بدلت ثورة التكنولوجيا الطريقة التي يتلقى فيها الجمهور الأخبار والمعلومات ويتفاعل معها، حيث استطاعت التكنولوجيا الرقمية من خلال وسائل عديدة، أن تؤثر في ممارسة الصحافة بدءا بطريقة جمع المعلومات وتقديم الأخبار، مروراً بملائمة المؤسسات الإعلامية لبنياتها الإعلامية، وصولا إلى سرعة تطور التقنيات الإعلامية، على نحو جعلها تخترق النسيج الاجتماعي بأشكال متنوعة . وأضحى المتلقي يدلي بدلوه، ويشارك في دينامية صنع المعلومات، ونشرها، واستهلاكها. وأضحت الصحافة الرقمية أو صحافة الويب هي الوجه الجديد لمهنة الصحافة، وهي محصلة التزاوج بين الاعلام والثورة التكنولوجية. فمفهوم صحافة الويب مرتبط بالوسائط الجديدة للاتصال، وتعتمد جل نشاطات إنتاج المحتوى الاعلامي فيها على تطبيقاته المختلفة والمتعددة. ومن بين المنصات التي أضحت أحد أهم مصادر المعلومات للصحفيين على الشبكة، مواقع التواصل الاجتماعي. يكاد لا يخلو أي عمل صحفي من البحث المعمق في وسائل التواصل الاجتماعي، سواء كان تقصيا عن المزيد من المعلومات عن شخصية ما، أم تبع لخبر عاجل، فوسائل التواصل الاجتماعي تعد إحدى أفضل السبل لمعرفة الكثير عن تفاصيل الأحداث. لقد بدأ الباحثون بتسمية الصحافيين «مراقبي البوابات»، و«ملاحظي» المعلومات، وأصبحت وظيفة مدير مواقع التواصل الاجتماعي تتحول لاحقًا عند الكثير من المؤسسات إلى وظيفة صحفية يقوم بها صحفيون يتوفرون على تكوين في هذا المجال. لكن بالمقابل تكون أحيانا هذه المنصات نافذة على أفكار ذات طبيعة خطيرة كالأيديولوجيات المتطرفة أو هويات خفية تخلق محتوى مزيف و مضر أحيانا يخلق بيئة خصبة للأخبار الكاذبة، التي لا تحترم قواعد العمل الصحفي ولا أخلاقياته. كما أن الكثير من المعلومات المتداولة- سواء على شكل صور ،ملفات صوتية أو مرئية أو نصوص مكتوبة – متداولة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لكن مصادر هذه المعلومات هم غالبا أفراد ليس لهم تكوين مهني وأن معلوماتهم لم تخضع للتدقيق الصحفي و ليس لديهم أي التزام بتقديم معلومات جيدة. لكن هناك عامل أخر لا يتعلق فقط بالمؤسسة الإعلامية أو بقرائها، إنها الإعلانات التي هي أحد أهم مصادر الدخل الأساسية للصحافة الرقمية، إن انتقال المعلنين من الصحافة الرقمية إلى منصات التواصل لان الإنترنت يتيح لهم إمكانيات لترويج علاماتهم التجارية بأسعار تنافسية أقل بكثير مما تطلبه الصحافة الرقمية( إعلانات غوغل و فيسبوك و يوتيوب)، دفع مؤسسات الصحافة الرقمية إلى ضرورة نشر محتوى رقمي يستهلك بشكل كامل خارجها، أي على مواقع التواصل التابعة لها أو عبر ترويج الروابط في صفحات وحسابات تحمل اسم المؤسسات المذكورة على المواقع الاجتماعية. إن ارتهان الصحافة الرقمية ومعها وسائل الاعلام الاخرى لمواقع التواصل الاجتماعي عبر البوابة الاقتصادية أو عبر القاعدة الجماهرية المتزايدة، يطرح تساؤلات حول مستقبل مهنة الصحافة ككل. فهل الصحافة الرقمية قادرة على الخروج من شرك الشبكات الاجتماعية؟ علاقة شد وجذب أضحت وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة جدا للصحافة الرقمية خاصة في التعامل مع الأخبار اللحظة الأخيرة (الأخبار العاجلة ) حيث تسمح بمواكبة أحدث المعلومات، خاصة عندما ينشر الأشخاص في المواقع الأحداث الجارية في الوقت الفعلي. الكثير من الأخبار التي يقرؤها أو يشاهدها المتلقي على الإنترنت يصادفها في مواقع التواصل الاجتماعي، ففي استطلاع لمركز "بيو" للأبحاث عام 2018، تبين أن 68% من الأميركيين ما فوق 18 عاما، يحصلون على الأخبار عن طريق مواقع التواصل، شكل فيسبوك النسبة الأكبر منها ب43%، وبعده يوتيوب بنسبة 21%، ثم تويتر بنسبة 12% (Shearer Elisa، 2018) . لكن وسائل التواصل الاجتماعي لا تتعلق فقط بتمكين هذا النوع الصحفي الجديد من التفاعل بل يمكن للصحفيين أيضا التواصل والتحقيق بشكل مختلف، تسمح وسائل التواصل الاجتماعي للصحفي بالتقصي حول الموضوع الذي يختاره من مجموعة متنوعة من المصادر التي يعتبرها جديرة بالثقة، وبالتالي يمكنه متابعة آخر الأخبار حول موضوعه والتحقق بانتظام مما إذا كان هناك أي شيء جديد. تعمل وسائل التواصل الاجتماعي أيضا على جعل عملية جمع المعلومات والآراء من مجموعة من الأصدقاء أو المعارف أو المتابعين المتصلين أمرا سريعا وسهلا. هذه الممارسة تسمى التعهيد الجماعي crowdsourcing. كما تساعد وسائل التواصل الاجتماعي الصحفيين على نشر أعمالهم خارج وسائل الإعلام التقليدية، أو للعثور على أفكار للقصص الرقمي . اعتماد الصحافة على مواقع التواصل الاجتماعي، انتقل من مجرد الاستفادة منها لجلب الزوار ، إلى ضرورة نشر محتوى رقمي يستهلك بشكل كامل خارجها، أي على مواقع التواصل. وذلك عبر ترويج الروابط في صفحات وحسابات تحمل اسم المؤسسات الصحفية المذكورة على المواقع الاجتماعية. فقد أصبحت وسيلة فعالة لجلب العديد من المتتبعين. في دراسة لمعهد Cision و جامعة Canterbury Christ Church عام 2017 شارك فيها 1857 صحفيا من 6 دول مختلفة و عرضت الاتجاهات الرئيسية التالية في علاقة الصحافة بوسائل التواصل الاجتماعي. – أصبح استخدام الشبكات الاجتماعية واسع الانتشار داخل الصحافة بمعدل 96٪. – الترويج للمقالات والمراقبة والتفاعل مع القراء هي الاستخدامات الرئيسية الثلاثة التي يتقاسمها الصحفيون في المقام الأول. – السرعة على حساب التحليل هي دائمًا الحجة النقدية التي يستشهد بها الصحفيون. – في الغالب (متوسط 51٪) ، تعتبر الشبكات الاجتماعية كمقياس لأدائها. – بالنسبة لنصف الذين شملهم الاستطلاع، تعتبر الأخبار المزيفة مشكلة خطيرة للأخبار السياسية والعامة. – الصحفيون أقل اعتمادا على المسؤولين الصحفيين بسبب استخدامهم على الشبكات الاجتماعية. (CISION, 2017) الشكل 1 : نسبة استعمال الصحفيين لمواقع التواصل في عملهم المصدر : Groupe CISION . 2017. ETUDE MONDE – JOURNALISTES ET RESEAUX SOCIAUX : LES GRANDES TENDANCES. مخاطر الارتهان المتزايد تبني جل المؤسسات الإعلامية الرقمية نموذجها الاقتصادي على الإعلانات كأحد مصادر الدخل الأساسية، وكذلك الشراكات وأحيانا تمويلات منظمات غير حكومية أو اشتراكات القراء، أو حتى التمويل الحكومي. هذه الإعلانات كانت تتلاءم مع مواقع الصحافة الرقمية، لكن مع انتقال المحتوى إلى صفحات مواقع الشبكات الاجتماعية، أضحى التحدي هو كيفية نقل الإعلانات إلى هذه المنصات. انتقال المعلنين من الصحافة الرقمية الى مواقع التواصل راجع للقاعدة الجماهيرية المتزايدة لهذه الاخيرة والتي تفوق بكثير نسبة متابعي الصحافة الرقمية، والأهم أن هذه المنصات تتيح لهم إمكانيات ترويج علاماتهم التجارية بأسعار تنافسية أقل بكثير مما تطلبه الصحافة الرقمية. والبداية كانت بإعلانات غوغل التي أتاحت للمعلنين ترويج روابطهم بأسعار تنافسية، لدرجة أن الكثير من الصحف الرقمية لم تجد بدا من السماح لإعلانات شركات محلية بالظهور عندها، لكن على شكل إعلانات غوغل، مما قلل كثيرا من الأرباح التي كان يمكن لهذه الصحف أن تحققها إن هي تعاملت مع المعلنين مباشرة دون المرور عبر غوغل. ثم جاء فيسبوك الذي لم يتح للشركات ترويج علاماتها التجارية في الإعلانات الجانبية فحسب، بل مكنها من خلق صفحات، ودفع مقابل مادي بسيط للغاية (مقارنة بما كانت تدفعه في الإعلانات التقليدية) لترويج منتجاتها، وغالبا ما تكون المنشورات على شكل فيديوهات أو صور، بما يرفع حجم التفاعل إلى أبعد مدى. كما ان يوتيوب قد قطع أشواطًا كبيرة فيما يعرف باسم "Monetisation"، أي تمكين صانع المحتوى من تحقيق عائد مالي عبر الإعلانات. إن هجرة المعلنين و معهم صحافة الويب نحو مواقع التواصل الاجتماعي، أفرز عدة ظواهر سلبية أهمها تزايد عدد المستخدمين ذوي الدوافع الخبيثة الذين ينشرون المعلومات المغلوطة والمضللة أو ما يعرف بالمحتوى المزيف . و توضح في هذا الصدد (كلير واردل 2020 ) الفرق بين المعلومات المغلوطة Misinformation والمعلومات المضللة Disinformation والمعلومات الخبيثة Malinformation . المعلومات المغلوطة والمضللة والخبيثة أمثلة على المحتوى المزيف، لكن الفرق هو أن: المعلومات المضللة تكون من صنيعة وترويج جهات تهدف إلى خلق الضرر، سواء كان ماليًا أم سياسيًا أم ماديًا أم يتعلق بسمعة شخص أو جماعة ما. أما المعلومات المغلوطة، فهي معلومات ليست صحيحة، ولكن الناس الذين ينشرونها لا يدركون ذلك. وهذا ما يحدث عادة في لحظات الأخبار العاجلة، حين يبدأ الناس بمشاركة شائعات أو صور قديمة دون أن يدركوا أنها ليست مرتبطة بالأحداث الجارية. أما المعلومات الخبيثة فهي معلومات صحيحة، لكن الجهات التي تبدأ بنشرها تهدف إلى التسبب بالضرر. فتسريب رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بهياري كلينتون خال الحملة الانتخابية الأمريكية عام 2016 هو مثال على ذلك، ويدخل في ذلك أيضًا مشاركة صور أو مقاطع فيديو إباحية على سبيل الانتقام. (كلير، 2020) و الخطر الأكبر الذي يتهدد صحافة الويب هو فقدان ثقة الجمهور، فحسب "تقرير رويترز للأخبار الرقمية 2019″، فقد انحدر مؤشر الثقة إلى 42%، بناقص درجتين عن مؤشر 2018، ولا تبلغ الثقة في الأخبار المنتشرة عبر مواقع التواصل سوى 23%، ب10 درجات أقل عن الأخبار التي يجدها المتلقي عبر البحث. (Newman Nic, 2019) مع اتساع عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عبر العالم حيث يقدر عددهم اليوم 3.8 مليار شخص، أي أن حوالى 60% من سكان العالم يستخدمون الإنترنت للحصول على المعلومات. وتبقى الآراء منقسمة حول مستقبل الصحافة، فهناك من يرى أن مستقبلها سوف ينحصر على صحافة مواقع التواصل وستعوض هده الأخيرة الصحافة الرقمية، وليس هذا فحسب ولكن سوف تتربع مواقع التواصل على قائمة وسائل الإعلام وسوف تتفوق على التلفزيون وكذلك على الإذاعة المسموعة. في حين يرى اخرون أنه بالرغم من أن مواقع التواصل أصبح لها أهمية وانتشار كبير على الساحة الإعلامية، ولكن تبقى مهنة الصحافة هي الأساس والمرجع الأول، و أن مواقع التواصل هي أدوات مساعدة للصحافة الرقمية، ولكن من المستحيل أن تحل مكانها، لما تتميز به الممارسة الصحفية من قيمة تتمثل في المصداقية والمهنية . الإعلام هو خدمة عمومية ضرورية في البناء الديمقراطي وفي استمراره، فرغم التحولات التكنولوجية السريعة التي أثرت بشكل كبير على الممارسة الصحفية، وجعلتها رهينة لتحولات اقتصادية و سلوكية، إلا أن الثابت هو أن مهنية الممارسة الإعلامية ومصداقيتها والتزامها بأخلاقيات المهنة، هي الخصائص التي تعطي لمهنة الصحافة هوتها التي لن تتغير مع مرور الزمن. لقد حولت فوضى الممارسات الإعلامية، وخاصة على منصات التواصل، الصحافة الرقمية إلى حقل للاستنساخ غير المشروع، كما صاحب حالة الفوضى هذه بروز ممارسات سلبية مثل الابتزاز والتشهير من أجل الكسب والتربح وفقد هذا الصنف من الإعلام مصداقيته واستقلاليته ونزاهته. يضاف إلى ذلك التزايد المستمر للمعلومات الكاذبة و المغلوطة والخبيثة على الشبكة. إن بناء علاقة جديدة بين الشبكات الاجتماعية والصحافة الرقمية، أساسها التوازن، بدل الارتهان أو التبعية أصبح مطلبا ملحا، فكل طرف يحتاج إلى الآخر، لتبقى المعادلة متوازنة. بدوت صحافة مهنية ستسقط المواقع الاجتماعية أكثر في فخ الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، وفي الجانب الآخر، ستفقد الصحافة منصات جماهيرية مهمة للغاية. ووعيا منها بالتهديدات التي تمس جوهر العمل الصحفي عموما، فقد دعت الاممالمتحدة بمناسبة اليوم العالمي للصحافة، باتخاذ الخطوات الكفيلة لضمان استمرارية وسائل الإعلام من الناحية الاقتصادية، عبر وضع الآليات الكفيلة لضمان شفافية الممارسات المالية (الاعلانات والاشهار) على الإنترنت، وكذا تعزيز قدرات الدراية الإعلامية والمعلوماتية التي تمكن الناس من الإقرار بالصحافة وتثمينها والدفاع عنها والمطالبة بها كجزء حيوي من المعلومات كمنفعة عامة.
المراجع: كلير, و. (2020). .دليل التحقق من عمليات التضليل والتلاعب الإعلامي. عصر فوضى المعلومات. . الدوحة: معهد الجزيرة للإعلام. Amandine Degand, B. G. (2012). Journalisme en ligne, 1éd, Edition , , 2012, p 13- 14. Bruxelles: De Boek. CISION, G. (2017). JOURNALISTES ET RESEAUX SOCIAUX : LES GRANDES TENDANCES. Consulté le 04 8, 2021, sur ETUDE MONDE : https://www.cision.fr/ressources/livres-blancs/etude-monde-journalistes-et-reseaux-sociaux-les-grandes-tendances-2018-gate Diallo, N. P. (2015). Le journalisme à l'épreuve des dispositifs socionumériques d'information et de communication. Revue française des sciences de l'information et de la communication n° 6, 13-26. Jean-blaise, H. (2011). Introduction au journalisme. Fribourg: Université de Fribourg. Newman Nic, F. R. (2019). Reuters Institute Digital News Report 2019, , . Consulté le 4 20, 2012, sur Reuters Institute for the Study of Journalism, University of Oxford.: https://reutersinstitute.politics.ox.ac.uk/sites/default/f Shearer Elisa, M. K. (2018, 09 10). News Use Across Social Media Platforms . Consulté le 03 05, 2012, sur Pew Research Center : https://www.journalism.org/2018/09/10/news-use-across-social-media-platforms-2018/ Wasserman, S. &. (1994). Social Network Analysis: Methods and Applications. Cambridge: Cambridge University Press.