"الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34        البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدلية الابتلاء المزدوج
نشر في هسبريس يوم 26 - 01 - 2010


الإنسان وإبليس في القرآن الكريم
الحديث عن الإنسان وفق أي نسق تفسيري يستدعي أبعادا ثلاثة: ماهيته وظيفته غايته. والقرآن الكريم يمكننا من إدراك وتحديد الأبعاد الثلاثة من مجرد النظرة الكلية ، حيث نستطيع القول بعد ذلك ، بأن ماهية الكائن الإنسان ، أنه كائن مكرم بنفخة الروح ، وظيفته استخلافية وغايته العبودية. ومثل هذا الاستلهام المجمل من الكتاب، من شأنه أيا بلغ الإجمال أن يحرر الإنسان من ثقل المحددات التي استلهمتها فلسفات الإنسان على مر التاريخ. تلك الفلسفات التي كانت تدنو أحيانا بمقدار ما تبتعد من ملامسة الأبعاد الإنسانية المذكورة ، حيث بات الإنسان في منظوراتها المتدابرة يتراوح بين الحيوان الذي لا فصل يميزه عن باقي أفراد نوعه سوى نطقه وإدراكه للكليات . حيث ما أن يتم التشكيك في قيمة الكليات نفسها كما عند جمهور الإسميين، واعتبارها مجرد أشباح للجزئيات حتى ينحدر أمر النطق ويصبح الإنسان في المرتبة نفسها مع الحيوان، وربما أدنى ، حيث باقي أفراد الحيوان مدركون للجزئي غير مدركين للكلي الذي هو كما في نظر هيوم وأضرابه مجرد شبح للجزئي ، أي إدراك أدنى من إدراك الجزئي. وحيث حددوا وظيفته بما هو أنكى من تحديدهم ماهيته ، حينما بات الإنسان في الفلسفة الوجودية كائنا مقذوفا به في تيه الوجود ليس أمامه سوى مخرج العمل لإثبات ماهيته سارتر أو ليس له من أمر ذلك سوى التسليم للاتفاق وعبثية الوجود كامو أو.. أو..
لقد أظهرت الفلسفة الوجودية الإنسان في وضع شقي وتحت وطأة وجودانية ثقيلة وعبثية وانسداد وجودي أعظم . وأما غايته فهي عبث في عبث ، وهي في أرقى حالاتها نسيان مستمر للنهاية/الموت.
يتقزم أمر الكائن في فلسفات الإنسان مهما اختلفت عوارض هذه الفلسفة ما بين العصر القديم والحديث . وحيث تتفرع عن تلك التصورات أحكام وموازين لا تكاد تؤمن للإنسان أبسط المطالب التي لا تميزه عن الكائنات الدنيا سوى مبدأ الاشتراك أو التعصب للإنسانية ليس إلا . وهكذا ما أن تضيق الدائرة ويصبح الاشتراك في العرق والثقافة والاجتماع ، حتى تصبح كرامة الحيوان الذي يشاركهم المجال أولى لهم من كرامة الإنسان الذي لا يشاركهم المجال. فكم هو مريع في وجدان أولئك المستكبرين أن يقتل في عالم الإنسان كلبا واحدا في مجتمعاتهم بينما ما أهون أن يبيدوا شعوبا بأكملها. إنها قصة الاشتراك في النوع لا قصة الإحساس بقيمة النوع وكرامته سواء حل بالمجال المشترك أم نأى عنه وابتعد.
سؤال الماهية الإنسانية في القرآن الكريم
أن نحد شيئا معناه، أن نحقق تصوره سلفا و نقدر على تبليغ تصوره. وأن نتصور شيئا هذا ينجز الحكم عليه. غير أن الحاد قبل إيصال المحدود من ذهنه إلى ذهن المحدود له كان قد تصور محدوده سلفا. لكن هل معنى هذا أن المحدود له المتلقي حتما يملك تصورا مسبقا عن المحدود كما في ذهن الحاد المخاطب بكسر الطاء ؟ هاهنا تكمن أهمية التبليغ والجعل والتواصل.. فالحاد يبغي من خلال حده أو لما كان قد تصوره من قبل، تبليغ هذا التصور إلى الآخر. فإما أن يدرك منه الكل أو لا يدرك منه إلا اليسير. فيترتب على ذلك أن تتفاوت الموازين والأفهام . فالعلم كما قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب: "قطرة كبرها الجهلاء". وهذه ليست تهمة للعلوم التي هي تراكمية ، بل هي قاعدة وحكمة تلخص لنا صيرورة الحقائق من العلم إلى العلم ، حيث لا يولد العلم من الجهل الذي هو أمر عدمي. فلا بد من رد المجهولات إلى المعلومات قبل الرحلة نحو المعلومات الجديدة في مسارها التوليدي. ففي الذات الباحثة عن العلم أسس وجدانية علمية مركوزة تشكل أرضية أي استدلال كما لا يخفى. إن بدء العلم حضوري، عند العالم. بل حتى في المعلومات النظرية، لو انتقلت إليه بواسطة البرهان ، توشك أن تتفكك في ذهنه إلى الحد الضروري من المقدمات وربما عادت واندكت بعد أن وضحت ، فيدرك الإنسان معلومه الذي انتقل إليه برهق البرهان بأسرع مما استوعبه أول مرة. فيرسخ ويقتصد في المقدمات فيعود ويتحول إلى إشارات قد ينسى المتلقي مقدماتها، وتتعلق بوجدانه نتائجها مستقلة عن مقدمات التفهيم . فلو أمكن المتلقي أن يدرك من أمر هذا العلم ما يجول في وجدان الحاد ، لاستغنى عن كل تلك المقدمات ، ولانتقل إليه العلم قطرة يستعذبها لا بحرا يغرق فيه . حيث جهل المتلقي هو من يفرض تمطيطا في مقدمات العلم. وليس التمطيط إلا في مقدماته حتى تبرز النتيجة ، فإذا برزت لم يعد من حاجة إلى مزيد مقدمات . وهذا الجهل هو موضوعي عند المتلقي ، حيث ليس معيبا أن يطالب المخاطب بكسر الطاء بمقدمات الدليل . وقد أوقفتنا قصة موسى ع برفقة الخضر في سورة الكهف عند دقائق هذه المسألة. حيث قال موسى:" هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا. قال إنك لن تستطع معي صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا" (الكهف66 ، 67).
لم يكن جهل موسى هاهنا جهلا، بالمعنى العرفي للجهل المستقبح. بل كان جهلا موضوعيا يطالب الخضر بأن يظهر له من مقدمات ما كان يتصرف فيه من وحي النتيجة. فلو رتبنا ما استنتجه موسى من خلال ما ظهر من المقدمات لكان رأيه علما وليس جهلا. ولكن المقابلة هنا هي بين علم حضوري وآخر حصولي.. بين كشف وبين برهان..بين ظاهر من العلم وباطن منه.. فالمقدمات في البرهان ظاهرة وفي الكشف خفية. كان ذلك محطة اختبارية تؤكد على أن علم الله لا حدود له ، وأنه يؤتيه من صالح عباده بما لا يرقى إلى إدراكه نبيا من أولي العزم . فكان النزاع بين علمين أحدهما يحكم الآخر . وقد أذعن موسى للعلم الذي خفي عنه بتواضع علمي كبير ، إدراكا منه بأن علم الله لا حدود له ، وإذ أدرك أنه قد خصّ الخضر بعلم عظيم ، كان موسى قد أنزل نفسه في في المقام منزلة المتعلم : " هل أتبلعك على أن تعلمني مما علمت رشدا". أي البحث عن كمالات العلم. وهي كمالات تقاس بحسب المقام الذي تطلب فيه وليس في المقام الذي تفتقر إليه. فعلم موسى كان كاملا ، ولكنه فوق الكمال هناك الأكمل. وكل بحسبه. ولم يكن موسى خاطئا لأنه لم يطلع على تلك المقدمات التي طلب منه فيه الصبر . وحينما لم يحط موسى بتلك المقدمات فأنا له الصبر على ما بدا له من نتائج تناقض ظاهر البرهان. لذا قال له الخضر:(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا). وكان المدار هو الصبر ، وكيف يكون الصبر على ما لم تحط به خبرا؟ فما في رأس الخضر كان نتائج اندكت مقدماتها في ظاهر تصرفاته. لذا قال له موسى:" لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا" (الكهف73). وهذا لا يخدش في عصمة الأنبياء ، لأن المقام هنا رفيع والخضر أوتي من الولاية التي جعلته يعلم ما لا يعلمه نبي من أولي العزم. فالنسيان هنا مناسب للمقام وكل بحسبه فلا تفهم منه نسيان عامة الخلق في شؤون حقيرة بل هو مقام يظهر فيه تفاوة الأنبياء والأولياء وهناك فقط نفهم كيف فضل الله بعضهم على بعض. فيصبح الكامل إزاء الأكمل في حكم الجاهل وهو ليس كذلك في مقام عموم الخلق. حق حينئذ أن ندرك بأن المقدمات ضرورية لنقل ما كان معلوما عند هذا الطرف إلى ذاك الطرف الآخر الذي يجهله. وهو جهل بسيط ليس مركبا. ولذا بعد ذلك بسط مقدمات كل ما قام به: (هذا فراق بيني وبينك سأنبؤك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) (الكهف 78). وقد بان أن ما لم يستطع عليه موسى صبرا ، هو مقدمات منطقية لكل تصرفات الخضر التي بدت في ظاهرها ظلما و جهلا. إذ حاكم بالواقع الظاهر ما كان خفيا. فبسط المقدمات للجاهل بالمطلوب ، ضرورة لا محيد عنها ، لذا وصفها بالصبر على ما لم تحط به خبرا ، أي بمقدمات الاستدلال. فحق أن يقال ، إن النتائج متى انبسطت مقدماتها بانت وأحكمت. لقد كان موسى في المقام يتصرف بموجب العلم الحصولي ، بينما كان الخضر يتصرف بموجب العلم الحضوري.
لأن بين الحاد والمحدود له علاقة معلومية ومجهولية. وليس علم الحاد هو الذي يفرض تمطيطا في مقدمات العلم ، بل جهل المحدود له هو الذي يفرض تمطيطا وتكثيرا في مقدمات العلم ووسائله. و إذا ما أدركنا أن الحكم على الأشياء هو فرع تصورها ، حق أن يقال على السواد الأعظم ممن لم يحرز تصورا صحيحا عن الخالق كيف يدرك تصورا حقيقيا عن الخلق ؛(ما قدروا الله حق قدره). وإذا ما قدروا الله حق قدره كيف يقدرون الإنسان حق قدره؟!
إشكالية التعريف
كانت محاولة واضع القانون الأخلاقي إيمانويل كانت ماضية في إقرار تعريف للإنسان يفوق كونه مجرد حيوان ناطق. ويمكن اعتبار القانون الأخلاقي هو الدليل الذي ساقه كانط كي يبلغ حدا للإنسان غير ما سبق من حده : أي الإنسان ككائن أخلاقي. وكان ذلك بتأثير من الفكر الديني ، سواء عبر المقايسة التي نهجها كانط عبر عملية الإحلال والإبدال ، ليضع الأخلاق وينزلها منزلة الدين ، كما أشار إلى ذلك شوبنهاور. وأيضا حتى لا ننسى أن كل الفلاسفة الذين استلهموا فلسفتهم من الباراديغم الديني من ابن عربي إلى ابن خلدون ، أكدوا على هذا النوع من التعريف ولو بالجملة ، ما يعني أن أصل التعريف الأخلاقي هو تعريف ديني.
يتعين على التعريف أن يلاحظ الأصل والوظيفة والغاية. وبما أن الإنسانية بهذا المعنى هي مكتسبة ومتغيرة في حق الكائن ، أصبح التعريف متعددا. فثمة ما هو عليه الكائن بالفعل . كما ثمة ما يجب أن يكون عليه الكائن، أي ما هو عليه بالقوة. وحينئذ لا بد أن يتعدد التعريف أو يتوحد على حد مفتوح يلاحظ حقيقة التحول التي هي في الإنسان خاصة، حيث هو الكائن الوحيد القادر على التخارج النوعي. فالأصل فيه أنه كائن يملك استعدادات للتدني وللتسامي. والوظيفة الموكولة به تتأثر بمرتبته في الوجود ، فإما عمرانية وإما تخريبية...إما استخلافية وإما إفسادية.. والغاية التي خلق لها إما عبودية وإما استكبارية.. ولا شك أن الملائكة حينما احتجوا متسائلين ومتصرفين بدافع النزعة الملائكية على الجدوى من هذا المخلوق الجديد، إنما احتجوا بما علموا من شأن هذا المخلوق في حاق القوة لا في حاق الفعلية. وهو ضرب من المقايسة على نموذج تحقق في دنيا الإفساد : (أفتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وإننا لا ندري حقا هل هو قول الملائكة بالفعل أم أنه مما علمه الله تعالى من حاق تساؤلهم ، حيث سألوا ذهنيا ولما علموا بعدها استدراكا أن الله يعلم ما لا يعلمون أحكموا تساؤلهم على نحو الفورية بما أدركوا من حكمة الخالق العليم ، فقدموا علم الله الواقعي المطلق على علمهم الظني النسبي . والحق أنهم قاسوا قياسا ظنيا كما قاس إبليس قياسا مغالطا. لكن شتان بين القياسين. فأما الأول فهو لم يصل إلى درجة الحكم، ولا هو معارض لحكم الله كما أظهر سجودهم الفوري عند سماع الأمر بالسجود. ولا هو استكبار وأنانية. لقد قاسوا على أمر واقع، وأجبر شبهتهم أن مقاصدهم هي العبودية لله. ثم ما فتئوا أن سلموا تسليما. غير أن قياس إبليس لم يكن يستند إلى واقع بل إلى شبهة عنصرية ما أنزل الله بها من سلطان. بل هي إحساس عارم بالأنانية والاستكبار والتعويل على أشرفية العنصر بالمقاييس المادية النقيضة لمنطق العبودية، وهو ما أسميه بالإفلاس التراجيدي للتدين الإبليسي. ثم إن هذا الأخير رتب على ذلك حكما بارز به الخالق قي سفه وضعة. لقد شهد على نفسه أنه أفلس في أمر العبودية وأنه لا يستحق المقام الذي أبلغته إياه العناية الإلهية فكان لا بد من النزول بعد أن جهل جهلا عمليا برفضه امتثال الأمر بالسجود، وبرره بجهل نظري باستناده إلى قياس مغالط.
في كل تعريف للإنسان نقف على ثغرة منطقية تجعلها تعاريف فاسدة أو مستقبحة عند التحقيق. فهي لا تعدو أن تكون ضربا من التعريف بالمثل في المجهولية أو بالأكثر مجهولية ، وأحيانا بخاصة موهومة ليست بخاصة ، حيث ما أن نستزيد في التدقيق حتى نجد من الكائنات من يشاركه فيها كثيرا أو يسيرا. فلو خصصناه بالناطقية ، أي العاقلة ، فكل الكائنات تشاركه فيها تشككا. وإن خصصناه بالتخلق ، فكل الكائنات تشاركه فيها تشككا. أليست الجن والملائكة على أقل تقدير تشاركه مقدارا من التعقل والتخلق. لا بل ، أليس الكائنات الدنيا تشاركه بعض مراتب الإدراك والتخلق؟!
فإذا كان التعريف المنطقي في نفسه عانى ولا يزال يعاني من صنوف المفارقات ، فكيف يراد للتعريف المنطقي أن يعرف كائنا لا يقع في الوجود وقعا واحدا ولا يضمه شأن واحد من شؤونها ، فأي بعد يا ترى يجب على التعريف أن يلاحظه وقد تعددت أبعاده . اللهم إلا أن يكون تعريفا من باب التغليب أو التقريب، وكلها فاسدة في حق الإنسان ؛ لا سيما وأنه الكائن الواعي و المطالب بخلاف غيره أن يعرف نفسه، حتى يعرف ربه. حيث كل الكائنات عرفت من ذلك مقدارا فلزمت، غير الإنسان بوصفه كفورا، يؤمن ويكفر في المساحة التي تركت له حيث ألهم بعضا من القدرة؛ إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل.. ولا غرابة أن ما من كائن إلا ويفترض ان يكون له وعي بذاته ولو في نطاق وظيفته ومقدار مسؤوليته. ولا شك ان الإنسان يدرك بعضا من أبعاده لا سيما الدنيا منها حيث كلما نزل إلى الأرض غلبت حيوانيته ، فكان التعريف حينئذ حيوانيا. ومثل هذا الإدراك لوظيفة الحيوانية تشاركه فيه الكائنات الدنيا ، وربما فاقته فيه، فهي تؤدي وظيفتها كما ينبغي ، سواء أحصل لها الإدراك بحدودها أم لم تكن مكلفة بذلك لأنها مجعولة لتكون كذلك . من هنا يرسم لنا القرآن الكريم تصورا عن الإنسان يجعله متعدد التعاريف أول لنقل مركب التعريف، بحسب المراتب التي احتلها في سلم الوجود . ولن يظل بين أنواع الإنسان المشكك الإنسانية سوى تعريف يجمع بين طبقاته، وهو نفسه تعريف يقوم على الحركة. إن الإنسان كائن متحرك لا يكاد يرسوا على حال أو مقام. فهو في مراتب الوجود صاعد نازل، حيث في عالم الناس كل يعمل على شاكلته، و ليس إلا في عالم الإنسان هذه الحقيقة بادية، بينما في عالم الأنواع الأخرى كل يعمل على شاكلة ما تقتضيه السنة الكونية في هذا الكائن أو ذاك. فهو في أهواله وشؤونه وحالاته في مراتب الشدة بعد المراتب، مصداقا لقوله تعالى:" لتركبن طبقا عن طبق". إن المنطق القرآني يتحدث عن تفاوت في مراتب الإنسانية التي أرادها الله تعالى ان تكون مكتسبا لا حقيقة معطاة. فكل يعمل على شاكلته في تحصيل مقدار هذه الإنسانية ، حيث ثمة من يبلغ مقام الربيين: "كم من نبي قاتل معه ربيون كثير" ، وهناك من يتدحرج إلى قاب قوسين أو أدنى من الأنعام. وحده القرآن يعكس هذه الحقيقة ، حيث ندرك من وحيه تعالى ، أن عالم الإنسان غير متساوي :( أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم)(21 الجاثية 45)
إننا نعتقد بأن العلم ليس شأنا غير الوجود نفسه. بمقدار العلم يكون الوجود. ف ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
وحده عالم الإنسان يشهد هذه الحركة التي قد تتراءى للبعض مثالا عن تراجيديا إنسانية ، في حين هي روعة الخلق ومقام الاستخلاف والنفحة الروحية التي بها كان الإنسان أكرم عند الله وأفضل من كل المقربين. وحده عالم الإنسان يتسع لمراتب في الإنسية ، حيث يكون إنسانا أكثر من غيره في الإنسانية إفراطا أو تفريطا. بينما في عالم الحيوان لا نقف على حيوان أكثر إفراطا أو تفريطا في حيوانيته. بل إن الإنسان زاد على أولئك أنه قادر على أن يخرج من إنسانيته ، فيكون ربيا أو يتدنى فيكون أنعاميا . وهذا ما أسميناه من وحي التدبر بالتخارج النوعي. وهذه الجدلية في الصعود والنزول والتخارج النوعي ، بادية في حياة الإنسان، من النشأة حتى الممات. تتلبس بها أطواره وأدواره وشؤونه. ليس للإنسان في حراكه البشري الذي هو المشترك النوعي ، الذي يحوي كل استعداداته للرقي والتدني، إلا ما سعى. بعد أن ألهمه بارئه اقتدارا على التقوى والفجور ، ونصب له من معالم الهداية بلطفه ما يسهل له سبل الهداية متى ما أبدى هذا الأخير تغليبا لجهة الخير :
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
ليس له إلا هذا الجهد وما سعى لنيل مرتبته في الوجود على شاكلة ما أتى من عمل:
(وأن للانسان إلا ما سعى) ( النجم 39 )
وحيث ما أن يغلب منحى الشر ، وينزع باتجاه الشقاء حتى يزداد ضلالا بعد ضلال، فيفقد الكثير من خصائص إنسانيته ويتدنى إلى ما دون ذلك :
(إن الإنسان لفي خسر)(العصر 2 )
بل لا يزال على حاله تلك حتى تبدأ رحلته إلى خارج النوع الذي كان ينبغي له بحكم التناسب ، فإذا بسنة التخارج النوعي فيه بادية. وكما قلنا سابقا ، وحده الإنسان الذي ألهم اقتدار التمرد على النوع والخروج من حدوده دون أن يلهم الاقتدار على رد آثاره وموجباته :
( كلا إن الإنسان ليطغى) (العلق 96).
ولكنه في الأفق الإنساني الممتد يستطيع أن يتحرك في أرقى مراتبه، وحيث لا من يحد استدعاءه للخير و طلب الأفضل:
(لا يسأم الإنسان من دعاء الخير)(فصلت49).
ليس ثمة في النوع من هو أكثر جدلا كالإنسان :
( وكان الإنسان اكثر شيء جدل)(الكهف54 ) .
حيث طبيعته واقتداره على التخارج النوعي وكونه مخاتلا قابلا للتنكر النوعي :
( إن الإنسان لكفور)(الحج 22 ).
وحيث كفره وحجبه لا ينطبق على النعم المحيطة به فحسب ، بل يشمل أيضا و بالدرجة الأولى إنسانيته . بل إن كفره بباقي النعم ليس سوى فرع لكفره بإنسانيته التي بين جنبيه.
وحيث في مسار حياة هذا الكائن في مختلف مطارحه وتقلباته وشؤونه الوجودية ، ينسى ولذا كما قال الإمام الصادق (ع)، سمي كذلك لنسيانه ، وهي تحيل إلى معنى النسيان ، وهو النسخ؛ (ما ننسخ من آية أو ننسيها نأت بخير منها أو بمثلها) . حيث يصدق أن يكون النسيان آلية للتقدم وطلب الخير كما أكدت الآية آنفا : (لا يسأم الإنسان من دعائه الخير) لكنه في البعد الثاني من حياته الممتدة من الدنيا إلى الآخرة ، سيتذكر كل ما كان له أو عليه :(ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر)(القيامة13 ). حيث بمجرد الاستذكار يدرك مراتبه في الوجود ، وتقلباته وتخارجاته النوعية ، فإذا به يرى نفسه على غير ما كان محجوبا مكفورا من أمرها . فيزداد بصيرة بما كان يجب أن يكون عليه ، ويكشف عنه الغطاء ، فيغدو بصره حديد. لقد حدثنا القرآن الكريم بأن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم. بما مكنه من سبل الطاعات ونصب له من معالم الهداية وأوزعه من دعاء الخير والبصيرة بنفسه :( بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره)(القيامة75 ) .فلقد زود بالاستعداد كل الاستعداد لينال من العصمة بقدر.
الإنسان وإبليس وجدلية الابتلاء المزدوج
يحكي لنا القرآن الكريم عن قصة أو بالأحرى تراجيديا الابتلاء المزدوج ؛ ذلك الذي استحق به إبليس التردي في درك اللعنة الأبدية ، كما استحق به آدم أن ينزل إلى بلاء الوجود في الدنيا . نمر على هذه التراجيديا كما لو كانت مجرد مسرحية تكاد تندك فصولها، لتخلص إلى نتيجة نهائية: اللعنة على إبليس، وخطيئة الإنسان الأول وميلودراما النزول. حتما تكاد عقولنا تتجمد حيال جملة حقائق ما كان للقرآن أن يفصلها ما دامت لا تشكل جوهر القصة، فضلا عن أنها متاحة للوجدان العام. كم استغرقت هذه الأحداث ، وفي أي مجال دارت حوادث قصة الابتلاء؟ قد تكون القصة المذكورة قد استغرقت عددا كبيرا من السنوات ، لعله يفوق كل عمر الإنسانية اليوم منذ نزول أبينا آدم على الأرض . وقد تكون في بعد لا يحضر فيه الزمان بحراكه البطيء ولعلها مرت بمقدار ما يستغرقه شريط حلم من زمان مهمل . لكن الأهم في ذلك ، أننا لا نكاد نتوقف مليا عند هذه القصة أو الميلودراما التي كانت مفصلا نهائيا في مسار أبينا آدم وأيضا إبليس اللعين. وحينما يحدثنا القرآن على أن علاقة آدم بإبليس هي علاقة عداوة دائمة ، كان ذلك إيذانا برحلة طويلة الأمد ، في علاقة محكومة بالحذر الشديد وبفرص الترقي بقدر عدد المزالق والمهاوي والفخاخ التي ينصبها عدو ليس له من دور في عالمنا سوى الغواية والانتقام والإفساد. كان إبليس ابتلاء لآدم في حياته الدنيا ، غير أن آدم هو نفسه وقبل كل شئ هو ابتلاء عظيم لإبليس. إن إبليس لا يغوي الملائكة وإن كانوا عن ذلك منزهين ، ولا يغوي من الخلق من كان قابلا بالغواية ، بقدر ما هو متجه إلى الإنسان بوصفه عدوا له ، حيث يوما بعد يوم وفي كل لحظة من لحظات حياة إبليس المضمخة بآثار الاستكبار والعناد يزداد لعنة بعد أخرى ، حيث لو أدرك بأن الذي خلق آدم وجعله ابتلاء له ، هو الخالق تعالى، فحقا يقال لأولئك الذين حاولوا تبرئة إبليس أن يدركوا بأن هذا الأخير، حقا هو مصداق أكبر لقوله تعالى: "ما قدروا الله حق قدره"! إن أبسط دارس لأوليات علم الكلام لا يمكن ان يقع في فخ المكابرة التي وقع فيها إبليس، إلا أن يكون كافرا مستكبرا. لقد كان حقا معاندا جهولا، حيث اخفق فيما لم يخفق فيه أنبياء وصلحاء من عامة الخلق ابتلاهم الله ، كما ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن. ويبدو أن إبليس لم يكن كما قيل أنه بلغ مبلغا من العبودية والعرفان مكنته من الارتقاء إلى منزلة خاصة عند الله. يبدو أن رحلة ابتلاء إبليس كانت في علم الله مذ دخل حضرة الكروبيين ، حيث حق أن يبتليه الله تعالى في منزلة ليست له ، حتى لا يستكثر على الله عبادته وحتى يجعله يخفق في امتحان لا يخفق فيه ملائكة الرحمان ، ولا صلحاء بني آدم الذين أبى إبليس أن يسجد لأبيهم طاعة لله تعالى. فكيف بمن كان من ولد آدم لهم مع الله حالات لا يصلها ملاك مقرب، أو من امتنع كبير ملائكة الرحمان أن يجاريه ليلة معراجه، حيث عبر عنها جبريل: لو تقدمت قيد أنملة لاحترقت. كان آدم هو الابتلاء الأعظم لإبليس ، وكان إبليس عدوا أيضا اقتضت الحكمة الإلهية أن تجعله ابتلاء لبني آدم، في جدلية الابتلاء المتبادل. إنها ليست خطيئة آدم بقدر ما هي فضيحة إبليس الذي أخفى على من حوله سوى الله المطلع على مكنون اعتقاده ، أنه خير العابدين. فشاء الله أن يفضح هشاشة اعتقاده ومخلوط إيمانه وكبريائه وكفره بآدم الذي ما كان إبليس يطيق أن يضمن مكانته المزيفة مع الله بمجرد أن كان آدم.
لقد حاول الكثير من المثقفين الذين تنقصهم المعطيات بأحكام الشريعة والعلم بالفقه الأكبر، التطوح في أمر هذا الحدث. حيث إبليس في قراءتهم لم يكن مخطئا فيما ادعاه، بل كان في قمة التوحيد والعبودية وهو يرفض السجود لغير الله. ويستمسكون هاهنا بشبهتين:
الأولى، أن موقفه مناسب للعبودية الخالصة لله لأنه أبا أن يسجد لغير الله.
الثانية: أن موقفه كان مناسبا مع حقائق الأشياء ، حيث في سلسلة العناصر تكون النار أشرف من الطين الخسيس ، فهو تصرف على وفق علمه.
والحق أن هؤلاء مثل إبليس نفسه، كانوا على ظاهر من العلم ، جعلهم يغفلون عن جوهر الحقائق، حيث أحيانا يكون جوهر العلم لو تم البوح به يوحي بالشرك أكثر من ظاهر الأمور الخادعة. أو كما قال زين العابدين وسيدهم :
والحق يقال ، أن ظاهر السجود لآدم ، كان في جوهره غاية العبودية لله. ولك تفاصيل ذلك.
لقد حاول بعض المعاندين أن يمططوا ويتفلسفوا حيث لا مجال لمثل هذا التسطيح الظاهر للحقائق ، وفي مقدمتهم الدكتور جلال العظم في نقد الفكر الديني ، الذي دافع فيه باستماتة عن إبليس اللعين ، كما دافع باستماتة عن صاحب آيات شيطانية ، حتى ندرك بأن جلال العظم ما فتئ يرافع ضد الله والإنسانية من أجل إبليس اللعين الذي بدا لهم ، تغليطا ، بطلا حزينا في تراجيديا الابتلاء. وقد التف ودار لكي يصب علينا من سذاجة خطاب ، يغلب عليه الجهل والعناد والمكابرة . شاء جلال العظم بسذاجة أن ينسب الظلم إلى الله تعالى ، حيث لو صدقنا بأن إبليس كان بريئا وعابدا لله ، فكيف ينزله منزلة اللعين؟! سيكون الإنسان خطاء والخالق تعالى كذلك في نظر جلال العظم ، حيث إبليس وفقط إبليس هو من بلغ غاية العبودية ولم يخرج عن نظام الأشياء. ومثل هذه المفارقة التي تجعل إبليس يبلغ غاية العبودية لخالق وصفه جلال العظم بأنه تصرف على غير منحى العدل؛ ما قيمة هذه العبودية داخل هذه المفارقة؟! وهل الله تعبده بالأمر لا بشرط أم بصورة السجود..وهل تعبده بالعرض أم بالجوهر..بالسجود الطريقي أم بالغاية والمقاصد..لشد ما كان إبليس جهولا وتافها، حيث مكر بهشاشة إيمانه ، حيث مكر الله بعلمه ، فكان ورود آدم مساوقة لفضيحة إبليس..وما المنزلة التي أنزله الله فيها إلا طورا من أطوار امتحان إبليس في مكره وزيف عبوديته لله. وحيث لم يستجد شيئ مع ورود آدم سوى أن كشف الله تعالى عن إبليس الغطاء، فافتضح أمره بآدم.
وحيث إن جلال العظم يتحدث عن فصول قصة أو ميلودراما جرت فصولها في غيب لا يؤمن به جلال العظم ، وتتحكم بها قوانين لا يؤمن بها هذا الأخير ، كيف نصب نفسه ناقدا لعالم يرفض الانصياع إلى قوانينه ، التي هي قوانين العبودية لله بما يحيط بها من أسرار وما تستلزمه من عرفان.
الشبهة الأولى أن جلال العظم لم يكن شأنه شأن إبليس، يدرك مغزى العبودية حيث اقترنت في ذهنه بحركات السجود. ولا يكاد يدرك ولا يميز بين الظاهر والباطن وبين ما بالذات وما بالعرض. إن جوهر العبودية أعم وأشمل من السجود ، الذي قد يكون لما جعل له. بوصفه ليس موضوعا للعبودية بقدر ما هو طريق لها. وفي كل الأحوال ليس السجود إلا تعبيرا عن العبودية بالعرض لا بالذات. وحيث أن السجود إن كان الآمر به هو الله تعالى ، وبه ارتضى عبودية الخلق ، كان على إبليس وقد بلغ منزلة ومقاما في العرفان ، قاضيا بأن يسجد لآدم حيث جعل الله السجود له عرضيا وطريقيا تتحقق به العبودية لله، حيث المدار هو أمر الله ، والعبودية تدور مع أمره تعالى وجودا وعدما؛ حيث لم يعاقب الله إبليس على عدم السجود ، بل على عدم الامتثال للأمر، ولذا علل ذلك بقوله تعالى:( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه)(الكهف 50).
وفي أخرى:( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).(البقرة 34).
لقد تعلق إبليس بالمصداق وترك المفهوم..وتمسك بما بالعرض وترك ما بالذات..وانحرف عن الجوهر ليتمسك بالظاهر..
أما من ناحية العلم بحقيقة سلسلة العناصر وتفاوتها في القيمة والمنزلة التي على هذه السنة في تفاوت خلق الله العالم، نقول بأن هذا المنطق هو نفسه منطق ظاهري. بينما عالم النشأة الأخرى تنقلب فيه هذه المظاهر التي تبدوا جميعا في نسبيتها الدنيا تجليات للقدرة الإلهية، فهي متضايفة حيث في مجموعها تؤكد على عظمة الخلق وقدرة الخالق على أن يخلق كل ما جال في خاطر مخلوق. ثم كيف امتثلت الملائكة النورانية السجود لآدم ، وأبى إبليس وقد خلق من نار. وهل غابت النسبية عن جلال العظم حيث صار يقيم الخليقة على أساس المعدن النفيس والمعدن الخسيس، ويعلل منطق العبودية المجرد بمنطق الإستقسات والعناصر؟! غير أن لا جلال العظم ولا إبليس أمكنهما إدراك السر الذي به كان آدم أشرف من إبليس . هو سر تلك النفخة الروحية التي هي بلا شك أشرف من كل العناصر حيث لا تحضنها أحياز ولا يسمها عنصر . فالإنسان كان إنسانا بصورته النوعية التي تستغني عن العناصر المادية متى استقر في عالم ونشآت العقل والمثال ، وهي الصورة التي حققت فعلية وجوده، حيث أمكنها مفارقة مادتها ، لتظل حقيقة خارج ضغط العنصر، فيكون آدم إنسانا بصورته وجسمه الصوري في النشأة الأولى حيث مورد الامتحان كالنشأة الأخرى ، جسم كهذا وليس هذا ، أي منزه عن التكون العنصري الخسيس ، لكنه هو هو؛ حيث : (وننشئكم فيما لا تعلمون). فإذا كان هذا مقدار ما علمنا من أمر العناصر ، فماذا هو هذا الذي لا نعلم، حيث لن نعلم منه سوى أنه مناسب لعالم النشأة الأخرى المنزه عن المواد. من هنا قال الصادق (ع) : (ولو قاس أي إبليس نورية آدم بنورية النار، عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر) .
أقول: لقد أثبت الإمام الصادق هنا معنى دقيقا ، لعله كان مؤسسا للمفهوم المشكك المتردد بين المتواطئ والمشترك، شأن الوجود والجوهر. فالنور كما خفي أمره على إبليس وعلى جلال العظم بمزيد من التلبيس، ليس حقيقة واحدة إلا بالجملة . لكنها مراتب في الأهمية ، حيث في عالم النور نفسه ثمة ما هو أشرف وما هو أخس نورية ، شأن النور الأخس المحايث للظلمة.وأيضا بين أن قياس إبليس كان مغالطا لأنه لم يقس نوريته بنورية آدم ، بل قاسها بطينة آدم ، حيث هي منه عرضية ، وحيث بها يتشخص وجوده الفعلي في عالم المواد. فهو قياس مع الفارق.
إن الامتحان دارت فصوله في نشأة أخرى ، حيث ليس ثمة من حضور سوى إلى ما يناسب تلك النشأة ، حيث القيم لا توزع بحسب سلسلة العناصر ومراتبها في الوجود المادي الأدنى ، بل هو امتحان في نشأة تتقوم بها الرتب الوجودية بحسب الأصفى والأشد نورية كما لا يخفى.
إن شرف آدم على إبليس أنه مهما نزل وكان من السافلين، لا يزال متعلقا بأهداب استعداده للصعود ما دام حيا. فتظل علقة البشرية بما تختزنه من استعدادات للنزول والصعود ، هي آخر ما يتبقى حتى مع كفر البشر ، حيث يبدوا في نهاية المطاف كفرا عرضيا قابلا للتزلزل متى تذكر هذا الأخير. وحيث كفر إبليس كفر أعظم لأنه بارز الخالق بالجهل كله والكفر كله ، ما جعله حقيقا باللعنة الأبدية. أجل ؛ ذلك هو الإنسان وذاك هو إبليس في جدلية الابتلاء المتبادل. ولسائل أن يتساءل ، لما الحديث عن الإنسان وإبليس معا في القرآن ، وهل بالإمكان تعريفهما كلا على حدة؟ والواقع أن القرآن يحمل تعريفا جدليا عن الإنسان ، الإنسان في حركة صعوده ونزوله. وفي كل حركة من حركات الإنسان التي تحدد وجوده ومصيره ومرتبته في الوجود، هناك جدل مع إبليس..إن تعريف الإنسان لا ينفك عن تعريف إبليس، وعن جدلية الابتلاء المتبادل بينهما. فإذا صعد كان انتصارا على إبليس وإذا هوى كان انهزاما أمام إبليس. ففي كل حركة هناك إبليس، هازما أو مهزوما. لقد قال تعالى:
( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) البقرة /36
(إن الشيطان للإنسان عدو مبين) يوسف/5
(إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فاطر/ 6
[email protected] mailto:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.