المغرب يسرّع استكشاف 44 موقعًا معدنيًا استراتيجيًا لتعزيز مكانته في سوق المعادن النادرة    مصدر جامعي: شائعات إقالة الركراكي حملة إعلامية جزائرية مغرضة    الأمن يطيح بمجرم خطير بتامسنا في عملية نوعية لمكافحة الجريمة    الدورة 39 لجائزة الحسن الثاني الكبرى للتنس.. المغربيان إليوت بنشيتريت ويونس العلمي لعروسي يودعان المنافسات    كرة اليد.. المغرب يستضيف النسخة الأولى من بطولة العالم لأقل من 17 سنة ذكورا من 24 أكتوبر إلى 1 نونبر 2025    الادخار الوطني بالمغرب يستقر في أكثر من 28 في المائة على وقع ارتفاع الاستهلاك    مركز يحذر من ترويج "كذبة أبريل"    "أوبك+" تبدأ اليوم في زيادة إنتاج النفط مع بدء التخلص التدريجي من التخفيضات الطوعية    قرار منع تسليم السيارات خارج المطارات يغضب مهنيي التأجير في المغرب    موعد جلسة مغلقة لمناقشة نزاع الصحراء في مجلس الأمن الدولي    كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة (الجولة 1/المجموعة 3).. منتخب السنغال يفوز على نظيره الغامبي (1-0)    مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء.. تلاقي وتواصل والتئام حول موائد الإفطار طيلة شهر الصيام بعدد من المؤسسات السجنية(بلاغ)    19 قتيلا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية ‏خلال الأسبوع المنصرم    إسبانيا تخصص أزيد من نصف مليون أورو لدعم خدمات النظافة بمعبر بني أنصار    الإسبان يقبلون على داسيا سانديرو المصنوعة في طنجة    "تافسوت" ترفض "التأويل السياسي"    بلجيكا تشدد إجراءات الوقاية بعد رصد سلالة حصبة مغربية ببروكسيل    مجلس الحكومة سيصادق يوم الخميس المقبل على مشروع قانون يتعلق بالتعليم المدرسي    مزور: تسقيف الأسعار سيضر بالعرض والطلب ولن يحل مشكل الغلاء    السلطات البلجيكية تشدد تدابير الوقاية بسبب سلالة "بوحمرون" مغربية ببروكسيل    أجواء من الفرح والسرور ببرنامج راديو الناس احتفالا بعيد الفطر رفقة مجموعتي نجوم سلا والسرور (فيديو)    دراسة معمارية لإنجاز المدخل الثالث لميناء أكادير بما يقارب 20 مليون درهم    5 نقابات تعليمية: الوزارة تستهتر بالتّعليم العمومي وتسوّق لإنجازات لا وجود لها في الواقع    وفاة أحد رواد فن المديح وإصابة 6 آخرين في حادثة سير بالرباط    "مجموعة العمل من أجل فلسطين" تدعو لمسيرة وطنية بالرباط دعما لغزة    ترامب يهدد بسحب مليارات من جامعة هارفرد بسبب وقوف الطلبة ضد الحرب على غزة    الذهب يسجل أعلى مستوى له بسبب المخاوف من الرسوم الجمركية الأمريكية    ارتفاع ضحايا غزة إلى 1042 شهيدا منذ استئناف اسرائيل عدوانها بعد الهدنة    الذهب يسجل أعلى مستوى له بسبب المخاوف من الرسوم الجمركية الأمريكية    تبون يعود إلى التراجع أمام فرنسا رغم تأكيد اعترافها بمغربية الصحراء    أنشيلوتي: كيليان مبابي قد يصبح "أسطورة" مثل كريستيانو رونالدو    أغنية تربط الماضي بالحاضر.. عندما يلتقي صوت الحسن الثاني بإيقاعات العصر    أكثر من 122 مليون مسلم قصدوا الحرمين الشريفين في رمضان    هذا موعد رجوع المغرب إلى الساعة الإضافية    أسعار الوقود بالمغرب تسجل انخفاضا طفيفا ابتداء من اليوم    بعد 13 يومًا من البحث.. العثور على جثة الطفل الراجي في وادي أم الربيع    ارتفاع حصيلة ضحايا زلزال ميانمار إلى 2065 قتيلا    بعثة نهضة بركان تصل إلى الكوت ديفوار استعدادا لمواجهة أسيك ميموزا    مانشستر سيتي الانجليزي يعلن إصابة هالاند في الكاحل    نائب في حزب الله يصف الضربة الاسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية ب"عدوان الكبير جدا"    المملكة المغربية تجدد الدعم لاستقرار إفريقيا    طقس الثلاثاء: سحب كثيفة مع هبوب رياح قوية    يوسف أيت أقديم يكتب: هل تٌنذر إدانة مارين لوبان بنهاية الديمقراطية في فرنسا؟    الجيش يختتم الاستعدادات في القاهرة    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    القهوة في خطر.. هل نشرب مشروبًا آخر دون أن ندري؟    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    المصور محمد رضا الحوات يبدع في تصوير إحياء صلاة عيد الفطر بمدينة العرائش بلمسة جمالية وروحية ساحرة    طواسينُ الخير    لماذا نقرأ بينما يُمكِننا المشاهدة؟    ما لم تقله "ألف ليلة وليلة"    إشباع الحاجة الجمالية للإنسان؟    الموت يفجع الكوميدي الزبير هلال بوفاة عمّه    دراسة تؤكد أن النساء يتمتعن بحساسية سمع أعلى من الرجال    منظمة الصحة العالمية تواجه عجزا ماليا في 2025 جراء وقف المساعدات الأمريكية    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    انعقاد الدورة الحادية عشر من مهرجان رأس سبارطيل الدولي للفيلم بطنجة    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التراجع حتى عن الترسيم الرمزي للأمازيغية
نشر في لكم يوم 20 - 07 - 2020

بقراءة متأنّية لصيغة الفصل الخامس من الدستور، بفقراته الست، يتبيّن أن ما ينص عليه من ترسيم للغة الأمازيغية هو ترسيم ناقص ومبتور. وقد جاء القانون التنظيمي رقم 26.16، المتعلق بتفعيل هذا الترسيم، بعد ثماني سنوات من إقراره في الدستور، ليؤكدّ هذا النقصَ والبترَ اللذيْن يتجليان في تركيز هذا القانون التنظيمي على تفعيل ترسيم رمزي للأمازيغية، وتجاهله لتفعيل ترسيمها الوظيفي.
الترسيم الوظيفي:
والمقصود بالترسيم الوظيفي للأمازيغية هو استعمالها الكتابي كلغة رسمية للوثائق الرسمية للدولة ومؤسساتها. وهو ما يستتبع أن تعلّمها المدرسي، للتمكّن من استعمالها الكتابي، شرط واقف لتفعيل هذا الترسيم الوظيفي. فهو وظيفي لأن من خلاله تُؤدّى وظيفة كتابة وقراءة الوثائق الرسمية للدولة ومؤسساتها باعتبار أن الأمازيغية هي أيضا لغة رسمية للدولة، كما جاء في الفصل الخامس من الدستور.
ومن هنا تبرز، كما كتبت، ضرورة تدريس الأمازيغية لإمكان استعمالها الكتابي، الضروري لاستعمالها الرسمي الوظيفي. فمثلا، عندما يحرّر قاضٍ حكما بالأمازيغية باعتبارها لغة رسمية للدولة، فمن البديهي أن يكون متمكّنا من الاستعمال الكتابي للأمازيغية. كما أنه من اللازم كذلك أن يكون المعنيون بهذا الحكم، من قضاة النيابة العامة ومحامين وكتاب الضبط وحتى المتقاضين…، متقنين لقراءة وكتابة الأمازيغية حتى يتعاملوا مع هذه الوثيقة بالشكل المناسب والمطلوب قانونيا. وكي يعبئ ملزم بأداء الضريبة المطبوعَ الرسمي الذي أعدّته وزارة المالية لذلك، والمكتوب بالأمازيغية كلغة رسمية، لا بد أن يكون مُتقنا لقراءة وكتابة الأمازيغية. ولا بدّ كذلك أن يكون الموظّف بمصلحة الضرائب، الذي سيراقب معطيات تلك الوثيقة بعد تعبئتها، مُتقنا لقراءة وكتابة الأمازيغية. وعندما يريد مواطن أن يحرّر طلبا أو شكاية باللغة الأمازيغية إلى جهة رسمية، إدارية أو قضائية، فلا يمكنه أن يقوم بذلك إلا إذا كان مُتقنا لقراءة وكتابة هذه اللغة. كما أن المسؤول الذي سيدرس ذلك الطلب أو تلك الشكاية، لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا كان يتقن مسبّقا قراءة وكتابة الأمازيغية…
النتيجة أن الاستعمال الرسمي الوظيفي للغة الأمازيغية، من خلال التعامل مع الوثائق الرسمية المكتوبة بالأمازيغية، يتوقف على معرفة قراءة وكتابة هذه اللغة. وهو ما يتوقّف على تدريسها، الإجباري والموحّد لكل المغاربة. فالشرط الواقف، كما أشرت، لتفعيل الترسيم الوظيفي للأمازيغية هو إذن تدريسها، حتى يكون المتخرّج مؤهّلا للاستعمال الكتابي لهذه اللغة، أي لكتابة مختلف الوثائق بالأمازيغية وقراءتها.
الترسيم الرمزي:
أما الترسيم الرمزي لاستعمال الأمازيغية، فهو استعمالها الرسمي الذي لا يشترط تفعيلُه، عكس الترسيم الوظيفي، تعلّمَها المسبّق في المدرسة للتمكّن من قراءتها وكتابتها، وذلك لأن هذا الترسيم الرمزي لا يحتاج إلى معرفة هذه القراءة والكتابة للأمازيغية. وهكذا مثلا، فكتابة الأمازيغية على القطع والأوراق النقدية (المادة 22 من القانون التنظيمي رقم 26.16) لا تتطلّب، لتداول تلك القطع والأوراق وتحديد قيمها النقدية، تعلّما مدرسيا مسبّقا للأمازيغية والتمكّن من كتابتها وقراءتها. وهو ما يصدق حتى على العربية والفرنسية المكتوبتين حاليا على هذه القطع والأوراق النقدية، حيث يتداول الأمّي نفس القطع والأوراق ويعرف قيمتها النقدية دون أن تكون له معرفة بقراءة وكتابة هاتين اللغتين. ونفس الشي في ما يتعلق ببطاقة التعريف الوطنية (المادة 21 من القانون التنظيمي)، حيث لا يتوقّف استعمال هذه البطاقة، المكتوبة حاليا بالعربية والفرنسية، على إجادة صاحبها لقراءة ما هو مكتوب عليها. ولهذا فهي تُسلّم للمتعلّمين وللأميين دون تمييز بينهما. كما أن الولوج إلى الإدارات والمرافق العمومية التي تحمل واجهاتُها كتابةً بالأمازيغية (المادة 27 من القانون التنظيمي)، للاستفادة من خدماتها، لا يشترط التمكّنَ من قراءة ما كتب على واجهاتها بالأمازيغية، ولا بالعربية ولا بالفرنسية بالنسبة إلى ما هو مكتوب بهاتين اللغتين. ولأن هذا الاستعمال الرسمي للأمازيغية هو رمزي فحسب، فلذلك فهو غالبا ما يكون نمطيا وموحّدا، كما في القطع والأوراق النقدية، والطوابع البريدية، وأختام الإدارات العمومية، أو لا تتغيّر فيه إلا الأسماء الشخصية والعائلية، وتاريخ ومكان الازدياد، وعناوين الإقامة، كما في بطاقات التعريف الوطنية وجوازات السفر…
ورغم أن هذا الاستعمال الرسمي للأمازيغية هو رمزي فقط، كما أوضحت، إلا أنه ذو أهمية لا يمكن تبخيسها أو التقليل من قيمتها، لأنه يرمز إلى الهوية الأمازيغية ويحيل مباشرة عليها، علما أن الثقافة، وما يرتبط بها من لغة وهوية، تتشكّل من علامات ورموز.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المستوى الرمزي للاستعمال الرسمي للأمازيغية، قابل للتفعيل مباشرة دون تأخير لأنه، كما رأينا، لا يتوقّف على تعلّم اللغة الأمازيغية، الذي يتطلّب الوقت الكافي للإتقان المدرسي والكتابي لهذه اللغة، كما في الاستعمال الرسمي الوظيفي لها.
التركيز على الترسيم الرمزي واستبعاد الترسيم الوظيفي:
وبالرجوع إلى القانون التنظيمي رقم 16-26، المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية (هذه هي تسميته الكاملة التي صدر بها في الجريدة الرسمية عدد 6816 بتاريخ 26 سبتمبر 2019)، نلاحظ أن هذا القانون لم يكتف بتأويل جد ضيّق لنص الدستور من أجل التضييق على الأمازيغية، وذلك بإعطاء كل الأولوية لتفعيل الترسيم الرمزي على حساب تفعيل الترسيم الوظيفي، بل هو يحصر، كما يظهر ذلك جليا من مضمونه وأهدافه، ترسيم الأمازيغية في هذا المستوى الرمزي لا غير. وهذا ما يفسّر أن هذا القانون لم يحدّد كيفيات إدماج الأمازيغية في مجال التعليم، التي هي من مهامه الأولى كما جاء في الفقرة 4 من الفصل 5 من الدستور. لماذا؟ لأن ذلك موضوعٌ يتعلق بتدريس الأمازيغية للتمكّن من استعمالها الكتابي، الذي يتوقف عليه تفعيل ترسيمها الوظيفي. وبما أن هذا القانون يحصر ترسيمها في ما هو رمزي وشكلي، ويستبعد ما هو وظيفي وكتابي، فموضوع التدريس مستبعد إذن لأنه يخص الترسيم الوظيفي الذي لا مكان له ولا كلام عليه في هذا القانون. فبما أننا، حسب المنطق الأمازيغوفوبي الذي يحكم القانون التنظيمي رقم 26.16، لن نحتاج إلى وثائق رسمية تُحرّر بالأمازيغية، فالنتيجة أننا لن نحتاج إلى تدريس الأمازيغية لتخريج موظفين يجيدون الاستعمال الكتابي للأمازيغية، حتى يكونوا مؤهّلين لكتابة وقراءة وثائق باللغة الأمازيغية.
الخلاصة أن هذا القانون التنظيمي، بتركيزه على ترسيم رمزي ديكوري فقط للأمازيغية حتى لا يكون لها ترسيم وظيفي وكتابي، فهو يلغي في الحقيقة أي ترسيم حقيقي لها (انظر موضوع: "قانون تنظيمي لإعدام ترسيم الأمازيغية" هنا). وهكذا يكون هناك تدرّج في التدحرج من ترسيم ناقص ومبتور، كما قلنا عن الفصل الخامس للدستور الذي جاء فيه أن الأمازيغية تُعدّ هي أيضا لغة رسمية، إلى قانون تنظيمي يُنقص من هذا الذي هو ناقص أصلا، ويبتر من هذا الذي هو مبتور منذ البداية، ليختفي ترسيم الأمازيغية، الحقيقي والوظيفي المتمثّل في الاستعمال الكتابي لها في الوثائق الرسمية، ولا يبقى منه إلا الترسيم الرمزي والشكلي، الذي يمنحه القانون التنظيمي رقم 26.16 للأمازيغية.
التراجع حتى عن الترسيم الرمزي:
لكن المفاجأة غير السارة، وهي الدافع لكتابة هذه الورقة، أن التدحرج لم يتوقّف عند إعدام الترسيم الحقيقي، أي الوظيفي الكتابي، والاكتفاء بالترسيم الرمزي، بل سيشمل إعدام حتى هذا الترسيم الرمزي نفسه حتى لا يكون له عمليا أي وجود. وهذا هو مضمون مشروع قانون رقم 04.20، المتعلق بالبطاقة الوطنية للتعريف الجديدة، الذي صادق عليه مجلس الحكومة بتاريخ 12 مارس 2020، وأودع يوم ثالث يونيو بمكتب مجلس النواب لمناقشته بغية إقراره وتبنّيه. وهو ما بدأ يتحقّق ويتأكد بعد أن صادقت لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بمجلس النواب يوم 16 يوليوز 2020 على هذا المشروع بالإجماع، رغم أنه «مشروع تستهتر فيه الحكومة، وبكثير من الصلف والتحدّي والأمازيغوفوبية، بالدستور وبالقانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، والذي سبق أن حرّرته هي نفسها» (انظر موضوع: "في تعِلّة إقصاء الأمازيغية من مشروع البطاقة الوطنية" هنا). والمثير في هذه المصادقة ليس تجاهل الدستور والقانون التنظيمي رقم 26.16، وإنما كونها تمت ب"الإجماع"، أي بآلية تنتمي عادة إلى الأنظمة الديكتاتورية ذات الحزب الواحد، حيث يكون "الإجماع" تعبيرا عن الحكم الشمولي، الذي لا مجال فيه للخروج عما يختاره ويقرّره الحزب الحاكم. لكن من حسنات هذا "الإجماع" أنه كشف عن نفاق وانتهازية وجبن أولئك النواب الذين سبق لهم أن أعلنوا معارضتهم لهذا المشروع لإنه يُجحف في حق الأمازيغية ويخالف الدستور والقانون التنظيمي رقم 26.16. لكن ذلك لم يثنهم عن الانضمام في الأخير إلى حزب وحكم "الإجماع".
فبعد عشرات السنين من النضال من أجل ترسيم دستوري للأمازيغية، وبعد حصولها على هذا الترسيم في دستور فاتح يوليوز 2011، وبعد ثماني سنوات من تجميد ذلك الترسيم، ستفرج الحكومة عن القانون التنظيمي لتفعيل هذا الترسيم، وهو قانون صاغته بالشكل الذي يُعدم هذا الترسيم باختزاله في ترسيم رمزي لا غير، كما سبق بيان ذلك. ثم بعد ذلك تتقدّم بمشروع قانون رقم 04.20، المتعلق بالبطاقة الوطنية للتعريف الجديدة، تُعدم فيه حتى ذلك الترسيم الرمزي الشكلي، الذي قررته في القانون التنظيمي الذي حررته هي نفسها، لتعود بنا هذه الحكومة إلى ما قبل 2011، أي إلى ما قبل الترسيم الدستوري للأمازيغية، وإلى ما قبل قانونها التنظيمي رقم 26.16، خارقة بذلك للدستور وللقانون التنظيمي الذي كتبته ودافعت عنه هي نفسها كما ذكرت، مستخفّة، وبشكل صفيق، بالأمازيغية وبكل ما تقرّر لصالحها، رافضة أن تمكّنها بذلك النزر القليل الذي سبق أن أعطته لها هي نفسها. إنه تعامل عبثي و"سيزيفي" (نسبة إلى "سيزيف" المعروف في الأسطورة اليونانية، الذي حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرة إلى قمة الجبل. فكان كلما أوصلها تدحرجت ليعود إلى حملها من جديد. فأصبحت "السيزيفية" تعني التكرار والعودة كل مرة إلى نقطة البداية) مع الأمازيغية بالعودة بها دائما إلى ما كانت عليه قبل ترسيمها الدستوري.
اتّحاد المكوّنين الفرنسي والوطني ضد الأمازيغية:
كل هذا يعني أن الدولة لا زالت، عبر حكوماتها، تتعامل مع الأمازيغية، ليس بالدستور والقانون، وإنما بالهوى الأمازيغوفوبي وذهنية الإقصاء. مما يؤكّد أن مشكل الأمازيغية هو مشكل سياسي، وليس مشكل قوانين ونصوص تشريعية غير منصفة للأمازيغية. وحتى نفهم هذا التعامل الأمازيغوفوبي من طرف الدولة مع أمازيغيتها، علينا استحضار، كعنصر أول يفسّر هذا التعامل، أنها دولة أنشأتها، في صيغتها الحديثة، فرنسا. ولأن فرنسا هي العدو الوحيد الحقيقي في التاريخ للأمازيغية والأمازيغيين، وليس الرومان ولا العرب، فقد نقلت أمازيغوفوبيتها إلى بنتها التي أنجبتها بالمغرب في 1912. يضاف إلى ذلك، كعنصر ثانِ يفسّر بدوره هذا التعامل، أن ما يدخل في تشكيل الوعي السياسي والهوياتي للدولة المغربية، ذات الأصل الفرنسي الجديد، هو الوعي السياسي العروبي "للحركة الوطنية"، والذي تبنّته رغم ما كان هناك من تعارض ظاهري بين الطرفين. وإذا عرفنا أن هذه الحركة قامت على العداء للأمازيغية كعلة لوجودها ونشأتها، سنعرف أن هذا العداء انتقل إلى الدولة ضمن ما انتقل إليها من وعي سياسي عروبي يرجع إلى هذه "الحركة الوطنية" التي جعلت من التحوّل الجنسي للمغاربة، من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى الجنس العربي الأسيوي، وطنية وحداثة ومفخرة وتقدّما…، ومن السواء الجنسي، بالنسبة للمغاربة الذين بقوا أوفياء لجنسهم الأمازيغي الأصلي، خزيا وتخلفا وخطيئة وخيانة… وهكذا سنفهم أن الدولة المغربية، كدولة فرنكوعروبية، أي كدولة أنشأتها فرنسا وتحمل وعيا سياسيا عروبيا استمدّته من "الحركة الوطنية"، لا يمكن إلا أن تكون مناوئة لأمازيغيتها بشكل مزدوج، تبعا لازدواج أصولها الأمازيغوفوبية، الفرنسية والوطنية nationaliste (نسبة إلى الحركة الوطنية وليس إلى الوطن).
ولهذا لم ينفع إصدار قوانين جديدة ودستور جديد، فيهما اعتراف بقليل من حقوق الأمازيغية، في تمتيعها بهذا القليل من الحقوق. فهناك دائما إرادة سياسية متأصّلة تعارض تطبيق القرارات التي اتخذتها الدولة هي نفسها لصالح الأمازيغية. وهذا ما نعرفه من خلال استمرار منع الأسماء الأمازيغية في حالات ليست بالقليلة، وإجهاض مشروع تدريس الأمازيغية الذي تقرّر بظهير ملكي (ظهير أجدير في 17 أكتوبر 2001)، وإفشال ترسيمها الوظيفي الذي نص عليه الدستور (تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة) بتحويله في القانون التنظيمي رقم 26.16 إلى ترسيم رمزي، كما سبق أن شرحت. إلا أن ما لم يخطر بالبال هو أن الدولة ستتراجع حتى عن هذا الترسيم الرمزي، البعيد عن الترسيم الحقيقي، أي الوظيفي الذي يعتمد الاستعمال الكتابي للأمازيغية كلغة لتحرير الوثائق الرسمية.
فرغم عملية البتر التي أجرتها الحكومة على ترسيم الأمازيغية الذي أقرّه الدستور، فخفّضته في القانون التنظيمي إلى أدنى مستوياته الرمزية مع استبعاد مستواه الوظيفي، كما سبق أن أوضحنا، إلا أنها عندما اعتزمت تفعيل هذا المستوى الرمزي الأدنى لترسيم الأمازيغية، بدا لها ذلك المستوى الأدنى الذي اختارته بنفسها، بحجم كبير وبمستوى عالٍ، فرفضته متراجعة عما قررته هي نفسها في القانون التنظيمي، كما قلت. وهو ما يعني أن حجم الترسيم المناسب للأمازيغية، والذي تستحقه حسب واضعي مشروع قانون رقم 04.20، هو ألا يكون لها وجود رسمي إطلاقا، لأنه لا يمكن النزول إلى أقل من مستوى الترسيم الرمزي.
لقد حاولت الدولة التغلّب شيئا ما على مكوّنها الأمازيغوفوبي الفرنسي، الحاضر بقوة في الجهاز المخزني الذي يمثّله القصر. ولذلك جاءت أهم القرارات المنصفة للأمازيغية (إنشاء ليركام، الدسترة…) بمبادرة من القصر. لكن ما يجعل هذه القرارات قليلة الجدوى هو المكوّن الأمازيغوفوبي الثاني، أي الوطني (نسبة إلى الحركة الوطنية)، والذي لا زال له حضور قوي ونافذ في مؤسسات الدولة وأجهزتها، ليس المركزية فحسب، بل الجهوية والإقليمية، كما يتجلّى ذلك عندما يرفض، تحدّيا لما قرّرته وزارة التربية الوطنية، مدير إقليمي لوزارة التعليم توفيرَ أستاذ لمادة اللغة الأمازيغية، أو عندما يمتنع، تبعا لمزاجه الأمازيغوفوبي، ضابط للحالة المدنية في إحدى المقاطعات عن تسجيل اسم أمازيغي لمولود جديد، أو عندما يتدخّل، مدفوعا بهاجس أمازيغوفوبي شخصي، قائد في إحدى الدوائر فيمنع رفع علم أمازيغي في تظاهرة رياضية مثلا… هكذا تنتشر ثقافة الأمازيغوفوبيا بوجود ناشرين لها من مسؤولين متشبعين بفكر "الحركة الوطنية" المعادي للأمازيغية. وما كان لهذا الانتشار أن ينجح لو أن الدولة، ممثَّلة في مصالحها المركزية، كانت تتدخّل لفرض تطبيق قرارتها ومساءلة المسؤولين المخالفين لها. لكن كيف تتدخّل وقد خرقت هي نفسها القرارات التي اتخذتها بخصوص الأمازيغية، كما رأينا بشأن مشروع قانون البطاقة الوطنية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.