أكد المتدخلون في الندوة العلمية الدولية حول "القرآن الكريم ورؤية العالم.. مسارات التفكير والتدبير"، أن القرآن الكريم أرسى أسس واقع إنساني حضاري جيد، بمنظومة قائمة على القيم القرآنية الكلية في التوحيد، والتعارف، والمساواة، والحرية، والتكريم، والفضيلة، والمروءة، والأخوة الإنسانية، والحق والعدل والجمال وغيرها من القيم، موضحين أن الرؤية القرآنية كما يستبطنها القرآن المجيد تؤكد أن الدين الإسلامي إنما نزل لا ليغير المعتقدات، والتصورات، والمفاهيم، والمشاعر، والشعائر، لدى من اختاروا الإيمان به فحسب وإنما كذلك ليغير واقعهم التاريخي والحضاري، وكان ذلك في الندوة السنوية للرابطة المحمدية للعلماء يومي الثلاثاء الأربعاء 3 و4 يونيو الجاري بالرباط. الرؤية الاستخلافية وقال عبد السلام الأحمر عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء، إن مبدأ الاستخلاف يعتبر من المبادئ القرآنية، التي لم تحظ بما يلزم من البحث والدراسة، رغم اشتماله على عدة مقومات، تؤهله ليكون المحور الأساس في بناء رؤية قرآنية كلية للوجود الكوني والبشري، وذلك في عرضه حول "استخلاف الإنسان في الأرض نحو رؤية قرآنية كلية". وأردف الأحمر أن مهمة الاستخلاف هي الأمانة العظمى، والمقصود بها أن تطلق حرية العمل على ظهر الأرض للإنسان مدة حياته فيعبد الله إن شاء أو يعصه إن شاء، فهو مسؤول عن نفسه ومستخلف فيها فهي أول مجال استخلافه الله فيه سواء بتزكيتها أو تدسيتها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، موضحا أن من معاني تلك الأمانة هي حرية ومسؤولية أن يكون له حق تقرير مصيره، وحق الإذعان لشرع الله أو الاعتراض عليه. كما أنه مسؤول عن الأرض لأنه مستخلف فيها ليعمرها بإقامة الدين، وبنشر قيمه، واستغلال خيراتها، وتسخيرها بمختلف المعارف قصد الانتفاع بها وهذا الاستخلاف هو استخلاف عام للبشر. وأكد الأحمر أن هناك جملة من تطبيقات رؤية الاستخلاف، لكي تكون فاعلة ومؤثرة بأن تستحضر في جميع وظائف الاستخلاف في الأرض، قائلا فيجب أن نستحضرها في الجانب السياسي، بأن تكون لنا سياسة استخلافية إسلامية قائمة على الصدق وليس على الكذب، قائمة على الإنصاف والعدل وليس على الجور والاعتداء، قائمة على الرحمة وليس على الاستعمار، وغير ذلك، وأن يكون عندنا اقتصاد استخلافي ليس المقصد منه الربح فقط والثراء واستعمال القوي للضعيف، وإنما يكون الاستخلاف الاقتصادي بتنمية الموارد الأرضية لإنتاج ما ينفع الإنسان، ويساهم في الرخاء والعدل والحياة الكريمة للناس، كذلك أن تكون لنا حضارة استخلافية تقوم على تكريم الإنسان، وتكريس مسؤوليته، وتحترم الآخر ومواقفه، كذلك أن تكون لنا تربية استخلافية وتكون بتربية الطفل الصغير على المسؤولية، واحترام الآخرين، وتنمية طاقاته ومداركه، وإفهامه أنه خليفة الله في الأرض، وأن تكون لنا ثقافة استخلافية تمجد أمر الله وتحترم الآخر الذي اختار خيارا آخر. وحدة أصل الإنسانية وقال أحمد أيت المقدم عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء في عرضه حول "الرؤية القرآنية للمشترك الإنساني"، أعتقد أن الرؤية القرآنية للمشترك الإنساني تعتبر الركيزة الأساسية التي يمكن أن ننطلق منها من أجل حل مجموعة من الإشكاليات، موضحا أن هناك مجموعة من الوحدات التي تشكل ذلك المشترك، أولها متعلق بالأساس التكويني لوحدة المشترك الإنساني والمقصود بها وحدة أصل الإنسانية (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، فالإنسان الذي نتحدث عنه وفق الرؤية القرآنية هو إنسان مكرم فضله الله على كثير ممن خلق تفضيلا قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، مردفا أن هذا التكريم الإلهي يحمل الإنسان مسؤولية الاستخلاف في الأرض، وأن التكريم الإلهي يفترض في الإنسان أن يكون مسؤولا يتحمل أمانة الإعمار والتفكير تدبير هذا الوجود. وأكد أيت المقدم أن ثاني تلك المشتركات هو المشترك الاضطراري، أي أن الله أراد من الناس أن يكونوا عبادا له ليتحرروا من كل عبودية، وهذه الأخيرة منبثقة من الاستخلاف الإلهي للإنسان، موضحا أن المشترك الآخر هو القدرة على التكويني المعرفي والعلمي ولها 49 آية من القرآن تتمحور حول العقل بمدلولاته المختلفة، والهدف منها هو استفزاز العقل البشري ليقوم بدوره في مختلف المجالات، قائلا لذلك ليس لدينا في الفكر الإسلامي مشكلة مع العلم فقد وجد في الحضارة الإسلامية من جمع بين علوم الفلسفة والطب والعلوم الإسلامية، فالقرآن الكريم يوجه العقل البشري اليوم إلى الإيمان بان المعرفة العلمية لا تتعارض مع المعرفة الدينية الصحيحة، مشددا على أن المسلم اليوم لا ينبغي له أن يقف عند حدود النص فقط، ولا ينبغي للعالم المسلم كذلك الوقوف عند النص فقط، بل ينطلق منه لينفتح على الواقع، ويمتلك آليات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأدوات مختلفة يستطيع أن يبلور بها الفكرة الإسلامية. المنظومة القيمية من جانبه، قال عبد السلام طويل رئيس تحرير مجلة الإحياء، أستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس سلا، في مداخلته حول "الرؤية الكلية بين الفلسفة والدين: نظرية المعرفة ورؤى العالم"، لا يمكن أن نبلور رؤية كلية للقرآن الكريم دون أن نصدر ابتداء بأن القرآن الكريم يمثل بنية كلية، بحيث تتساوق وتتطابق نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية الحق ونظرية الجمال، من السهل أن نرصد كلية القرآن الكريم بشكل عام انطلاقا من التسليم بأن القرآن الكريم يؤكد على وحدة الخلق والمساواة بين الناس ووحدة المصدر ووحدة القبلة والوجهة، والطبيعة المنظومة للقيم حيث أن القيم في القرآن الكريم لا يمكن لأية قيمة أن تأخذ معناها إلا من خلال علاقتها بالقيم التي تجاورها، فقيمة الحرية في الإسلام لا يمكن أن تأخذ مدها الدلالي إلا من خلال مفهوم المساواة في الإسلام ومن خلال العدل في الإسلام ومن خلال والتكريم في الإسلام ثم من خلال الطبيعة البنائية للقرآن الكريم ثم النظر الكلي للكون والإنسان وهذا متواتر ثم من خلال البنية المقاصدية لأحكام الشرع كما استنبطها الإمام الشاطبي وكل هذه المحددات تؤكد أن الخطاب القرآني خطاب بنائي وخطاب كلي. التوحيد وكسر بنية السلطوية من جهته، قال رومان كروسفوكيل الأستاذ بجامعة كاليفورنيا إن رسالة الإسلام قدمت رؤية كلية متكاملة أجابت عن كل أسئلة الإنسان حول الله والعالم والإنسان، وأن منطلق تلك الرؤية الكلية هو الوحي الذي جاء للناس كافة، موضحا أن الوحي أحدث تغييرا كبيرا في العالم وفي العالم المسيحي الذي فقد صراطه المستقيم بسبب الإمبراطور قسطنطين، محول المسيحية التوحيدية إلى فكرة الثالوث المقدس. وأكد كروسفوكيل أن مسألة التوحيد كمفهوم جديد يتعارض مع العقيدة المسيحية، وأن فكرة لا اله إلا الله، تنزع القدسية على كل البنى السلطوية، وتجعل الناس سواسية أمام الله، وتقر لهم بالحق في الاختلاف والحرية والمساواة. وأكدت هبة رؤوف محمد عزت أستاذة بجامعة القاهرة، في عرضها "مفهوم المجتمع المدني العالمي: قراءة في علاقة الإنسان بالعالم"، أن بإمكان الرؤية الإسلامية الكلية أن تقدم تجربة فريدة لبناء المجتمع المدني العالمي، موضحة أن تجربة حلف الفضول، ووثيقة المدينة التي صاغها الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمت مجتمع المدينة باختلاف توجهاته الدينية (الإسلام، اليهودية، المسيحية)، ونقلته نحو التمدن والاحتكام إلى وثيقة موحدة مشتركة يمكن الاستمداد منها للمساهمة في المجتمع المدني العالمي، موضحة أن الأمة يجب أن تقدم الرؤية القرآنية وتصور القرآن كدستور عالمي للعالم ليس فقط باعتباره قوانين بل باعتباره مؤسسا لفكرتي الفطرة والمساهمة في إعمار الأرض . مظاهر جامعية العلم القرآنية وقال مصطفى فوضيل المدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية "مبدع" في عرضه حول "جامعية العلم في القرآن الكريم"، إن الإنسان مطالب في الكون بالتفتيش عن خصائص الأشياء وخصائص المفاهيم والأفكار، مردفا أن جامعية العلم في القرآن الكريم لها مظاهر عدة، ملخصا تلك الجامعية التي قال إنها تشكل نسقا كليا في ستة مظاهر، أولا بناء العلم البشري على التعليم الإلهي قال تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها"، ثانيا وحدة العلم وتوحد المفهوم فالعلم في قيمته الأصلية لا يمكن أن يكون فيه تعارض وتناقض. وأوضح فوضيل أن ثالث تلك المظاهر ورود مفهوم العلم على نسق (مترادفات، ومتقابلات، ومتعالقات، فالنسقية هي التي تطبع القرآن الكريم وهي واضحة في قوله تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، رابع أن القرآن الكريم نبه إلى نسبة العلم البشري وإلى البحث المستمر (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، (وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ودفع إلى الانفتاح على الآخر قال تعالى (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)، خامسا أن القرآن الكريم جاء في خطاب متجه إلى جميع طبقات الناس قال تعالى (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، سادسا أن القرآن احتوى أصول العلم فوضع بذلك الإنسان على المنهاج للتخصص في العلوم النافعة. X