أعزاءي القراء, خطرت ببالي خلجات قوية قادتني بلهفة لتصفح طيات كتب قديمة منعني ضيق الوقت من ان انهل من شهي شهدها, لأجد نفسي انبش بسرعة متلهفة في محركات النسيج العنكبوتي لأضع اطار علمي اكاديمي لبحث هذه المادة التي ارتأيت مشاطرتكم معانيها السامية الوجود, خواطر حاولت اختزالها في افكار مترجمة عن مشاعر ايجابية الهدف منها اقتباس سلوك ايجابي لكل من تصفحها, وكلي امل ان اكون في المسار الصحيح لسد الثغرة عبر بصمة أعبر من خلالها عن اعتزازي وافتخاري بالانتماء لهذا الكوكب واستخلافي فيه. خلق الله الانسان من تراب, فصوره في احسن صورة, فتركيبة عجيبة مكوناتها عبارة عن تأليفات لا حصر لها من النعم, اجلها الاستخلاف في الارض. وراثة الارض معنى شمولي, لذا سنقتصر على مثال المال لبساطة فهمه. الله رزق الانسان المال, وجعله امانة في يده, ففي الاصل المال ليس للإنسان, معناه "ماله ليس له", أي ما للإنسان الا ما اكل فأفنى او لبس فأبلى, او تصدق فأبقى وهذا هو المقصود والمرغوب. كل حظوظ ارزاق الدنيا وهبت لكي توظف في الحق, ليست نعمة ولا نقمة, لكنها موقوفة على نوعية استعمالها. نخلص الى ان وراثة الارض معناها تركيبي: اولا : استخلاف الامة, أي المراد به ابقاء امة في اثر من مضى من القرون وجعلها عوضا عنهم وخلفا لهم و الذي ينافي مفهوم الامارة والخلافة, والدليل على ذلك قوله تعالى:" وربك الغني ذو الرحمة ان يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما انشاكم من ذرية قوم اخرين" الانعام133. ثانيا: تمكين الامة المستخلفة, فالتمكين هو ترسيخ الشيء, وهو تمثيل لقوة التصرف في امر, بحيث لا يزعزع تلك القوة احد, والدليل قوله تعالى: "الم يروا كم اهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الارض من لم نمكن لكم" الانعام 6. المقصود بالتمكين في الارض هو اعطاء المقدرة على التصرف, وهو منحة يعطها الله لعباده الذين اعطوا واتقوا وصدقوا بالحسنى لقوله تعالى: "اعطى واتقى, وصدق بالحسنى" سورة الليل, وينزعها ممن بخلوا واستغنوا, وكذبوا بالحسنى, لقوله تعالى:" بخل واستغنى, وكذب بالحسنى" سورة الليل. يتضح مما تقدم ان الاستخلاف مع التمكين هما معنيين متلازمين, الوراثة لا تتحقق بتحقيق احدهما, فهي في معناها العقائدي لا تتحقق الا بالعمل والاجتهاد. بعد مفهوم وراثة الارض, اسمحوا لي للانتقال بحضراتكم الى فكرة تتعلق بأهمية الاعتقاد لمكنون هذه الدلالة التي تخص تكريم الانسان والرفع من شانه ومكانته عند الخالق من جهة, واقامة المشروع الالهي في الارض الذي اراده الله سبحانه بين الكاف والنون من جهة اخرى. لهذا الاعتقاد اهمية تكمن هي عدة امور تعرف مجتمعة "ديمومة عمارة الارض". عمارة الارض تعني العمل على الارض وتحويلها الى ارض صالحة ينتفع من فوائدها, والعمران كما عرفه ابن خلدون في مقدمته عن نمط الحياة, هو خاصية تميز الانسان عن غيره. حدد العلماء من خلال تدبر القران, تمحور عمارة الارض الى قسمين. عمارة حسية تقوم على بناء الارض وصيانتها والتوظيف الايجابي لما سخره الله سبحانه وتعالى للإنسان, وخضوعه له, أي جعل النعم كلها تحت تصرفه. اما العمارة المعنوية فهي تقوم على احياء الارض بذكر الله وطاعته, اتباع اوامره واجتناب نواهيه, وهذا ما عبر عنه القران بعمارة المساجد, لان تجديد احوال الطاعة لله من أوكد الاسباب التي تكون بها المساجد عامرة , كما ان معصية الله في القول والعمل من أوكد اسباب خرابها, وعمارة المساجد ليست مقصودة لذاتها, بل للدلالة على رسوخ الايمان في قلب المعمر . استمرار عمارة الارض رهين بقيامه على الاجتماع الالزامي لثلاثة ركائز :صلاح الامة وحرصها على توفير الكمالات العلمية و العملية, إضافة الى الجانب المادي اي الارض وزينة الحياة, المال والبنون, و ركيزة الدين اي الموجه المعنوي لخطوات الامة نحو البناء. فإذا كان معتقداً صحيحاً صحَّ الاستخلاف واستمرَّ، وإن كان معتَقداً محرَّفاً ومنحرفاً يكون الاستخلاف وبالاً علىٰ أهله، كما هو حال الحضارات السابقة التي اندثرت بسبب فسادها وطغيان القائمين عليها. الاستخلاف في الأرض يحتاج إلى تأمل عميق ، لأن خلاص المسلمين أن يستعيدوا دورهم القيادي بين الأمم ، أن يصطلحوا مع ربهم أن يعودوا إلى رشدهم ، أن يطبقوا منهج ربهم في حياتهم ، لا أن يكتفوا بالإطار الإسلامي فرق كبير أن يكون المسلم يخدم هيكله الترابي متعلقاً بإطار إسلامي وبين أن يكون المسلم صاقلا لروحه متعلقاً بتفاصيل هوية هذا الدين العظيم ويرى المسبب بعين القلب. فاين نحن من الاستخلاف في الارض ؟؟ وأين النبأ من سبأ ؟؟؟؟؟