مفهوم الحرية مفهوم قلق من وجهين كبيرين:الأول: هو نظرتنا للحرية، فالحرية من جهة هي قيمة جزئية تتقاسم تنظيم الحياة العملية مع قيم أخرى كالعدل والرحمة والمساواة... إلخ. والحرية من جهة أخرى هي قيمة كلية تستغرق الكيان كله وتؤسس لإنسانية الإنسان، فلا يكون الإنسان إنسانا إلا بالحرية، ولو كانت هدايته إكراهية أو آلية كسائر الكائنات الأخرى، لما كان إنسانا!. والثاني: هو معنى الحرية كما نتصوره، فالحرية هي المشيئة والاختيار، أو بتعبير آخر: هي قدرة الإنسان على تعليل أفعاله، ووجه القلق هنا هو أنه بالمشيئة والاختيار وحدهما يمكن للإنسان أن يذهب في كل اتجاه، وأن يأتي بأسوأ الأعمال وأرذلها، سواء كان فردا أو جماعات، أو أمما وشعوبا، وهذا يعني أن معنى المشيئة والاختيار قاصر وحده عن استيفاء دلالة الحرية، وهذا هو ما اتفق عليه أغلب فلاسفة الغرب الذين تناولوا مشكلة الحرية. فلماذا لم ترد لفظة الحرية صريحة في القرآن الكريم؟ لم يأت القرآن الكريم ليحدد مفاهيم فلسفية مجردة، ولكنه منحنا الينابيع الدلالية التي تتشكل المفاهيم وتتحرك وتتطور وفقا لها، ولهذا لم ترد الحرية في القرآن الكريم كمصطلح، لكن كل المعاني التي تدخل في نسج الحرية وتجيب على احتياجاتنا التاريخية موجودة في القرآن الكريم وأكثر منها بكثير. وقد رجعت إلى القرآن الكريم باحثا عن الأصل الاعتقادي لمفهوم الحرية الذي يتفرع منه ما سواه، فوجدت آيتين لا يلتفت إليهما عادة، كآيات مؤسسة لدلالة الحرية، وهاتان الآيتان اللتان تستغرقان مفهوم الحرية، وتنسجان دلالته الكلية التي يتفرع منها ما سواها، وهما: الآية الأولى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (هود:7).الذي يهمنا هنا هو دلالة الابتلاء ومعناه. الآية الثانية: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2). ولننظر في التركيب الدلالي للآيتين، فنحن نعرف ابتداء أن الابتلاء: هو الدلالة العميقة لمفهوم الحرية، فلا معنى للابتلاء إلا بالنسبة لكائن حر، أما الكائن الذي لا يمتلك حرية ومشيئة أصلية وتأسيسية فلا يمكن أن يكون مبتلى، والابتلاء: هو المفهوم القرآني الذي يؤسس لمعنى كبير ولدلالة رئيسية من دلالات الحرية. ولنا أن نسأل ونحن نقرأ الآية الأولى: ما دخل خلق السموات والأرض في مفهوم الحرية وفي دلالة الابتلاء؟ نحن نعرف أن الكون كله مسخر للإنسان وهذا لغاية.. وأن هذا التسخير لا يأتي بأفضل نتائجه إلا حينما يوجه إلى تحقيق غايات وجود الإنسان الكبرى على وجه الأرض وهي خكما نعرفخ غايات الاستخلاف، غير أن تسخير الكون يمكن أن يستثمر في غير الغايات التي من أجلها صمم، وحينها يأتي هذا التسخير بِشَر ما فيه. ولذلك هذه الإمكانية المزدوجة للاستخدام الوظيفي لمعنى التسخير في وجهات وجودية متعارضة ومختلفة.. هذا معنى من معاني كون الابتلاء مودعا في نظام الكون نفسه، وهذه الإمكانية المتعددة من الناحية الغائية، بل المتعارضة للتسخير هي معنى من معاني كون الابتلاء مؤسسا لنظام الوجود برمته. ثم يكمل تبارك وتعالى فيقول (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، وهنا لا يرد الابتلاء كما يرد في آيات أخرى كثيرة بما هو ابتلاء الحسنات والسيئات، وإنما الابتلاء هنا كدلالة كلية للحرية الإنسانية. فالابتلاء موجه نحو أحسن العمل بمعنى أن الحرية الأصلية التي منحها الإنسان (المشيئة والاختيار) موجهة نحو إنتاج أحسن العمل، وعليه فإن الحرية الإنسانية تخرج أفضل ما فيها حين تكون موجهة نحو أحسن العمل. إن الإنسان استخلف في الأرض، لكنه لم يمنح مفاتيح الاستخلاف دفعة واحدة، فالاستخلاف فعل مفتوح، والتسخير أيضا هو فعل غائي مفتوح، والله سبحانه وتعالى منح الإنسان القدرة على التشبه ببعض أوصافه، وهذا التشبه هو مسار حركي مفتوح لا حد له... إلخ، ولو كان اختيار الأفضل أمر واضح وصريح لما كان هناك قلق عملي ومعرفي في تاريخ الإنسان كله. وأفضل العمل هنا يكمن في احتوائه أولا: على دلالة مستقبلية إمكانية، فحين نقول أفضل العمل فإننا نقول أفضل الممكن والاحتمال، بمعنى أنك أمام احتمالات تاريخية متعددة، وأمام ممكنات زمنية متنوعة، وعليك اختيار أفضلها، وعليه فإن المفهوم يحيل ابتداء إلى الخاصية الاحتمالية الإمكانية لفعل الإنسان. ثانيا: أحسن العمل يستدعي برمته إشكالية للرؤية والإبصار وللمعرفة وللمنهج، فهو كما قلت ليس من قبيل المعطى، ومن هنا جاءت حاجته الدائمة للتأهيل المعرفي والعلمي الحقيقي. ومعنى هذا أن الدلالة الأولى التأسيسية للقرآن الكريم (دلالة انفتاح الكينونة)، ودلالة الخاصية الإمكانية الانفتاحية الحركية لمعنى إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بمفهوم أحسن العمل بما هو حركة من الأساسي إلى التاريخي، ومن المجرد إلى الملموس. ولهذا لا حرية بدون علم، فلا يمكن أبدا أن نتحدث عن الحرية دون الحديث عن الرافعة العلمية والمعرفية، والتأهيل العلمي والمعرفي والفكري العميق كشرط لرفع مستوى ممارسة المشيئة والاختيار وكشرط لتحصيل أحسن العمل نعود للآية الثانية ودلالاتها. الآية الثانية تقول: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا...) الآية. وهنا ربط لمفهوم الحرية بدلالات الموت والحياة ونلحظ أن الآية ذكرت الموت سابقا عن الحياة؛ وذلك لأن الحياة الدنيا في القرآن الكريم ذات منزلة محددة وواضحة فهي مجرد مطية إلى الآخرة. ومن المثير أنك لو تصفحت القرآن الكريم من أوله إلى آخره فلن تجد آية واحدة تمدح الحياة الدنيا! في حين أنك تجد الآيات التي تمدح الأعمال الصالحة والمنافع والمصالح في الحياة الدنيا كثيرة!. وذلك لأن الدنيا كمفهوم كلي لا تصلح لأن تتخذ كغاية نهائية، أما الموت فهو الذي يحيط بأمل الإنسان وتطلعاته فردا وجماعات وأمما وشعوبا من كل جانب