إن أصل كل تقدم حضاري وازدهار مجتمعي مرده بالأساس إلى وجود فكر متطور ومتجدد ، فكر يُعدَ بمثابة البنية التحتية والمنطلق الأول لصناعة التنمية والتطور الحضاري، يُجيب عن كل إشكالات و إكراهات التنمية ، والفكر يُعتبر المؤشر الأول لقياس درجات الريادة الحضارية، ويمكن تعريفه على أنه خلاصات لعمليات التفكير المتوالية والمتواصلة في موضوعات عدة لمجال محدد انتهت بإنتاج مجموعة من الأفكار يُعبر عنها بالفكر، أي أنه إعمال للعقل في أمر ما للوصول إلى شئ جديد فيه، ويختلف طبيعة من حقل إلى حقل وذلك حسب المجال الذي يشتغل عليه، فهناك الفكر الفلسفي، الفكر السياسي ، الفكر الاقتصادي...والفكر الرياضي، وهو موضوع نص المقال، وبناء على التعريف السالف الذكر هل هناك أفكار أنتجها وأبدعها العقل العربي الرياضي؟ أم أنه مجرد مُستهلك ومُقلد لما يُنتجه العقل الغربي الرياضي؟. الرياضة لم تعد من هوامش الاهتمامات لدى المجتمعات بل أصبحت رهان ثقافي واقتصادي ، أصبحت موضع تنافس بين الأمم وذلك لما لها من عائدات اقتصادية وثقافية، ولقياس ما مدى تقدم أو تأخر الرياضة في المجتمعات المعاصرة يُستند في الغالب على مجموعة من العوامل العلمية على رأسها: وجود بنية تحتية متطورة، استثمار رياضي تنافسي، صحافة رياضية محترفة، تكوين مستمر ومتجدد للمدربين، موارد بشرية من الموهوبين الرياضيين...، إلا أنه في الغالب لا يُشار إلى مؤشر من أهم مؤشرات قياس درجة التقدم الرياضي، وهو الأصل الأساسي للانتقال من أزمة التخلف الرياضي إلى قمة الريادة الرياضية ، وهو الفكر الرياضي ، الأساس الأول للإقلاع الرياضي ، يستحيل أن توجد هناك نهضة رياضية بدون فكر رياضي نهضوي يحمل رؤى وتصورات ومشاريع الإقلاع الرياضي، كل هذا يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية: هل هناك في البلاد العربية مفكرين رياضيين؟ هل المدرب الرياضي يُعد مفكرا رياضيا؟ هل الأستاذ الجامعي المتخصص في المجال الرياضي يمكن اعتباره مفكرا؟ هل الرياضي صاحب التاريخ المليء بالألقاب والانجازات يُعد مفكرا؟ هل مسيري الأندية مفكرين؟ كل هذه الأسئلة وغيرها ستُفضي بنا إلى التساؤل عن ما هي مواصفات المُفكر الرياضي؟ وفي مقالنا هذا إذ سنركز الحديث على المدرب باعتباره المُتصدر الأول للمشهد الرياضي، وقبل الإجابة عن الإشكال الأخير، لابد من وقفة تأمل في الواقع الفكري للمدربين العرب ، والذي بالضرورة سينتهي بنا إلى الوقائع التالية: -غياب توثيق وتدوين التجارب الميدانية، فالمدرب لا يوثق ما راكمه من خبرة وتجربة. -ضعف وفقر في التأليف الرياضي، فالكتب المؤلفة من قبل المدربين لا تتجاوز العشرات. -غياب ثقافة كتابة المذكرات المُدونة لتجارب وخبرات الرياضيين أصحاب المسارات المُضيئة في التاريخ الرياضي العربي ، فتاريخ هؤلاء الأبطال يُختزل فقط في عدد الجوائز والألقاب دون استحضار الشروط الموضوعية الصانعة لهم كأبطال. -البحث العلمي الرياضي خارج اهتمامات وانشغالات الوزارة الوصية على الرياضة والأندية. -غياب سياسة ومشاريع صناعة المفكرين الرياضيين. -برامج تكوين المدربين لا تتجاوز سقف الفلسفة القائمة على منطق الربح والخسارة ، الفوز والانتصار، وليس منطق صناعة البطل المُنجز والمُبدع. -المدرب العربي لا يعرف طريقا إلى مختبرات البحث العلمي الرياضي. كل هذه الوقائع ستفضي بنا إلى نتيجة حتمية مفادها أن المدرب العربي "مع وجود الاستثناء" لا يقرأ، لا يدون مذكراته، ليس له مشاركات في المختبرات العلمية، فالمدرب عندما يسلك الطريق الخطأ سيصنع البطل الخطأ، وما أكثرهم في واقعنا الرياضي ، فأبطالنا ما إن يضعوا أقدامهم في المنافسات والمحافل الدولية حتى يتبين أنهم أشباه أبطال وليسوا أبطال، الإقلاع الرياضي يستدعي فكر رياضي متنور ومتجدد وهذا لا يتأتى إلا بوجود مشاريع لصناعة المفكرين الرياضيين، مفكرين يُبدعون في الحلول والتصورات والمشاريع للخروج من أزمة الكساد والركود الرياضي. فالمفكر الرياضي له مواصفات عدة يمكن استخلاص بعضها في الشروط التالية: -الشروط العلمية: بالإضافة إلى العلوم التقنية والفنية كعلم الإعداد البدني والتقني والتكتيكي، وهي علوم أساسية لكنها لا تكفي لصناعة المدرب المفكر، إذ يتطلب من هذا الأخير أن ينفتح على علوم استُجدت في عالم الرياضة كعلم الاجتماع الرياضي، علم الأخلاق الرياضي، علم المرافقة الرياضية، علم إبستمولوجيا الرياضة، علم النانو تكنولوجي الرياضي، علم الادارة الرياضية... -الشروط الميدانية: وجود مسار حافل بالتجارب والخبرات مع مختلف الفئات والفرق مع ضرورة التدوين والتوثيق. -الانفتاح على علم التأليف والكتابة من نصوص ومقالات . -المشاركة في مختبرات البحث العلمي الرياضي. كل هذه الشروط إذا ما توفرت واجتمعت ستصنع من المدرب مفكرا مبدعا، مدربا صاحب مشاركات وحلول لإشكالات و إكراهات التنمية الرياضية، وبذلك سيؤسس لقطيعة إبستمولوجيا مع المدرب الكلاسيكي المستهلك للفكر الرياضي الغربي ، وسيتجاوز منطق التبعية للنموذج الأوربي ، فكل الحلول المستوردة لأزماتنا الرياضية هي حلول ترقيعية وغير مناسبة لواقعنا لأنها حلول أُنتجت في ظروف غير ظروفنا ، وفي واقع غير واقعنا ، وعوض تجاوز المشكل تقع التبعية والاستمرارية كسوق استهلاكية لما يُنتجه الغرب من فكر وتكنولوجيا رياضية، فالعقل العربي الرياضي هو بحاجة إلى مراجعة ونقد بناء، وإلى إرادة سياسية تضع من ضمن أولوية برامجها مشاريع لصناعة نخبة من المفكرين الرياضيين، فالمفكر الرياضي هو القادر على خوض تحديات وإكراهات التنمية الرياضية وهو صانع وصفة التغيير والانتقال من الانحطاط الرياضي إلى الريادة الرياضية. أستاذ باحث