فرضت سياقات الجائحة جمودا قسريا في العديد من الأنشطة الاقتصادية ؛حيث يواجه العالم أسوأ تباطؤ اقتصادي،ويتوقع الخبراء أن يعاني الكثيرون من الفقر ،وتضيق السبل أمامهم للوصول إلى الخدمات الأساسية.ومع تفاقم هذه الأزمة الخانقة تصاعدت وتيرة بعض الظواهر السلبية ،منها ظاهرة التسول ؛حيث تحول التزايد المستمر في عدد المتسولين إلى آفة اجتماعية تقض مضجع العالم،ومرشحة للتصاعد خلال الفترة القادمة بسبب كورونا.فما هي أسباب هذه الظاهرة ؟وما المستجد في أشكالها ؟.وكيف تصدى القانون لها ؟ التسول التقليدي تحول التزايد المستمر في عدد المتسولين إلى مشكلة اجتماعية خطيرة ،تعاني منها المجتمعات العربية ،وكذلك المجتمعات الغربية ؛وصورته التقليدية معروفة ؛ فتجد المتسولين في الأسواق ،وعلى أبواب المساجد ،والكنائس ،والحدائق ،أو متسولين يدعون العاهات ،والإصابات ،أو المرض ،أو التسول بموهبة (العزف ،الغناء…).وهذه الآفة تسيء للشكل الحضاري للمجتمع،وتوقف العمل والإنتاج ؛لأن كثيرا من القادرين على العمل لايعملون ،ولاينتجون يبخسون كرامتهم،ويستجدون عطف الناس مستغلين طيبتهم ،وسذاجتهم.وأسباب الظاهرة كما يعتقد كثير من الباحثين متعددة منها : الحرمان من الحقوق الاقتصادية ،والاجتماعية ،عدم التوزيع العادل للثروة في المجتمع ، عدم تخاذ أي حلول من طرف المسؤولين ،الهدر المدرسي ،الكسل والاتكالية ، ،وجود من يعطي الصدقة ،كما قال الباحث المرحوم المهدي المنجرة (…ينتشر التسول عندما يوجد من يعطي الصدقة ).كما أن التغييرات التي شهدتها المجتمعات العصرية تركت آثارا كبيرة على منظومة القيم الاجتماعية ،ومكانة العمل لدى الإنسان العربي ،كما ساهمت في نشر عقلية الربح السريع ،والسهل ؛فخلقت أشخاصا كسالى اتكاليين يسعون إلى كسب المال دون بذل أي جهد. فما هو مستوى الظاهرة بالمغرب ،؟وماهو موقف المشرع منها ؟ برنامج الأممالمتحدة الإنمائي قدم إحصائيات رسمية تتعلق بالتسول ؛فجاء المغرب في صدارة الدول العربية التي تعاني من ظاهرة التسول ؛حيث وصل العدد إلى حوالي 195 ألف متسول سنة 2019،متبوعا بمصر 41 ألف متسول، والجزائر في المرتبة الثالثة بمجموع 11 ألف متسول(نفس الرقم المهول على الصعيد الوطني موجود أيضا في إحصائيات وزارة الأسرة والتضامن ).وقد تصدى المشرع لهذه الظاهرة ،حيث يعاقب القانون آفة التسول ( الفصل 326) يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر من كانت لديه وسائل العيش ،أو كان بوسعه الحصول عليها بالعمل ،أو بأية وسيلة مشروعة ،ولكنه تعود ممارسة التسول في أي مكان كان .كما جاء في الفصل (327)يعاقب كل متسول يستعمل التهديد ،أو يدعي عاهة ،أو مرض ،أو يقوم باصطحاب أطفال من غير فروع المتسول بالسجن من ثلاثة أشهر إلى سنة ،كما يعاقب الفصل(328) من القانون الجنائي (يعاقب بالعقوبة المشار إليها في الفصل السابق من يستخدم في التسول صراحة ،أو تحت ستار مهنة أو حرفة ما أطفالا يقل سنهم عن ثلاثة عشر عاما). لكن تطور وسائل الاتصال ساهم في تغيير أشكال الممارسة الاجتماعية لظاهرة التسول ،وأصبح مستجدا توظف فيه معارف علمية متطورة ،ومؤهلات ذهنية كبيرة مسايرة للتطور التكنولوجي ؛وهو ما يطلق عليه التسول الرقمي ؟ التسول الرقمي ظاهرة التسول الرقمي لاتختلف عن التسول التقليدي ؛فهي قائمة بالأساس على الخداع ،والتحايل ،والاستغلال للحصول على المنافع المادية ،والعينية .كيف ذلك ؟المتسول الرقمي يحاول جذب عطف الناس ،ويطلب مساعدات أو تبرعات تحت حسابات وهمية ،وأسماء مستعارة فيجني الملايين ..؟ وميزة التسول عبر الأنترنت ،ومنصات التواصل أنها وسيلة آمنة لمتسول مجهول الهوية ؛لايمكن معرفة معلومات عنه .والمتسولون الرقميون عادة ما يتمتعون بذكاء اجتماعي عال جدا ؛في انتقاء الكلمات المؤثرة التي تستعطف الهدف للحصول على المال بتوظيف تقنيات حديثة مثل : تركيب فيديوهات ،أو صور كلها مزيفة ،ويعمل عدد كبير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في ترويج هذه الرسائل،والقصص الالكترونية التي ينشرها المتسولون. براثن الخداع التسول الرقمي ظهر مع ظهور الأنترنت ،لكنه أصبح أكثر انتشارا بمجرد انتقال العالم من الهواتف المحمولة إلى عصر الهواتف الذكية .والخبراء يحذرون من أن مواقع التواصل الاجتماعي قد أصبحت بمثابة العالم الافتراضي الذي وجد فيه المتسولون ،الاتكاليون فرصتهم للحصول على أموال الغير بأساليب خادعة . فعبر الوسائل الرقمية يستطيع المتسول أن يصل إلى العديد من الأشخاص على شكل متخف،حيث يقوم بصياغة قصص وهمية لخداع الناس ،والقلوب الطيبة. ومن الأساليب :إظهار تقارير طبية مزيفة – فواتير الماء والكهرباء –طلب المساعدة على الدراسة – إجراء عملية جراحية – -جمع تبرعات لبناء مسجد أو حفر بئر- فيديوهات خادعة.لذا كثير من الدول اعتبرت التسول الرقمي من الجرائم المعلوماتية ؛لكن إثبات الجريمة يحتاج لوسائل تقنية حديثة. وفي المغرب بالرغم من المقتضى التشريعي الذي يروم مكافحة التسول ،فإنه بالمقابل تظهر مجموعة من الإشكالات أمام المشرفين على إنفاذ القانون في التسول الرقمي العابر للقارات منها :صعوبة كشف هوية المتسولين الرقميين لأنهم يستعملون أسماء مستعارة ،أو ينشرون بأسماء غيرهم ، اعتمادهم على تفعيل برامج وتقنيات تجعل صعوبة في التعرف على هوياتهم الحقيقية ،مما يتطلب تدخل المشرع من جديد من أجل البحث عن منافذ تشريعية أخرى تحد من هذه الصعوبات ،وتساهم في إيقاف هذا النوع من الجرائم المستحدثة. كيف نحد من الظاهرة ؟؟ للحد من آفة التسول بكل أنواعه يجب :خلق فرص عمل جديدة ،نشر ثقافة العمل في المجتمع ، تفعيل الحقوق الاجتماعية ،والاقتصادية ،وتطبيق العدالة الاجتماعية ، تحيين القوانين بإضافة قانون مكافحة جمع التبرعات الاحتيالي ،والتسول الرقمي .والأهم من هذا كله توعية الجيل الجديد الذي يتعامل مع التكنولوجيا في كل مناحي الحياة بعدم التعامل مع شخص افتراضي.وفي هذا السياق أثمن العمل الأخير الذي قامت به وزارة الأسرة والتضامن احتفاء باليوم العالمي لحقوق الطفل (20 نونبر )وهو إطلاق *دليل الأسر لحماية الأطفال من الأنترنت* تسول لايعاقب عليه القانون ؟؟ هذا التسول الرقمي (لايت)يثير انتباه الكثيرين من مستخدمي المنصات الرقمية ،حيث المتسول يستجدي (لايك) الإعجاب بصفحته ،أو أخباره ،أو صوره ،أومداخلته في ندوة ،أو قصيدته .وآخرون يتسولون الدعاء للشفاء لهم أولقريبهم …تسول لزيادة عدد المتابعين ،والمشاهدين.وأهمس لهؤلاء المتسولين للإعجاب بأن الأعمال الجيدة والمستحقة للإعجاب تفرض نفسها دون حاجة أصحابها إلى استجداء مشاهدة ،أو متابعة ،أو حساب عدد اللآيكات …أليس كذلك ؟؟