مقدمة : نظرًا لأهمية التنمية، والسعي الحثيث لتحقيقها في واقع المجتمعات الإنسانيّة، ولاسيما المتخلفة منها، فإنّ «مفهوم التنمية أصبح عنواناً للكثير من السياسات والخطط والأعمال، على مختلف الأصعدة، كما أصبح هذا المصطلح مثقلاً بالكثير من المعاني والتعميمات، وإنْ كان يقتصر في غالب الأحيان على الجانب الاقتصادي، ويرتبط إلى حدّ بعيد بالعمل على زيادة الإنتاج الذي يؤدي بدوره إلى زيادة الاستهلاك، لدرجة أصبحت معها حضارات الأمم تقاس بمستوى دخل الفرد، ومدى استهلاكه السنوي للمواد الغذائية والسكنية بعيداً عن تنمية خصائصه ومزاياه وإسهاماته الإنسانيّة، وإعداده لأداء الدور المنوط به في الحياة، وتحقيق الأهداف التي خلق من أجلها»([3]). ناهيك عن أنّ هذه النظرة المادية لعملية التنمية قد استكنت في عقول معظم شعوب العالم الإسلامي، وسيطرت على تفكيرهم، نتيجة الهيمنة الغربية، وسيطرة ثقافتها. وبناء على ذلك، فإنّ هذا الأمر يدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم التنمية من منظور إسلامي، وبيان مجالاتها، وأيها أولى بالاهتمام، ثم التركيز على التعليم بوصفه محوراً أساساً للتنمية والنهوض بالعالم الإسلامي، إذ تعدّ التنمية التعليميّة خلاصاً له من تراجعه الحضاري، ولكن قبل ذلك لابد من بيان مفهوم التنمية في الدِّراسات التنموية، حتى يتبين لنا أثناء المقارنة ما بين المنظورين - المنظور الإسلامي والمنظور التنموي - من تمايز وتباين. 1- مفهوم التنمية في الدِّراسات التنموية: التنمية من الناحية اللغوية مأخوذة من نما نمواً، بمعنى الزيادة في الشيء، فيقال: نما المال نمواً أي زاد وكثر. وأما من الناحية الاصطلاحية فقد اختلفت الأقوال في تحديد مفهوم التنمية، وسبب ذلك اختلاف الآراء حول عملية التنمية من حيث مجالاتها وشموليتها؛ فبعضهم يقتصر في تحديد مفهوم التنمية على مجال معيّن كالمجال الاقتصادي مثلاً، فيقوم بتعريفها من خلال هذا المجال المحدد للتنمية، بينما بعضهم الآخر يرى أنها عملية شاملة لمختلف المجالات، فيكون تحديد المفهوم تبعاً لهذه الرؤية الشمولية للعملية التنموية. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ كلمة التنمية بوصفها مصطلحاً ذا معنى محدداً إذا أطلقت فتنصرف إلى معنى التنمية الاقتصادية في الغالب، ذلك أنّ الفكر الاقتصادي الغربي هو الذي وضع مؤشرات التنمية في العصر الحديث، من خلال منظور اقتصادي. فضلاً عن ذلك، فإنّ التلازم بين التنمية والاقتصاد في الفكر الغربي، وانتشار هذا المنظور وهيمنته الناتجة عن الهيمنة الغربية على العالم، والتبعية التي تميّز بها العالم الثالث، جعلت المؤسسات الرسمية في العالم العربي والإسلامي، ولاسيما المسؤولين عن مجال التنمية، يتجهون هذا الاتجاه الغربي في حصر التنمية في المجال الاقتصادي وإهمال ما سواها، ظناً منهم أنّ هذا التبني سيقود حتماً إلى تنمية بلدانهم والخروج بها من التخلف والانحطاط الاقتصادي، ولكن الواقع خيب ظنّهم. لكنّ هذا المفهوم للتنمية الذي يجعل من الإنتاج مقياساً لها بحيث إذا توفر نمو وزيادة في الإنتاج كانت هناك تنمية، وإذا انتفى انتفت، قد ضيّق من مجالات التنمية في المجتمعات الإنسانية، ثم حصر طاقات الإنسان المتنوعة، والتي يمكن تنميتها، في طاقة واحدة هي الطاقة المادية المتمثلة في الإنتاج والاستهلاك لما أنتج. زد على ذلك، فإنّ جعل الإنتاج مقياساً للتنمية، بحيث تكون التنمية الاقتصادية متوقفة على الإنتاج ليس بمقياس سليم في حدّ ذاته، بل إنّ الواقع يشهد بخلاف ذلك؛ فهذا المقياس قد حقق نجاحاً باهراً في البيئة الغربية، لأنّ هذا التوجه في العملية التنموية كان متماشياً ومنسجماً مع النظرة الغربية للكون والإنسان والحياة. وأما بلدان العالم الإسلامي فقد تبنت المنظور الغربي للتنمية وقامت بتطبيقه رجاء حصول نمو وتطور اقتصادي، لكنّ هذا الرجاء باء بالخسران المبين، لا لضعف في الموارد الأولوية أو لقلة في الموارد الطبيعية. ولكن هذا التصور والتوجه الغربي في التنمية كان دخيلاً على العالم الإسلامي الذي له نظرة أو تصور خاص للكون والإنسان والحياة. وبناء على ذلك، فقد «انقضت ثلاثة عقود من «التنمية» وما تزال الدول -التي اصطلح على تسميتها بالنامية أو المتخلفة- تعاني من نفس الأزمات السياسية للمجتمع المتخلف، ولم تحقق تقدماً ملحوظاً في معظم المجالات السياسية والاقتصادية، بل إنها تراجعت في كثير من هذه النواحي إلى مستويات من الممارسة والأداء والفعالية أدنى مما كانت عليه»([4]). فهذا الخلل في مفهوم التنمية جعل المهتمين بها يعيدون النظر في تحديد معنى التنمية إدراكاً منهم أنّ عملية التنمية ليست بمقصورة على الجانب الاقتصادي، لأنّ هناك جوانب أخرى لها أهميتها في تحقيق نجاح التنمية الاقتصادية، فضلاً عن الاهتمام بالإنسان بوصفه المحور الأساس للتنمية. وبناء على ذلك بدأ يظهر التوجه نحو التنمية الشاملة لمختلف مجالات الحياة والأنشطة الاجتماعية فنجمت «التنمية الاجتماعية» التي تهدف إلى إحداث تنمية بشرية. وعلى الرغم من ظهور هذا النوع من التوجه نحو التنمية الاجتماعية، فإنّ بعضاً من علماء الاقتصاد حاولوا تسخير التنمية الاجتماعية لخدمة التنمية الاقتصادية بحيث تستثمر الأولى لحساب الثانية. وهذا التصور للتنمية الاجتماعية نجده عند هيجنز (Higgins) الذي عرفها بقوله: «عملية استثمار إنساني تتم في المجالات أو القطاعات التي تمس حياة البشر مثل التعليم والصحة العامة والإسكان والرعاية الاجتماعية…الخ، بحيث يوجه عائد تلك العملية إلى النشاط الاقتصادي الذي يبذل في المجتمع»([5]). لكن علماء الاجتماع يخطِّئون هذا المفهوم للتنمية الاجتماعية ويرون أنها «العملية التي تبذل بقصد ووفق سياسة عامة لإحداث تطور اجتماعي واقتصادي للناس وبيئاتهم، سواء كانوا في مجتمعات محلية أو إقليمية أو قومية، بالاعتماد على المجهودات الحكومية والأهلية المنسقة، على أنْ يكتسب كل منهما قدرة أكثر على مواجهة مشكلات المجتمع نتيجة لهذه العمليات»([6]). 2- مفهوم التنمية من منظور إسلامي: ليس خافياً من خلال ما تقدم ذكره من تعاريف لمصطلح التنمية أنّ مفهومها ليس بثابت ولا بمتفق عليه، بل كلٌ يتناوله من الزاوية التي هي محل اهتمامه، بحيث يقصر نظره في العملية التنموية من خلال اختصاصه. وهذا الاختلاف يدعونا إلى محاولة تقديم مفهوم للتنمية يتماشى مع المنظور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، وذلك بالاعتماد على المصادر الأساس لشريعة الإسلام. وبعد الإطلاع على كم هائل من تعاريف متنوعة لمفهوم التنمية، وجدتها لا تفي بالمقصود ولا تستوعب مجالات التنمية الكثيرة، بل لا نعدو الصواب إن قلنا: إنّ كلّ تعريف يركز على مجال معيّن من مجالات التنمية فيكون تعريفه لها مقصوراً على ذلك المجال، فلا يتعداه لغيره. ناهيك عن أنّ جلّ التعريفات إنْ لم تكن كلّها قد حصرت التنمية في الجانب المادي فحسب، محاكاة للفكر الغربي. ومن ثَم، فقد عنّ لي أنْ أقدم تعريفاً للتنمية ينسجم مع النظرة الإسلامية للكون والحياة والإنسان، فضلاً عن استيعاب مجالات التنمية جميعها، بعيداً عن أي تأثيرات غريبة على تعاليم الإسلام. وعليه، فأقول: إنّ التنمية من منظور إسلامي تعني: «عملية تطوير وتغيير قدر الإمكان نحو الأحسن فالأحسن، وتكون مستمرة وشاملة لقدرات الإنسان ومهاراته المادية والمعنوية، تحقيقاً لمقصود الشارع من الاستخلاف في الأرض، برعاية أولي الأمر، ضمن تعاون إقليمي وتكامل أممي، بعيداً عن أيّ نوع من أنواع التبعية». هذا التعريف يعبّر - في نظري - عن التصور الإسلامي لمفهوم التنمية بوصفها مصطلحاً يعبّر عن عملية حضارية مستأنفة أو مستحدثة. ولذا، فيمكن إيضاح التعريف الذي قدمته من خلال بيان خصائص التنمية الإسلامية الواردة في التعريف مرتبة حسب ورودها فيه. 3- خصائص التنمية الإسلاميّة: أ - التطوير والتغيير: إنّ أهم خاصية للتنمية هي كونها عملية تهدف إلى تطوير وتغيير حياة الناس في مجتمع ما، ولذلك لا يكاد يخلو تعريف من الإشارة إلى هذا العنصر الأساس في عملية التنمية أو ما يشاكله، مثل التقدم والرقي والتحسين وغيرها. ولكن عملية التطوير والتغيير هذه لابد أن يراعى فيها مدى قابلية الأفراد واستطاعتهم لذلك، حتى لا يكلف الناس أكثر من وسعهم أو يحملوا ما لا يطيقون فتفشل العملية من حيث يراد لها النجاح. ولذا، ورد في التعريف تقييد عملية التطوير والتغيير بعبارة «قدر الإمكان» مراعاة لاختلاف الناس من حيث قابليتهم للعملية التنموية. ثم إنّ عملية التغيير تكون في التنمية دائماً نحو الأحسن فالأحسن، وذلك لوجود فرق مهم بين كلمتي التغيير والتنمية؛ فالتنمية دائماً تعني التحسين والرقي والزيادة في الشيء، بينما التغيير قد يكون لما هو حسن كما يكون لما هو سيئ. وقد ورد لفظ التغيير في موضعين من القرآن الكريم، أولهما في سورة الأنفال في قوله تعالى: ((ذٰلِكَ بِأَنَّ 0للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ 0للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (الأنفال:53)، وثانيهما في سورة الرعد وهي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ)) (الرعد:11). فالتغيير الوارد في الآية الأولى إنما هو تغيير نحو السيئ، بحيث إنّ الله لا يُغيِّر نعمته إلى نقمة إلا إذا حصل ما يقتضي ذلك، وهو التغيير السيئ لأنفس قوم ما. فنظراً لهذا الفرق المهم بين التنمية والتغيير قيّدت التغيير الوارد في التعريف بكونه «نحو الأحسن فالأحسن». ب- الاستمرارية: إنّ العملية التنموية وتحقيق مهمتها الحضارية لا تتم في يوم وليلة أو في عشية وضحاها، بل تأخذ زمناً يطول ويقصر على قدر عزائم الناس الساعين إلى التنمية. ولكن عملية التنمية لا تتوقف عند تحققها، بل لابد من المحافظة عليها وتحقيق المزيد منها، وبذلك تكون التنمية عملية مستمرة نحو الأحسن فالأحسن. وهذه الديمومة والاستمرارية للعملية التنموية تكون مستغرقة لحياة الأفراد والمجتمعات على حدّ السواء؛ بمعنى أنّ الأفراد يستنفدون أعمارهم من أجل التنمية، ويحرصون على نقل ذلك لمن يخلفهم في المجتمع. بناء على ذلك، تكون هذه العملية تواصلية استمرارية؛ مستمرة على مستوى الأفراد، متواصلة على مستوى المجتمعات، بحيث تتواصل العملية التنموية من جيل إلى آخر دون توقف. فإذا توقف جيل ما عن القيام بذلك يؤدي ذلك إلى خلل في العملية غالباً ما يؤدي إلى تراجع حضاري، كما حصل في العالم الإسلامي الذي شهد نهضة حضارية، ومن ثم بدأ تراجع طويل، والسبب في ذلك راجع إلى عدم استمرارية العملية التنموية وتواصلها بين أجيال مجتمع ما. فضلاً عن ذلك، فإنّ خاصية الاستمرارية في التنمية نابعة من النظرة الإسلاميّة السامية للكون والحياة والإنسان؛ فالإنسان خلقه الله ليكون خليفة له في الأرض كما قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى 0لارْضِ خَلِيفَةً)) (البقرة:30). وهذا الاستخلاف لا مجال فيه للعبث وإضاعة الوقت فيما لا ينفع: ((أَيَحْسَبُ 0لإِنسَٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى )) (القيامة:36)، وقوله تعالى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)) (المؤمنون:115). ثم إنّ هذه النظرة السامية للحياة مبنية على التصور القرآني لخلق هذا الكون وأنه ليس للعب ولا للعبث كما قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا 0لسَّمَاء وَ0لاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ)) (الأنبياء:16)، وقوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا 0لسَّمَٰوٰتِ وَ0لاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ)) (الدخان:38). إذن، فالإنسان لم يخلق سدى، ولا الكون خلق عبثاً أو لعباً، فلابد أن يستثمر الإنسان حياته لتنمية ما في الكون، وهي المتمثلة في عملية التعمير: ((هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ 0لاْرْضِ وَ0سْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَ0سْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)) (هود:61)، حتى يؤدي مهمّة الاستخلاف التي نيطت به من قِبَل خالقه U، ويقوم بعملية التنمية والتعمير خير قيام. ويضاف إلى ذلك، أنّ الله Y كلّف الإنسان بتعمير الكون، وتنمية ما فيه، واستثماره. وهذا كلّه في مقدور الإنسان واستطاعته وليس فيه تكليف له بما لا يطيق، لأنّ المولى I حين كلّف عباده بذلك يسّر عليهم القيام به، وذلك بأنْ سخّر لهم ما في الكون وذلل لهم الأرض تذليلاً. وقد وردت عدّة إشارات إلى ذلك في القرآن الكريم منها قوله تعالى: ((0للَّهُ 0لَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ 0لْبَحْرَ لِتَجْرِىَ 0لْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى 0لسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِى 0لاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الجاثية:12-13)، وقوله تعالى: ((هُوَ 0لَّذِى جَعَلَ لَكُمُ 0لاْرْضَ ذَلُولاً فَ0مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ 0لنُّشُورُ)) (الملك:15). ثم إنّ قول الرسول e: « إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا»([7]) ينسجم انسجاماً تاماً مع المنظور القرآني للحياة والكون والإنسان. والرهبانية ليست بتشريع سماوي، بل هي اشتراع بشري ابتدعته الأمة العيسوية (المسيحية) فجعله الله فرضاً عليهم ابتلاءً لهم. وهذا الأمر تدل عليه الآية دلالة صريحة وهي قوله تعالى: ((ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى 0بْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَٰهُ 0لإنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ 0لَّذِينَ 0تَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً 0بتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَٰهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ 0بْتِغَاء رِضْوٰنِ 0للَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا 0لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَٰسِقُونَ)) (الحديد:27). وفي تقديري أنّ الله سبحانه لم يشرع الرهبنة لعباده، بل كانت مبادرة من أتباع سيّدنا عيسى u، فضلاً عن نهي الرسول u عن ذلك لأنّ الرهبنة بمعنى الانقطاع إلى أداء العبادات فحسب تؤدي إلى تعطيل مهمة الإنسان الاستخلافية، وما ينتج عنها من تعطيل لعمارة الأرض وتنمية لما في الكون. ولذا، فهناك تعارض بين الرهبنة وعمارة الأرض، أو قل بين الرهبنة والتنمية، ولا يزول ذلك إلا بذهاب إحداهما وبقاء الأخرى؛ فجعل الله سبحانه وتعالى عمارة الأرض مُناطة بالإنسان ((هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ 0لاْرْضِ وَ0سْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَ0سْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)) (هود:61)، ونهانا رسوله الكريم u عن الرهبنة، وبذلك رفعت الرهبنة المبتدعة، واستمرت عمارة الأرض المشرعة من الله، وفي ذلك إشارة إلى أنّ عملية التعمير والتنمية متواصلة ومستمرة، ليست بمقصورة على جيل دون آخر، لأن مهمة الاستخلاف للناس جميعاً، فليست مهمة جيل دون آخر. ج - الشمولية: إنّ العملية التنموية لا تقف عند التطوير والتغيير المستمر نحو الأحسن فالأحسن، بل لابد أنْ يضاف إلى ذلك كلّه ميزة أخرى وهي الشمولية. والمقصود بالشمولية في عملية التنمية الإسلاميّة أنْ تكون فيها مراعاة لقدرات الإنسان وإمكانياته المختلفة، سواء أكانت مادية أم معنوية (روحية، نفسية، عقلية...). فهذه الشمولية بالمعنى المتقدم تعد من خصوصيات التنمية الإسلاميّة التي تنفرد بهذه الخاصية عن سواها، حيث «إنّ القرآن الكريم يخلو تماماً من ثنائية النفس والجسد التي شغلت الفكر الأروبي الديني والفلسفي، ذلك أنّ الإنسان في المنظور القرآني هو روح وجسم، ولم يرد في القرآن قط ما يحط من قدر الجسم»([8]). وبناء على ذلك، فلا غرابة أنْ يكون الجسم أحياناً سبباً للاختيار والتفوق على الآخرين كما ورد في قوله تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ 0للَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ 0لْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِ0لْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ 0لْمَالِ قَالَ إِنَّ 0للَّهَ 0صْطَفَٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي 0لْعِلْمِ وَ0لْجِسْمِ)) (البقرة:247). وحتى في مسألة الحقوق تختفي ثنائية الجسم والروح وذلك لتكاملهما ولتسوية الإسلام بينهما، فلكلّ منهما حق على الإنسان كما ورد في قول الرسول e:«… إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»([9]). وفي تقديري المتواضع أنّ فشل العمليات التنموية في العالم الثالث، ولاسيما العالم الإسلامي، سببه الرئيس أنها لم تكن شاملة لقدرات الإنسان ومهاراته المادية والمعنوية، حيث إنّ أكثرها يركز على الجانب المادي الذي يراعي التنمية الاقتصادية المحصورة في زيادة الإنتاج وتنميته ولو كان ذلك على حساب الجانب المعنوي في الإنسان، إذ لا عبرة به في عملية التنمية. ولا شكّ أنّ هذا الأمر يقود حتماً إلى فشل العملية التنموية عاجلاً أو آجلاً، بل إنّ واقع العالم العربي والإسلامي اليوم يعاني من هذه المشكلة في عملية التنمية، حيث «يشهد نسق القيم في المنطقة (العربية والإسلامية) صعوداً للقيم المادية والفردية وتراجعاً للقيم المعنوية والمجتمعية. وهذا التحول في القيم يهدد دون شكّ التوجه الإيجابي لقيم المجتمع ومسلكيات أفراده وجماعته، ويطرح تحدياً لعملية التنمية، والتكامل المنشودين»([10]). ولذا، فإنّ عملية التنمية في العالم الإسلامي لابد أن تتصف بالشمولية حتى تحقق ما تصبو إليه من تطوير وتغيير لهذا الواقع المتردي، فلا تكون مقصورة على قطاع دون آخر ولا مجال دون آخر. د - الوعي بمقصود الشارع من الاستخلاف: غني عن البيان أنّ الله سبحانه وتعالى استخلف الإنسان في الأرض، وسخر له ما في الكون جميعاً، وجعل الأرض له ذلولاً، لييسر له عملية القيام بمهمّة الاستخلاف وتعمير الأرض. ولكن الأمر المعضل الذي يعسر علاجه هو غياب الوعي من قِبل أبناء العالم الإسلامي بمقصود الشارع من الاستخلاف. وقد تقدم الكلام على معنى الاستخلاف أثناء بيان ما المقصود بالاستمرارية في عملية التنمية من منظور إسلامي، ولست أريد أنْ أعيد ما تقدم هناك، ولكن أريد أنْ أبيِّن أهمية الوعي بمقصود الشارع من الاستخلاف في عملية التنمية، إذ لا يكفي مجرّد العلم بذلك ومعرفته، بل لابّد أنْ يكون هذا الوعي حاضراً أثناء القيام بهذه المهمّة ومصاحباً لها، بل لابد أنْ يكون دافعاً قوياً نحو قيام أبناء العالم الإسلامي بمهمتهم نحو حصول التنمية الحضارية. ولذا، فإنّ الوعي بمقصود الشارع من الاستخلاف يكون خير دافع للعالم الإسلامي من أجل قيامه بالعملية التنموية وتحقيق عمارة الأرض واستثمار ما في الكون. وسبب ذلك أنّ الإنسان لابد أن يكون له هدف يسعى إليه، ودافع ديني أو عقدي يكون حافزاً له للعمل وبذل الجهد، بغض النظر عن قيمة هذا الدافع ونوعيته. وكلّما كان واعياً ومستحضراً لذلك الدافع الديني أو العقدي كان جهده أكثر وعمله أفضل، ولاسيما إذا كان المطلوب منه مستمراً طيلة حياته ومتواصلاً بين الأجيال، مثلما هو الحال بالنسبة للاستخلاف في التصور الإسلامي. وهذا الأمر يستدعي من المسلمين اليوم استعادة الوعي الذي كان عليه حال الجيل الأول، الذي قام بالتنمية وأنجز تبعاً لذلك حضارة وقام بمهمّة الاستخلاف خير قيام. ولا أقصد بالوعي هنا مجرّد العلم النظري بمقصود الشارع من الاستخلاف، بل ينبغي أنْ يكون هذا الوعي أو هذا العلم مقترناً بالعمل، فلا يكون مجرّداً عن العمل، فإنّ مثل هذا الوعي، وهو حال الأكثرية من أبناء العالم الإسلامي اليوم، لا يحقق المراد منه، ولذا اقترن الاستخلاف بالعمل والتكليف، كما في قوله تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِى 0لاْرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) (يونس:14). ه - الرعاية: إنّ ما نقوله عن التنمية والتعليم وما ينتج عن ذلك من نهوض حضاري، كلّه يبقى حبراً على ورق إذا لم تتم رعايته، لأنّ التنمية التي تحقق نهضة حضارية ليست بعملية فردية، بل هي عملية حضارية يشترك فيها أفراد العالم الإسلامي جميعاً، وتتضافر جهودهم لتحقيق التنمية المطلوبة للنهضة. ولذا، فمن الأهمية بمكان أن يتولى أولو الأمر في العالم الإسلامي تبني المشروع التنموي والسهر على تنفيذه وأنْ يحظى برعايتهم ويحثوا الناس على ذلك ف«إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»([11]) كما قال بحق سيدّنا عثمان t. وبناء على ذلك، فإنّ المقصود بالرعاية هنا أنْ يهتم أولو الأمر في العالم الإسلامي بأمر التنمية، وأنْ تكون الرعاية شاملة لمجالاتها جميعاً. فضلاً عن ذلك، فلابد أنْ تكون هذه الرعاية متوفرة للجميع فلا تكون متوفرة لفئة وغير متوفرة لأخرى، لأنّ ذلك من شأنه أنْ يجعل عملية التنمية مقصورة على فئة معينة، وبذلك تكون التنمية تنمية نخبوية لا تؤتي أكلها لتحقيق نهضة حضارية. ثم إنّ عملية التنمية لكي تؤدي مهمتها لابد أنْ يتوفر فيها عنصر التخطيط والتنظيم الذي يحرص على ذكره كثير من التنمويين أثناء تقديم مفهوم لمصطلح التنمية. وزيادة على ذلك، فإنّ حديثنا هنا عن التنمية وليس عن النمو، لوجود فوارق بينهما، أهمها أنّ التنمية تعني تدخل الدولة بالتخطيط والتنظيم لإجراء عملية التطوير والتغيير السريع، بينما النمو يكون تلقائياً دون تخطيط ويعبّر عنه أيضاً بالنمو الطبيعي([12])، ومعنى ذلك أن التنمية لابد أنْ تتم تحت رعاية وتدخل الدولة. ولذا، فالتخطيط والتنظيم، أو الرعاية بتعبيرنا، لعملية التنمية يُساهم إسهاماً كبيراً في نجاحها، ولاشك أنّ مثل هذا الأمر لا يقوم به خير قيام إلا من له القدرة على ذلك وهي الدولة، من خلال أجهزتها ومؤسساتها التي تستطيع أنْ تشرف على تسيير العملية التنموية تخطيطاً وتنظيماً وتنسيقاً وتنفيذاً، أو قل كلّ ما تراه صالحاً لذلك. وهذه الأمور كلّها تدخل تحت معنى الرعاية. وعلى الجملة، فإنّ الرعاية بالمعنى المتقدم لابد من توفرها في العملية التنموية، حيث إنّ المبادرات الفردية والتنمية النخبوية مع غياب التخطيط والتنظيم لا تجدي نفعاً ولا تحقق نهضة حضارية. ناهيك عن أنّ الحقائق التاريخية تؤيّد ذلك، إذ إنّ الأمم التي حققت نهضة حضارية إنما كانت بفضل العملية التنموية الشاملة المخططة والمنظمة تحت رعاية أولي الأمر منهم. و - التعاون والتكامل: فإذا قام أولو الأمر في العالم الإسلامي بواجب الرعاية للتنمية، من حيث الاهتمام بها والتخطيط لها وتنظيمها وتوفيرها لأفراد المجتمع جميعاً، فبعد هذا كلّه لابد من استجابة المعنيين بعملية التنمية وهم أفراد الأمة الإسلاميّة وذلك بالتعاون فيما بينهم، ولاسيما أنّ شرعنا الحنيف يحثنا على التعاون فيما فيه خير وصلاح كما قال تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى 0لْبرِ وَ0لتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى 0لإِثْمِ وَ0لْعُدْوَانِ وَ0تَّقُواْ 0للَّهَ إِنَّ 0للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ)) (المائدة:2)، وكما قال تعالى: ((إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ0عْبُدُونِ)) (الأنبياء:92)، وقوله تعالى: ((وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ0تَّقُونِ)) (المؤمنون:52). ولذا، فإنّ عملية التنمية لابد أنْ تكون تنمية للأمة الإسلاميّة كلّها، وذلك بتعاونهم فيما بينهم وتكاملهم، وإلا فلا تنمية بفقدان ذلك كلّه. وليس يخفى على ذي لبّ أنّ التنمية في العالم الأروبي، التي كانت تنمية للأمة الأروبية كاملة، شملت أروبا كلّها رغم ما بينهم من خلافات واختلافات تم تجاوزها من أجل التنمية. وهذا النوع من التعاون يكون على مستوى إقليمي، بحيث إنّ كلّ إقليم من أقاليم العالم الإسلامي يقوم أفراده بتعاون داخلي من أجل إحداث تنمية إقليمية. فإنْ تحقق ذلك، يُنتقل إلى نوع آخر من التعاون أسمى وأرقى من الأول، بحيث يتجاوز حدود الإقليم الواحد ليحدث تعاون خارجي بين أقاليم العالم الإسلامي جميعاً. وهذا النوع من التعاون الخارجي عبرت عنه بالتكامل الأممي، لأنّ لكلّ إقليم إسلامي خصوصيات يتميّز بها عن غيره كما أنّ له نقائص. فإذا تم التكامل فيما بينهم في مجال التنمية؛ فيستفيد كلّ إقليم إسلامي من خصوصيات ومميِّزات الآخر، كما يستكمل النقص الذي به من غيره، ولا يتحقق ذلك إلا بالتكامل الأممي. فضلاً عن ذلك، فإنّ هذا التعاون التكاملي يحقق وحدة العالم الإسلامي فيزداد أمر التنمية قوّة، على خلاف ما لو كانت هناك فرقة واختلاف بين أقاليم العالم الإسلامي فتضعف عملية التنمية وتؤول إلى الفشل، وصدق الله العظيم إذ نبه على هذا الأمر بقوله تعالى: ((وَ0عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ 0للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ...)) (آل عمران:103)، وقوله تعالى: ((وَأَطِيعُواْ 0للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ0صْبِرُواْ إِنَّ 0للَّهَ مَعَ 0لصَّٰبِرِينَ)) (الأنفال:46). ز - الاستقلالية: لكلّ أمة خصائص تميّزها عن غيرها، ولها تراثها الديني والمعرفي الذي يكوِّن بمجموعه ثقافتها الخاصة بها. وبناء على ذلك، فإنّ العملية التنموية لابد أنْ تكون نابعة من خصائص ومميِّزات تلك الأمة، منسجمة مع تراثها الديني والمعرفي، ولا تكون مستعارة أو مستوردة. وبعبارة أخرى، فإنّ عملية التنمية لابد أنْ تتم بعيداً عن أيّ نوع من أنواع التبعية بحيث يصح أنْ نطلق عليها «تنمية مستقلة». وعليه، فإنّ العالم الإسلامي إذا أراد أنْ يقوم بعملية تنموية ناجحة وأنْ يحقق نهضة حضارية فليس من سبيل أمامه إلا التنمية المستقلة التي يعتمد فيها على ذاته، ولا ينتظر تنميةً أو تطويراً من الآخرين ولكن ينتظر منهم تعميقاً لتنمية التبعية ومزيداً من الاستغلال. إذن، فالتنمية الحقيقية للعالم الإسلامي لا تتم عن طريق الاستيراد أو تقليد نموذج معيّن في التنمية، بل لابد أنْ تكون نابعة من داخله معبّرة عن وعيه وإدراكه بأنّ عملية التنمية لابد أنْ تكون مستقلة بعيدة عن أي تأثيرات خارجية وغريبة عنه. ولا غرابة أنْ يكون السبب الرئيس لفشل المشاريع التنموية في العالم الإسلامي، ولاسيما العربي منه، أنها لم تكن مستقلة، بل كانت متصفة بالتبعية والتقليد للنموذج الغربي في التحديث والتطوير. فكانت عملية التنمية وافدة من دول تختلف عن واقع المجتمعات الإسلاميّة. ولذا، فقد ذهب كثير من المهتمين بالتنمية في العالم الثالث إلى أنّ «أزمة التنمية التي تعيشها الآن الدول المتخلفة تعود إلى هيمنة الفكر الغربي التقليدي وعدم قدرة هذا الفكر على تحليل أوضاع الدول المتخلفة، هذا الفكر بما في ذلك التراث الفكري التنموي الغربي بعد الحرب العالمية الثانية…أي يجب الاعتراف بأننا مازلنا بعيدين عن تشكيل فكر تنموي عربي مستقل»([13]). زد على ذلك، فإنّ الواقع التاريخي يصدّق ذلك، إذ إنّ الأمم قديماً وحديثاً حققت شهودها الحضاري بالاعتماد على ذاتها من خلال ما حققته من استقلالية في التنمية، وليس ببعيد عنّا التنمية الحديثة في اليابان وما نتج عنها من تحديث وتطوير لمجتمعها مع احتفاظها بثقافتها الخاصة ومعتقداتها ولغتها. وبناء على ذلك، «نستطيع أنْ نجزم، من خلال الاستقراء التاريخي والتجارب الحديثة في المجتمعات الإسلاميّة اليوم، أنّ عملية النهوض التي تعني التنمية بمعناها الشامل لا يُمكن أنْ تحقق إلا من الداخل الإسلامي»([14])، أي عن طريق استقلاليتها بالعملية التنموية، فإذا تم تجاهل هذا الشرط الضروري في التنمية أو التخلي عنه فإنّ ذلك يساهم في تكريس التخلف ويزيد في تنمية التبعية. وهذا الأمر يفسّر لنا فشل التجارب التنموية في العالم الإسلامي منذ أربعة أو ثلاثة عقود تقريباً، إذ كانت تجاربهم تنمية للضياع، وضياعاً لفرصة التنمية الحقيقية، وهي التنمية المستقلة، والتي عبّر عنها تعبيراً دقيقاً بعض الباحثين إذ سماها: «التنمية المفقودة»، يقول جورج قرم في هذا الصدد: «ليست قضية تخطيط اقتصادي بإجراء بعض المعادلات الرياضية وبنقل معدات تجهيزية إنتاجية من العالم المتقدم صناعياً، واستقدام الأموال في حال نقصانها، إنما القضية هي قبل أي شيء آخر اتساق مجتمعي واتزان حضاري. وهذا بدوره يتطلب وجود قيادات فكرية ونخب اجتماعية لها رؤية واضحة في أمور الرقي والانحطاط الحضاري، ولها مواقف راسخة مستقلة ضمن هذه الرؤية هي على استعداد للتضحية في امتيازاتها الآنية لتأمين مستقبل المجتمع»([15]). ولكن استقلالية التنمية لا تعني بالضرورة عدم الاستفادة من الآخرين ومن تجاربهم، بل يبقى المجال مفتوحاً للاستفادة من تجارب الآخرين، فليس هناك منافاة بين الاستقلالية والاستفادة، ولكن المنافاة واقعة بين الاستقلالية والتبعية لكونهما ضدان لا يجتمعان؛ فإما استقلالية وإما تبعية.