وذلك من خلال الإيمان بأن الله هو المالك الحقيقي لهذه الأموال وهو المتصرف فيها كيفما شاء والإنسان مستخلف عليها ، فعليه استخدامها وتنميتها بالقدر الذي يمكنه من عمارة الأرض التي استخلفه الله فيها وأمره بعمارتها، والإيمان بان الله سخر للإنسان ما في الكون لخدمته ومزاولة النشاط الاقتصادي.. وكذلك الإيمان بالتفاوت في الأرزاق وبتسخير الناس بعضهم لبعض، ومن هنا يجب على الفرد المسلم السعي لكسب الرزق امتثالاً لأمر الله والرضي بما قسمه الله وفق حكمته وعدله وعلمه بما هو صالح لهم قال الله تعالى { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [سورة الزخرف: 32]…
وأيضاً الإيمان بأن مزاولة النشاط الاقتصادي عبادة وأن السعي لكسب الرزق وبذل الجهد فيه ابتغاء مرضاة الله ومساعدة له على القيام بواجباته التي أمره الله بها فانه يثاب عليها كما انه يحاسب عليها يوم القيامة قال تعالى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كانُوا يَعْمَلُون}(الحجر الآية 92-93).. ومن هنا فلا بد أن يوجه هذا النشاط وفق أوامر الله وتوجيهاته وأن يكون الهدف منه التنمية التي تعود على جميع الأمة بالخير…
ثالثا- ضوابط العمل الصالح الذي يحقق العمارة و الاستخلاف :
عمارة الأرض تقتضي العمل باستمرار من أجل تنمية و تثمير المال لتغطية حاجات الانسان حتى قيام الساعة، والعمل المقصود هو " بذل الجهد الدائب في تثمير الموارد، ومضاعفة الغلة من أجل رخاء الأمة ودعم وجودها وقيمها العليا "، وهذا العمل هو العمل الصالح الذي تزكى به النفس وتقوم به الأخلاق ، وتتسع به دائرة البر ويحفظ به الدين والبدن والعقل والمال والنسل.. و جاء في الحديث النبوي الشريف :(ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة ) وهو العمل الذي يحقق الاستخلاف في الأرض قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور الآية 55)..
ولكي يقوم الإنسان بهذا العمل على أكمل وجه فإنه يجب إعداده علمياً وفنياً، وذلك عن طريق التعليم والتدريب ومده بأفضل وسائل الإنتاج والإمكانات ووضعه في المكان المناسب وتنميته وإكسابه مهارات تحتاج إليها الأمة وتشجيعه على الإبداع والابتكار كما لابد من تعليمه ما لا يعذر الجهل به من أحكام الشريعة المعروفة من الدين بالضرورة حتى لا يقع في محظور أو شبهة حرام .. و الغاية إيجاد العنصر البشري الذي تتحقق فيه صفات الصدق والأمانة إلى جانب الخبرة والكفاءة امتثالاً لقوله تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) ( سورة القصص الآية 26)..
وبعد إعداد العنصر البشرى روحيا وفنيا ، يجب توفير فرص العمل وفرضه على كل قادر، فالإسلام يحث الأفراد على اكتساب الرزق عن طريق العمل.. والسبيل الحقيقي للتنمية لا يكون إلا بتعبئة الطاقات البشرية ودفعها في مجالات الإنتاج المختلفة، فتوفير العمل لكل قادر يضمن تشغيل كافة الموارد الإنتاجية للمجتمع ، و يعتبر توفير العمل لكل قادر من واجبات الراعي على رعيته …
و عليه يمكن القول، أن المشروع النهضوي لمالك بن نبي مستمد من روح الإسلام، و هذا المفهوم النهضوي مستمد من عقيدة التوحيد، و منهجه مستوحى من الكتاب والسنة، وهذا يقتضي أن تكون خطة التنمية منسجمة مع مكارم الأخلاق التي أرساها الاسلام، ومتضمنة الشمولية التى تمزج بين الروح والمادة في قالب واحد، وتنظر إلى الإنسان من خلال هذا المفهوم الشامل، والتنمية هى عملية شاملة تبدأ بعد إنتاج الضروريات وإشباع الحاجات الضرورية، وهى تبدأ بالإنسان وتنتهي به فهو غاية التنمية ووسيلتها، و لعل هذا الفهم هو الذي تم اعتماده من قبل "محمد مهاتير" في هندسة نهضة ماليزيا.. و سنحاول التوسع أكثر في هذا الموضوع في مقال منفصل إن شاء المولى.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون..
أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.