أصبح سؤال القيم، اليوم، من الأسئلة الملحة على الفكر الإنساني المعاصر، لعدة أسباب أهمّها الشعور بالحاجة إلى معالجة المشكلات الأخلاقية على مستويات المجتمع، والفرد، والدولة، والعلاقات الدولية، والأسرة، إلخ. لكن البحث الوضعي عن إجابات لهذا السؤال الملحّ ينتهي دائماً إلى أفق مسدود لأنّه لا يدمج في مقاربته مبادئ الوازع الرّوحي والجزاء الأخروي والعلاقة بالله تعالى، والمفهوم السليم للحرية والمسؤولية ووظيفة الإنسان في الحياة. ومن ثم كانت هذه الفلسفات الوضعية في حاجة إلى الانفتاح على «مدوّنة القيم في القرآن والسنة» وهذا بالضبط هو عنوان كتاب الأستاذ محمد بلبشير الحسني الذي صدر حديثا ضمن منشورات المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية بالمدرسة العليا للأساتذة في تطوان، (مطبعة طوب بريس الرباط) وهو يتألف من 160 صفحة من القطع الكبير. وقد قدم له رئيس هذا المركز خالد الصمدي بكلمة جاء فيها أن «العالم اليوم يبحث عن منظومة قيم مرجعية شاملة ومتكاملة ذات أصول نظرية واضحة، بل وعرفت تطبيقا ت عملية في سلوك الناس، وآتت أكلها في تنظيم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبمحيطه، وهو في حاجة أيضا إلى معرفة المنهج الذي بواسطته يمكن أن يبني هذه المنظومة القيمة لدى الناشئة. إن هذه الحاجة المهمة والملحة والتي لمسناها في غير ملتقى علمي دولي تحضره الملل المختلفة، ونقرأها يوميا في كتابات الباحثين المنصفين التوّاقين إلى التوافق على منظومة من قيم الإنسانية مشتركة تنقذ الإنسانية من ما تصطلي فيه من لظى الحروب والصراعات... وإنّ هذه الحاجة العالمية هي التي تدفعنا اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى أن نبسط أمام العالمين بكل وسائط التواصل الممكنة، منظومة القيم الحضارية الإسلامية انطلاقا من تأصيلها في المرجعية النصّية (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) وتجلياتها التطبيقية في السيرة العطرة، وكذا التاريخ الحضاري المشرق للأمة الإسلامية، بالإضافة إلى إبراز الرؤية الشمولية المتكاملة والمتوازنة لهذه المنظومة والتجارب العملية في طرق ووسائل ترسيخ هذه القيم لدى الأجيال في تعاقبها وتوازنها، حتى يستفيد العالم من هذا المنبع الثر..». كتاب الأستاذ محمد بلبشير الحسني تأصيل لبناءِ منظومة القيم الإسلامية من مصادرها الأصلية، وقراءة منهجية لها، حيث وقف المؤلف عند أصل القيم وأركانها ومصادرها وخطابها وأساليب بنائها، وربط كل ذلك بحاجة العصر وقضاياه، وقدم إجابة عن سؤال القيم في المنظومة التربوية والأخلاقية عموماً، رابطا ذلك كله بالسلوكات، ومحدداً المسؤوليات ومصنّفا القيم، وموجّها القارئ إلى ترسيخها في المجتمع. الإعجاز القرآني القيمي ذكّر المؤلف في مدخل هذا الكتاب بأهمية القيم في حياة البشر، في تصرفاتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، حيث يتجلى حضورها في جميع مجالات الحياة الأسرية منها والروحية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، والعلمية والفكرية، والفطرية والشعورية. «قد يُختلف في القيم الاقتصادية والسياسية ومبادئها ولكن قلما يختلف في أركان القيم الأساسية كالحق والحرية والعدل والمساواة، التي تدعو إليها الشرائع السماوية والمنظمات الإنسانية..» (ص 8). إنّ الإعجاز القرآني القيمي الأخلاقي نوع من الإعجاز لم يُدرس بعد الدراسة المطلوبة فبالموازاة «مع إعجاز القرآن اللغوي والبلاغي وإعجازه العلمي، هناك إعجازات أخرى، منها ما أشير إليه سابقا كالإعجاز الغيبي والتاريخي ومنها ما لم يحظ إلى حد الآن باهتمام الباحثين في العلوم الإنسانية وما يرتبط بها من مواضيع كموضوع «القيم»، علما بأن القرآن كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه على مر العصور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. يتحدث القرآن عن خالق القيم ومُصدِّرها الأسمى وعن قيم الإيمان به وخشيته وتقواه، ويتحدث عن تعليماته بخلقه ودعوتهم إلى التعارف والتعاون فيما بينهم، وحثهم على التمسك بالأخلاق الفاضلة والمعاملات الحسنة وتنبيههم إلى ما أنعم الله عليهم به من طاقات فطرية ومعرفية ولسانية وعقلية وحواسية، عليهم أن يستعملوها ويحسنوا استغلالها. كل هذه البيانات والتعاليم من أوامر ونواه قيم مرغوب في وعيها واتباعها. ثم أضاف القرآن إلى كل ذلك تنبيه الإنسان إلى ضرورة التمعّن بالرؤية والنظر إلى ما حوله، من ذلك قول الله تعالى (فلينظر الإنسان ممّ خُلق)، (أو لمْ يرَ الذين كفروا) الخ، بل إنّ الله تعالى أقسم ببعض المظاهر الكونية، قصد إثارة انتباه الإنسان إلى قيمها، من ذلك الشمس والليل ومواقع النجوم والسماء والأرض وغيرها» (ص 8 9). شبكة القيم الإسلامية حاول المؤلف وربما كانت محاولته هي الأولى من نوعها كما قال وضع «شبكة قيم» تتجلى بارزة في ثنايا آيات الذكر الحكيم وبعض مجالات السنة النبوية المطهرة وعيا منه بأنّ تخليق المجتمع وتنميته تنمية صالحة، لن يتيسرا دون تقوية الوازع الرّوحي لدى الأطفال والشباب، وتمتين الهوية الإسلامية في نفوسهم، الأمرالذي سيجعلهم يدركون أهمية القيم التي أنعم الله بها عليهم. «لذا يتعين تلقين هذه القيم والأخلاق في المؤسسات التعليمية والثقافية وعن طريق وسائل الإعلام، فضلا عما في هذا الأمر من خدمة لكتاب الله وسنةرسوله، واكتشاف ذخائرها وكنوز مكنوناتهما» (ص 10). وبيّن ذ. محمد بلبشير الحسني أن دعوة القرآن والسنة اشتملت على ضوابط أخلاقية مبنية على الحث على الفضيلة، وعلى التنديد بالفواحش والرذائل والتحذير من مزالق النفوس وهواها، بتلاؤم تام بين تعاليم الشريعة ومبادئ الأخلاق الفاضلة، وبين مقاصد تهذيب الفرد وإصلاح المجتمع. من ذلك قول الله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) (البقرة: 42) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قل الحق ولو كان مرّا. قل الحق ولو على نفسك، قل آمنت ثم استقم». ومن الضوابط القرآنية في المعاملات مجموعة من التعليمات التي تدعو الإنسان عموماً والمسلم خصوصا، إلى الالتزام بها، وذلك بهدف الدعوة إلى حسن المعاملة وضمان العدل والأمن الاجتماعيين. ومن ذلك قول الله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايَعْتُم ولا يضارّ كاتب ولا شهيد) (البقرة: 282). ويستنتج المؤلف أنه بناء على ما تقدم يمكن وضع شبكة قيمية أخلاقية تنطلق من القرآن والسنة النبوية. وقد قسمها إلى قيم مميزة للإنسان بحكم آدميته وطبيعته البشرية، وأخرى تتعلق بمعتقداته وارتباطاته وسلوكاته. «وهكذا يمكن تصنيف القيم صنفيْن كبيريْن: قيم جعلها الله كامنة في جسم الإنسان وطبيعته ونفسيته، وقيم مكتسبة عن طريق الدين والتربية والحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى قيم بعض المعنويات والمحسوسات كاللغة والعلم والزمان والقلم والمكان والماءوالنور والمال.. إلخ، وإلى قيم منهجية كالمصداقية والمعقولية والموضوعية واللاعبثية، وذلك قصد التنبيه إلى قيمتها وإلى العواقب المترتبة عليها في حياة البشر وأيضا إلى ضرورة اعتبارها في مواقفهم وتصرّفاتهم» (ص 13). يتضمن الصنف الأول أربعة أنواع من القيم: قيم الكرامة والأفضلية والأحسنية في التصوير والتقويم. قيم ذاتية، فطرية غريزية، رحيمية وجدانية. قيم طاقية من عقل وذكاء وعلم وعمل. قيم جسمية تتميز بصفة خاصة بحاستي السمع والبصر وباللسان، وهي الأدوات الأساسية في كل علم وحضارة. ومن شأن هذه القيم الطبيعية في الإنسان أن تمكنه من قيمة الاستخلاف عن الله، تلك القيمة السامية والمرهونة بالحرية والمسؤولية من جهة، والمتبوعة من جهة أخرى بالحساب والجزاء الدنيوي والأخروي كما أكد المؤلف. وعليه، فإن هذه القيم المتعلقة بطبيعة الإنسان تصبح أرضية للمعيارية القيمية له والتي تتركز، أساسا، على آدميته من جهة، وعلى استخلافه من لدن خالقه، من جهة أخرى. وبعد أن يذكر المؤلف النّعم الجليلة التي أنعم الله بها على الإنسان يسأل: كيف يتجلى سلوك هذا الإنسان تجاه هذه النّعم؟ هل سيكون سلوكه العقلي والوجداني بعيداً عن التقليد أو الاستلاب أم متمسكا بهما، وهل ستملي عليه نفسُه اللوّامة ما ينبغي اجتنابُه، أم سيخضع لنفسه الأمّارة بالسوء ولهواه ونوازعه السيئة؟ وهل ستكون تصرفاته المعرفية والاجتماعية طبقا لما رسمه الخالق أم سينحرف عنها؟وهل ستكون علاقته بباقي المخلوقات بجميع مكونات بيئتها الطبيعية العلوية والباطنية والسطحية والبحرية علاقة اصلاح واستفادة بصيرة أم علاقة فساد وتبذير. مرتكزات القيم وحاول ذ. بلبشير الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال محاور تندرج في قسمين كبيرين لهذا البحث: القسم الأول: مرتكزات القيم في القرآن والسنة. وهو يتضمن: ٭ شبكة القيم من خلال القرآن والسنة ٭ مصادر القيم ودواعيها. ٭ المصدر الرباني: عالمية القرآن ومقاصده في تثبيت القيم. ٭ أسلوب القرآن في عرض القيم. ٭ الله تعالى واضع القيم ومُصدّرُها. ٭ أركان القيم في الإسلام. ٭ موجبات القيم الذاتية والبيئية للإنسان. ٭ مؤشرات القيم فيما صدر عن الحق سبحانه وفيما يتصرف فيه الإنسان. ٭ عوامل مصداقية القيم الفاضلة. وأما القسم الثاني فيتمحور حول خطاب الله ورسوله للعالمين، ويتضمن تحليلا لصيغ الخطاب، ومقومات الدعوة القرآنية، والدستور القرآني للأخلاق والمعاملات، والإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ومضامين الخطاب، وأهمّ الخصال الحميدة والخصال المذمومة، والتصرفات الإيجابية والتصرفات السلبية، ويختم البحث بفهرسه لأهم ما ورد في فحواه من قيم وأخلاق محمودة ومذمومة. إنّ أبرز ملمح في منهج المؤلف هو القدرة التصنيفية الاستيعابية من جهة، والكفاءة الوصلية الإلحاقية من جهة أخرى. فبقدر ما تمكن من ترتيب وتصنيف هذه القيم من القرآن والسنة بعد استخراجها وجمعها، بقدر ما نجح في وصلِ بعضها ببعض وضم كل قسم منها إلى ما يُشاكله. ثم هناك ملمح أساسي آخر وهو القراءة التنويرية النفسية الاجتماعية لهذه القيم، ومحاولة البحث في سبُل تفعيلها في المجتمع، انطلاقا من التوجيهات القرآنية والحديثية. ويبقى الكتابُ، بعد هذا وذاك، مرجعاً جامعاً للقيم في القرآن والسنة، يمكن الاعتماد عليه لمحاولة التوسّع والبحث الدلالي والموضوعي ومعالجة قضايا العصر. ومن ثم فإن عنوانه: «مدوّنة القيم في القرآن والسنة» مطابق لموضوعِه تماماً، وإن كان محاولة أولية على طريق البحث في هذا المجال الذي هو من أهم مجالات الإعجاز القرآني والسنّي معاً. ومن المفيد أن نقف بعض الوقفات عند شيء من مضامين هذا الكتاب، ومن ذلك حديث المؤلف عن مقاصد القرآن في تثبيت القيم حيث أوجزها في مايلي: إعلان استخلاف الله للإنسان وتكريمه وتفضيله: (وإذ قال ربك للملائكةإنّي جاعل في الأرض خليفة) (البقرة:30) (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا) (الإسراء: 70). الإقرار بمبادئ التوحيد والعدل والحق والمساواة: (إن الحُكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلا إياه) (يوسف: 40). الدعوة إلى الإيمان المقرون بالعمل الصالح: (إن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات يهديهم ربّهم بإيمانهم) (يونس: 9). تثمين قيم العقل والعِلم والعمل: (قُل هل يستوي الذين يعْلمون والذين لا يعلمون) (الزمر: 9) (قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون) (الحديد: 17). نبذ كل أنواع الظلم والتعدّي والاستغلال (ولا تعتدوا. إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة: 190). تحفيز المسلمين على الألفة والاعتصام بحبل الله: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا) (آل عمران: 3). حثّ المسلمين على التوبة بعد الخطأ وعلى التسامي عن الحقد، بالعفو والصفح «وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ الله غفور رحيم» (التغابن: 14). - إقرار ضرورة التعارف بين الشعوب عن طريق التواصل والتعاون: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»(الحجرات 13) - التذكير بأحقية التدافع بين الناس في سبيل الخير، تشجيعا للتنافس في العمل الصالح واجتناباً للإثم والفساد: «ولولا دفاع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» [البقرة: 251]. - تشجيع الناس على الاعتماد على النفس ابتداء، للقيام بالتغيير نحو الأصلح، بدل التواكل دون تغيير: «إنّ الله لايغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم» [الرعد: 11] الأساليب والمؤشرات ويستخلص المؤلف أسلوب القرآن في عرض القيم وهو منوّع بين أسلوب المخاطبة المباشرة أو عن طريق الرسل، وأسلوب الإعلان والبيان لكثير من الحقائق والسنن، والأسلوب اللغوي والبلاغي الجذاب، والأسلوب التشريعي والوعظي. وعند حديثه عن المُصَدِّر الأعلى للقيم وواضعها: الله جل جلاله، ذكر صفات الكمال التي يتصف بها المولى، وهي الخلق، والإرادة، والمُلك، والعدل وتحريم الظلم، والحق، والقدرة، والبقاء، والرحمة والرأفة والحِلم. وحتى لاتكون للناس على الله حجة بلغهم سبحانه رسالته بوسائل متعددة أهمها: إبراز الصفات، وتوجيه خطابه جل وعلا بواسطة ملائكته ورسله وكتبه {حواراته، وحيه، آياته وتجلياته«، وخطابه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم (الأوامر والنواهي، التحذير واللوم، التوجيه والتحفيز، المساندة والإشادة). وأما أركان القيم في الإسلام فهي بين نقيضين: الإيمان والكفر، الحق والباطل، العدل والظلم، الخير والشر، الحسن والسوء، الصلاح والفساد، الطيبات والخبائث، الهدى والضلال، الظلمات والنور، فالطرف الأول تكون عاقبته النعيم، والطرف الثاني تكون عاقبته الجحيم. ثم تحدث عن موجبات القيم الذاتية والبيئية للإنسان، ومنها مايرتبط بذات الإنسان من عقل ووجدان وغرائز، ومنها مايكتسبه من محيطه في إطار التربية ومكوّنات الهوية التي ينتسب إليها. وقد تكون هذه القيم إيجابية أو سلبية حسب الاستعمال. قال المؤلف: «ومن شأن عدم التنسيق بين التربية المكتسبة في المؤسسة التعليمية وبواسطة الأسرة من جهة، ووسائل الإعلام والثقافة من جهة أخرى، أن تحدث بلبلة في طبيعة القيم المحمودة لدى النشء، أو أن تسهم في إضعاف بعض القيم الفطرية والذاتية، أو في تقوية قيم مذمومة تضر بالفرد والمجتمع» (ص 55). وأما مؤشرات القيم في القرآن الكريم، فيما صدر عن الحق سبحانه، فمنها ما يعتبر تنفيذا من الإنسان للتعاليم الإلهية، ومنها مايمكن اعتباره موجها من الله نحو الإنسان. وكذلك مؤشرات القيم في القرآن الكريم فيما يتصرف فيه الإنسان، فقد ذكر منها المؤلف: الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وكل مجهود يبذل بقصد المصلحة يعتبر ذا قيمة، وكل تصرف فيه محاسبة للنفس ومقاومة للغرائز يتضمن طاعة لله ويعد قيمة معنوية مرغوبا فيها شرعا، وكذلك كل تصرف كان فيه تسامح وعفو وكظم للغيظ أو تنازل عن الحق، وكل تصرف فيه احترام للبيئة الطبيعية. وفي بيان المؤلف لعوامل مصداقية القيم الفاضلة كما وردت في القرآن والسنة ذكر نماذج من جوامع الأخلاق والسلوك والمعاملة، ونماذج أخرى من المحظوظين بمحبة الله وبالجنة وحسن الجزاء. وحلّل ستة مقومات أساسية للدعوة القرآنية، وهي: - التنبيه إلى أهمية البيان، والإلحاح على أهمية السمع والبصر، والدعوة إلى استعمال العقل والدعوة إلى العلم، والدعوة إلى فقه السنن، مستعرضاً الأرضية السننية في التصور الإسلامي. كما تحدث عن الدستور القرآني للأخلاق والمعاملات وعن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لينكبّ - بعد ذلك - على دراسة مضامين الخطاب الإسلامي، من حيث البيانات عن الإنسان (طبيعة وتصرفات) والعوامل الضرورية لتمكينه من الخلافة عن الله، (العقل - العلم - العمل) والتأكيد على الربط بين الحياتين الدنيوية والأخروية. وجوهر هذا الخطاب التعليمات والتوجيهات القرآنية والحديثية، وفي هذا السياق يقول المؤلف: «أبى المولى تعالى إلا أن يأخذ بيد الإنسان في مسيرته الدنيوية، علما بأنه مسؤول عن أعماله، فإن اهتدى فلنفسه وإن أساء فعليها، ولكن الله رؤوف بعباده، أراد أن يبين لهم سبل الرشاد للفوز برضاه والنجاة من عذابه وجحيمه، فوجه إليهم تنبيهات وتحذيرات وتحفيزات مابين ترهيب وترغيب لعلهم يعقلون» (ص90). وذكر المؤلف النصوص القرآنية والحديثية الدالة على ذلك، محلّلا الخطاب للمؤمنين مركّزا على الأسلوب المطلوب في التوجه إلى الله، كما جاء في القرآن والسنة «الإيمان بالله وعبادته، القتال في سبيله، الإخبات إلى الله، الإنابة، التقوى، ابتغاء مرضاته، استغفاره، الاعتصام، التقرب إليه، دعوته، ذكر الله، شكره وحمده، ابتغاء فضله، حسن الظن بالله، القنوت له، التسبيح له، الوفاء بعهده، التوكل عليه» ثم اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتعامل المؤمنين مع بعضهم (المصابرة، التواصي بالصبر والمرحمة، التشاور، عدم التفرق والتنازع، التعاون)، وبين المؤمنين وغيرهم. وأسلوب التعامل مع بعض الفئات الخاصة (الوالدان، أولو الأرحام، الأيتام، المساكين). المرجعية الواحدة وأكد المؤلف أنّ المرجعية الإسلامية في الأخلاق والشريعة مرجعية واحدة، سواء تعلق الأمر بالتشريع أو بالأخلاق ومن تم لايمكن إلا أن يكون انسجام وتكامل بينهما، مادام المشرّع واحداً هو الحق سبحانه، وهو نفسه الذي خلق الإنسان ويعلم حدود طاقته وكوامن مصالحه، فهو به رؤوف رحيم، لايكلفه إلا بما يطيق» (ص 104). وقسم الخصال الحميدة إلى أخلاق التسامي عن النقمة والحقد، ومنها العفو والصفح والغفران والإيثار، وأخلاق روحية تعبدية، ومنها الإيمان والاهتداء والتقوى والتسبيح والتزكية، وخصال ذاتية وصفية، كالسخاء والصبر والصدق والصلاح والشجاعة، وتصرفات وعي وإدراك منها العلم والعقل والتدبر والفهم؛ وتصرفات حركة وحكمة ومنها السعي، والعزم، والتوبة. ومعاملات محمودة ومنها العدل، والوقاية، والرحمة، والنفع. واستعرض بعض ما جاء في القرآن عن هذه الخصال والتصرفات مقتصرا على نماذج وأمثلة، نظرا لصعوبة الإحاطة بكل ما جاء في الذكر الحكيم بخصوصها. ثم تعرّض إلى الجوانب المتعددة للخصال الممقوتة، كما أشار إليها القرآن الكريم، بدءا بما يتصل بالعلاقات مع الخالق تعالى، والتصرفات المنكرة في نفسها والتي ينبذها الشرع والفطرة والمجتمع، لينتقل إلى الحديث عن بعض الشيم الشخصية المذمومة في الكتاب، ثم عن السلوكات السيّئة نحو الغير، وعواقب الإساءة والتصرف المنبوذ بصفة عامة. والتي جمعها في ما أطلق عليه القرآن الحكيم «المنكر» ونهى عنه، في مقابل «المعروف» الذي أمر به وختم محور الخصال المذمومة بذكر بعض قيم التعامل المتبادل بين البشر، طبقا لما ورد ذكره في الكتاب. ومن أهم ما يزخر به هذا البحث الفهرس للآيات القرآنية المتضمن لعدة محاور: من عطاء الله تعالى ووعده - من وعيده، جل وعلا - السلوك المرغوب فيه تجاه الحق سبحانه - السلوك المطلوب اجتنابه مع الله - الخصال الذاتية والسلوكات المحمودة - الخصال الذاتية والسلوكات الممقوتة - الخصال الحميدة في المعاملة مع الغير - الخصال الممقوتة في المعاملة مع الغير). وكذلك فهرس الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية في ما ينبغي اتباعه وما ينبغي اجتنابه (في مجال الأخلاق)، والمؤهلات والمسؤوليات، وبعض الفئات الخاصة. ويختم الأستاذ محمد بلبشير الحسني بحثه الذي تضمن قيمنا الإسلامية في صورتها العامة والشاملة، النابعة من شريعة وضعت للإنسان خارطة الطريق لتضمن له الخلاص في الدنيا والنجاة في الآخرة، بالتذكير بمرتكزات هذه القيم، ثم قال: «وحسبي أن أختم كلامي بشهادتين: فقد ورد على لسان جمال الدين الأفغاني ما نصه: «هو (الدين) نفحة من روح الرحمة الأزلية، تهبّ على القلوب ببرد الهدوء والمسالمة، فإن المسالمة ثمرة العدل، والمحبة زهر الأخلاق والسجايا، وهي غراس تلك العقيدة التي تحيد بصاحبها عن مضارب الشرور». (ص156)