أصبح التسول في العاصمة الاقتصادية مهنة قائمة بذاتها، تدر الكثير من الدخل على أصحابها، بحيث لم يعد يقتصر على ذوي الوضعيات الاجتماعية الهشة والأرامل المعوزات والمعاقين، ممن لا يجدون سبيلا آخر للعيش سوى طلب المساعدة، للحصول على بضعة دراهم تغطي مصاريف أكلهم وشربهم، بل أصبح التسول وسيلة لكسب المال وجمع الثروة بالنسبة للكثيرين، وبات يتطلب الخداع لدى البعض لتحقيق مداخيل قد تتعدى 500 درهم في اليوم. “بيان اليوم” نزلت إلى الشارع وتوقفت بحي الأحباس التقليدي، وبالضبط عند “المجازر البلدية”، هذه المنطقة تعج بأعداد كبيرة من المتسولين ومعظمهم من الأطفال ممن يلبسون ثيابا مهترئة وتعلو وجوههم ضربات الشمس الحارقة، يرددون بين الحين والآخر “الله يرحم والديك.. الله يخليك” لكسب عطف المارة، الذين يقع كثير منهم في مصيدة هؤلاء بإعطائهم مبالغ من المال، دون أن يدركوا أن معظمهم قاصرون يتم استغلالهم من قبل شحاذين من كبار السن لممارسة هذه الأعمال غير المشروعة، مستغلين طيبة المجتمع البيضاوي وتكافل أفراده. ظاهرة تتسع لا تبدو ظاهرة تسول الأطفال في الشوارع جديدة، لكنها أخذت بالانتشار بصورة مخيفة خلال السنوات الأخيرة في العاصمة الاقتصادية. وقد حاولت “بيان اليوم” الحديث مع بعض الأطفال الذين يتخذون هذا المكان الذي تتردد عليه الكثير من الأسر البيضاوية لتناول وجبات الشواء، لامتهان التسول، إلا أن الجريدة وجدت صعوبة في الحصول عن أجوبة للأسئلة التي تم توجيهها لهؤلاء الذين لا يبحثون سوى عن النقود، وكان الهرب هو رد الكثير منهم. غير أن أحمد وهو طفل صغير لا يتعدى عمره 8 سنوات، كان الوحيد من بين المتسولين الذي استجاب للمحاولة، إلا أن كلامه لم يكن مفهوما بشكل كاف، وكل ما قاله إن أباه مريض وفي حاجة للمال من أجل شراء الدواء. منظر مؤلم أن ترى طفلا مغلوبا على أمره أو رضيعا في حضن متسولة تجلس في البرد القارس أو تحت درجات حرارة مرتفعة لغرض التسول، يستنشقون عوادم السيارات ويتعرضون للأمراض … وضع غير إنساني بالنسبة للأطفال الصغار، وما يشجع على هذا الوضع هو أن معظم البيضاويين يتعاطفون مع المتسولين دون أن يتساءلوا عما إذا كان هؤلاء الأطفال في حاجة ماسة فعلا الى المساعدة أم أنهم مجرد ضحايا لمحتالين كبار يستغلونهم في التسول وقد يعرضونهم إلى الإيذاء العمدي بتشويه أجسادهم حتى يظهروا بعاهات يوظفونها في التسول لاستدرار عطف الآخرين. متسولون جدد “بيان اليوم” توقفت عند إحدى إشارات المرور بالحي الحسني، ورأت كيف يتسابق المتسولون أفارقة وسوريون ومغاربة، نحو السيارات لدعوة أصحابها للتصدق عليهم، مما يسيء إلى المظهر الحضاري لهذه المنطقة. مشهد مألوف في الكثير من الطرقات والمواقع وأمام أبواب المساجد ومواقف السيارات، يظل المشهد مؤلما كثيرا عندما يتعلق الأمر بيد صغيرة تطلب الصدقة. بملابس ممزقة ورثة، وجسد هزيل، يتجول طفل من ملامحه يبدو أن عمره لا يتجاوز 10 سنوات عند هذه الإشارة الطرقية كان هذا البئيس يحاول بصوت حزين استدرار عطف أصحاب السيارات حتى يتصدقوا عليه ببعض الدريهمات. وفي جهة أخرى من الدارالبيضاء وبالضبط بمقاطعة المعاريف، كانت امرأة برفقة ثلاثة أطفال، تستجدي المارة المساعدة، مدعية أنها أرملة وربة أسرة مصابة بالمرض الخبيث وتعيش بإمكانيات منعدمة وتطلب الرأفة بأطفالها.. طفلة أخرى تبلغ من العمر ثمان سنوات، التقتها “بيان اليوم” في مركز تجاري بالدارالبيضاء، بلهجة سورية تستجدي المشاة الصدقة، عند سؤالها عن سبب تواجدها بالمركز التجاري أجابت بصوت خافت وحزين لقد توفي والدي في سوريا ولا يوجد من يعيلنا سوى والدتي، والتي تتواجد في مواقع أخرى بغرض التسول. تبقى كل هذه الحكايات والقصص مجرد كلمات لا تساوي شيئا أمام وقوف هؤلاء الصغار تحت أشعة الشمس الحارقة لاستدرار عطف المارة، من الناس من يشفق على المتسولين ويساعدهم، ومن الناس من يهينهم ويتجنبهم، وكذلك من يعرضهم للتحرش والاستغلال الجنسي. يؤدي تسول الأطفال في الشوارع إلى احتكاكهم بمختلف أصناف البشر، وبالتالي انخراطهم في مختلف أنواع الانحرافات من سرقة وإجرام واستغلال جنسي، والتجارة بالممنوعات وغيرها من الآفات الأخرى الأشد خطرا على الطفل والمجتمع. مشاكل اقتصادية واجتماعية تتسبب ظاهرة تسول الأطفال في العديد من المشاكل والآثار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية على المجتمع، أبرزها انتشار النصب والاحتيال والسرقات والمخدرات، وانحراف صغار السن، وتشجيع بعض الأسر لأطفالها على التسول، مع دور ذلك في رفع معدلات الجرائم الأخلاقية، وبروز ظاهرة خطف الأطفال والفتيات المتسولات، وظاهرة استئجار المنازل المهجورة في الأحياء القديمة من أجل تكوين خليات إجرامية، إضافة إلى الآثار الاقتصادية كتهريب الأموال للخارج، وتعطيل حركة الإنتاج. يعود انتشار ظاهرة تسول الأطفال إلى عدم توفر الوسط الاجتماعي على الإمكانيات والآليات التي تمكن الطفل من تحقيق حاجاته الجسدية والنفسية والعقلية، وأمام احتياجات الأطفال التي تزداد باستمرار وفي ظل غياب إمكانيات العيش الكريم، يضطرون إلى احتراف مهنة التسول كوسيلة لكسب لقمة العيش وإعالة أسرهم الفقيرة، وأحيانا يقودهم سوء الحظ لعصابات تجعل منهم أطفالا مجرمين يمتهنون السرقة والمتاجرة بالممنوعات وممارسة الدعارة، كل هذه الممارسات الشنيعة قد يمارسونها من أجل كسب لقمة العيش في ظل ظروف بئيسة تفتقر لبيئة آمنة وسط حضن أسري. كما أن السلطات في صمت لا تبذل أي جهد في تفعيل النصوص القانونية والتشريعية التي تؤكد على حقوق الطفل في التعليم والعيش الكريم وضمان سلامته وسلامة صحته التي تتأثر بوضعه المعيشي وأحواله الاجتماعية، ولما تشكله هذه النصوص القانونية من ردع ستساهم لا محالة في الحد من هذه الظاهرة وبالتالي ستضمن الحقوق الكاملة لهذه الفئة المحرومة من الأطفال في المجتمع.