(2/3) لماذا "التقاضي" وليس "القضاء"؟ وارتباطا بهذا المجال الخاص بالقضاء، نلاحظ أن المشروع استعمل لفظ "التقاضي"، متجنّبا عن قصد استعمال لفظ "القضاء". لماذا؟ لأن هناك فرقا كبيرا بين لغة التقاضي ولغة القضاء. فلغة التقاضي تهمّ إجراءات مرتبطة بالمتقاضي، وتخصّه هو وحده شخصيا، كأن يُسمح له باستعمال لغته الأمازيغية خلال إجراءات التحقيق أو للترافع أو لتقديم شهادة أمام المحكمة (الفقرة 1 من المادة 30)، وبسماع النطق بالحكم بها (الفقرة 3 من نفس المادة)، وبالاستفادة من خدمات الترجمة (الفقرة 2 من نفس المادة). فلغة التقاضي هي لغة الشخص المتقاضي، وتدخل في ذلك حتى اللغة الأجنبية للمتقاضي الأجنبي، ولا يتعدّى إذن وهذا هو الفرق الأهم مجالُ استعمالها التواصلَ الشفوي. أما لغة القضاء فلا علاقة لها بلغة المتقاضين كأشخاص طبيعيين، بل هي لغة النظام القضائي كله، وهي بالضرورة لغة رسمية للدولة باعتبار القضاء مظهرا لسيادة هذه الدولة. كما أنها وهذا هو بيت القصيد تخص الاستعمال الكتابي أولا وأساسا، مثل لغة تحرير الأحكام والمقررات القضائية، والمذكرات الترافعية، وسجلات كتابة الضبط، ومحاضر الشرطة القضائية... وهذا ما يفسّر أن المشروع استعمل كلمة "التقاضي"، انسجاما مع الغاية من هذا المشروع التي هي تفعيل الطابع غير الرسمي للأمازيغية، كما سبقت الإشارة، وهو ما يتماشى مع جواز الاستعمال الشفوي لهذه اللغة من طرف المتقاضين كأشخاص. لكنه تفادي، وبشكل محسوب ومقصود، استعمال كلمة "القضاء"، الذي لا يمكن أن تكون لغته إلا رسمية، وتستعمل في المجال الكتابي لجهاز القضاء برمته. وليس صدفة أن المشروع خصّ 6 مجالات معنية باستعمال الأمازيغية (مجالات التعليم، التشريع والعمل البرلماني، الإعلام والاتصال، الإبداع الثقافي والفني، الإدارات والمرافق العمومية، الفضاءات العمومية) بأكثر من مادتين اثنتين، إلا مجال التقاضي كما سماه فقد أفرد له مادة واحدة، كما وضعه في المرتبة السابعة كآخر مجال تناوله المشروع. لماذا إفراد مادة واحدة لقطاع هام قد يحتاج إلى كثير من التدابير والمراحل المتدرجة بخصوص إدماج الأمازيغية لاستعمالها في هذا القطاع بصفتها لغة رسمية؟ لأن استعمال الأمازيغية كلغة رسمية في مجال القضاء، مع ما يعنيه ذلك من استعمال كتابي لها، هو شيء خارج "المفكّر فيه" عند محرري المشروع. ولهذا اختصروا كيفية إدماجها في مجال التقاضي في مادة واحدة، لأن الأمر لا يتعلق باستعمال الأمازيغية كلغة رسمية في مجال القضاء، وهو ما يتطلب تفاصيل كثيرة تحتاج إلى كثير من المواد، وإنما يخصّ فقط استعمالها الشفوي وبشروط من طرف الشخص المتقاضي. بأي من اللغتين الرسميتين ستُحرّر الأحكام القضائية؟ ولا يمكن تبرير هذا الرفض للاستعمال الرسمي الكتابي للأمازيغية في القضاء وليس التقاضي بمشكل اختيار أي من اللغتين الرسميتين لتحرير الأحكام. فمثل هذا التبرير لا يبرّر في الحقيقة عدم إمكان استعمال الأمازيغية كلغة كتابية رسمية، وإنما يبرّر به الذي يثيره موقفَه هو، الرافض لاستعمال الأمازيغية بهذه الصفة، أي كلغة كتابية رسمية، فيختلق لتسويغ ذلك الرفض ألف سبب وسبب. ولهذا فهذ المشكل بأية لغة رسمية ستحرر الأحكام القضائية؟ ليس مشكلا إلا لأننا ننظر إلى الأمازيغية، نتيجة لتهميشها وتحقيرها وإقصائها، كلغة غير قادرة على أن تضطلع بنفس الأدوار والوظائف الرسمية الكتابية التي تقوم بها أية لغة لها صفة اللغة الرسمية، كالعربية والفرنسية والفارسية والتركية والبرتغالية... أما عندما تكون الأمازيغية مستعملة هي أيضا كلغة رسمية للدولة مثلها مثل العربية، بعد الوقت الضروري والكافي لتأهيلها المدرسي لذلك، فلن يطرح مثل هذا السؤال. وحتى إذا طرح تكون الحلول والأجوبة متوفرة وجاهزة، مثل خيار "التناوب اللغوي" باستعمال العربية تارة والأمازيغية تارة أخرى، أو تعيين، وبالتساوي، قضاة يشتغلون بالأمازيغية وآخرين يشتغلون بالعربية، أو تكليف محاكم بكتابة أحكامها بالعربية وأخرى بالأمازيغية، أو تخصيص أقسام (مدني، عقاري، قضايا الأسرة، حوادث السير، جنح، جنايات...)، بكل محكمة، تستعمل في أعمالها الكتابية العربية وأخرى الأمازيغية... وحتى إذا كان هذا المشكل سيُطرح حقا، فسيكون ذلك بشكل مؤقت وعابر، مرتبط فقط بمرحلة البداية والتأسيس للاستعمال الكتابي الرسمي للأمازيغية في مؤسسات الدولة. أما بعد مدة من ممارسة هذا الاستعمال، والتطبيع معه بفضل التدريس الإجباري والموحّد للأمازيغية، وتوفر وانتشار الإنتاج الكتابي بها، فإن استعمالها الكتابي الرسمي في القضاء سيبدو شيئا عاديا وطبيعيا لن يثير كل المشاكل والأسئلة التي نطرحها اليوم، والتي لا معنى ولا مبرر لها إلا لأن الأمازيغية ليست بعدُ لغة مدرسية وكتابية، ولا تستعمل بعدُ، نتيجة لذلك، لغة كتابية رسمية للدولة. فكيفية التعامل مع وب لغتين رسميتين اثنتين، وأي منهما ستحرّر بها الأحكام القضائية ومختلف الوثائق الرسمية، ليست مشكلة إلا لأن الأمازيغية لا تُستعمل بعدُ لغة كتابية رسمية لتحرير مثل هذه الوثائق الرسمية، ولأننا نتيجة ذلك نتصوّر أننا نستعمل لغة رسمية واحدة فقط، وهو تصوّر غير صحيح إذا استحضرنا الفرنسية ووظيفتها الرسمية بالمغرب. ولذلك فهذا المشكل لا يُطرح بالنسبة لهذه الفرنسية التي لا زالت هي اللغة الرسمية الحقيقية الأولى في المغرب، ودون حاجة إلى ترسيم دستوري. لماذا لا يُطرح؟ لأننا ألِفنا استعمال العربية والفرنسية لكتابة الوثائق الرسمية منذ 1912، ولم نألف بعدُ استعمال العربية والامازيغية لكتابة نفس الوثائق. فلماذا سيكون هناك مشكل مع الاستعمال الكتابي الرسمي للأمازيغية إلى جانب العربية، إذا لم يوجد مثل هذا المشكل مع الاستعمال الرسمي للفرنسية بجانب العربية، ودون أن تكون هذه الفرنسية لغة دستورية ولا وطنية، عكس الأمازيغية؟ النتيجة أن الأمازيغية لن تكون أبدا، حسب هذا المشروع، هي أيضا لغة رسمية للقضاء، ولو بعد عشرات السنين. وهو ما يعني إعدام ترسيمها المنصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل الخامس. ولهذا فإن رفض النشطاء الأمازيغيين لخمسة عشرة سنة، التي حدّدها المشروع كأقصى مدة للتفعيل النهائي لرسمية الأمازيغية، لا معنى ولا موضوع له، مادام أنه، في حالة تبنّي هذا المشروع بمضمونه الحالي، لن تكون الأمازيغية هي أيضا لغة رسمية، بالمعنى الذي سبق شرحه، سواء استغرقت مدة تفعيل هذا الترسيم سنة أو خمسة عشرة سنة أو خمسة عشر قرنا. عندما يكون "ترسيم" الأمازيغية بمثابة قتل رحيم لها: ولأن مشروع القانون التنظيمي لا يرمي إلى تفعيل الطابع الرسمي الكتابي للأمازيغية، وإنما إلى إعدام ترسيمها، كما سبق أن أوضحنا، فهو لذلك ليس موجّها، في ما يخص الفئة التي تقرر ترسيم الاستعمال الشفوي لصالحها، إلى جميع المغاربة اعتبارا أن الأمازيغية لغة رسمية للدولة، وإنما فقط إلى الناطقين باللغة الأمازيغية. وهكذا، فاستعمالها كلغة رسمية في التقاضي وليس في القضاء يخصّ فقط الناطقين بها حيث يحق لهم، شريطة أن يطلبوا ذلك، استعمال لغتهم الأمازيغية خلال إجراءات التحقيق أو للترافع أو لتقديم شهادة أمام المحكمة (الفقرة 1 من المادة 30)، وسماع النطق بالأحكام باللغة الأمازيغية (الفقرة 3 من المادة 30). وتقول الفقرة السادسة من المادة الثانية: «تنمية وتعزيز قدرات الموارد البشرية العاملة بالإدارات العمومية وبمختلف مؤسسات القطاعين العام والخاص في مجال التواصل باللغة الأمازيغية مع المرتفقين المتحدثين بها». كما تنص المادة 25 على تأهيل الموظفين المعنيين «بما يمكنهم من التواصل باللغة الأمازيغية مع المواطنين المتحدثين بها». واضح أن المشروع لا يرمي إلى تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية «لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية»، كما جاء في الدستور. ذلك أن اللغة الرسمية تعني كل المواطنين، بما فيهم من لا يتحدّثها ولا يتواصل بها، وليست مقصورة على مجموعة دون أخرى. وإذا كان هذا الاختيار دليلا آخر على أن المشروع يحصر "ترسيم" الأمازيغية في جانبها التواصلي الشفوي فقط، ولا يمس استعمالها الكتابي، مما يعني تفعيل طابعها غير الرسمي وإعدام ترسيمها الحقيقي الذي يشترط أولا وأساسا الاستعمال الكتابي، كما سبق أن شرحنا، فإنه ينتج عن ذلك أن هذا "الترسيم"، الشفوي، متوقف على وجود من يستعمل الأمازيغية من المواطنين عند ولوجه إلى المحاكم والإدارات العمومية. وعندما نعرف أن إكراهات عديدة، سياسية واجتماعية ودينية وإيديولوجية وإدارية ومهنية وتعليمية ولغوية...، تدفع العديد من الناطقين بالأمازيغية كلغتهم الفطرية (لغة الأمم) إلى استعمال الدارجة لقضاء أغراضهم بالمحاكم والإدارات العمومية، وذلك حتى في المناطق المعرفة أنها "مناطق أمازيغية"، فبالأحرى بمدن مثل الرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش ووجدة وحتى طنجة...، (عندما نعرف ذلك) سنعرف أن الكثير من الإدارات والمحاكم قد تستغني عن تفعيل هذا الطابع الرسمي التواصلي للأمازيغية، بعلة أنه لم يعد أحد من المرتفقين والمتقاضين يتكلم الأمازيغية عند حضوره إلى الإدارات والمحاكم. يضاف إلى ذلك أن هذا التفعيل، المشروط بتحدّث المواطنين باللغة الأمازيغية، قد لا يكون مطلوبا ولا ضروريا في المناطق المعروفة على أنها مناطق عربوفونية. كل هذا يتنافى طبعا مع مفهوم اللغة الرسمية، التي هي، بالتعريف، لغة تفرضها الدولة على الجميع، بمن فيهم من لا يتحدثونها ولا يعرفونها. وخير دليل على ذلك اللغة العربية التي فرضتها فرنسا ثم دولة الاستقلال كلغة رسمية، دون أن توجد أسرة واحدة في المغرب تستعمل العربية في تواصلها الشفوي اليومي. كما أنها هي لغة رسمية حتى بالنسبة للأميين الذي لا يعرفون قراءتها وكتابتها. وإذا عرفنا أن عدد المتحدثين بالأمازيغية يتناقص ويتراجع بشكل متواصل ومطّرد بسبب الإكراهات التي أشرنا إليها، السياسية والاجتماعية والدينية والإيديولوجية والإدارية والمهنية والتعليمية واللغوية...، إذ لم يعد استعمالها الشفوي قادرا على إعادة إنتاجها بشكل يحافظ على بقائها ويضمن انتقالها عبر الأجيال، (إذا عرفنا ذلك) فسيكون هذا "الترسيم"، المشروط بوجود متحدّثين بالأمازيغية، هو نوع من القتل الرحيم Euthanasie لهذه اللغة، كإجراء "إنساني" و"إحساني" يهيّئها لاستقبال الموت بلا أسى ولا ألم، بعد أن تختفي من التواصل الشفوي للأسباب التي ذكرت. ولهذا فإن تدريسها الإجباري والموحّد لجميع المغاربة، وما ينتج عن ذلك من استعمالها الكتابي الرسمي في مؤسسات الدولة، هو وحده الكفيل بالمحافظة عليها وحمايتها من الموت الذي يتهددها. مشروع قانون طائفي وعرقي: إلا أن الخطير في هذا الترسيم للاستعمال الشفوي للأمازيغية، هو أنه مشروط، كما سبق أن بيّنا، بوجود فئة خاصة من المغاربة، وهم فئة الأمازيغيين الذين لا زالوا يتحدثون بلغتهم الأمازيغية. إنه إذن "ترسيم" فئوي ينطلق من نظرة ضيقة وطائفية، ذات أبعاد عرقية وحتى عنصرية، الشيء الذي يتناقض على طول الخط مع ما تدّعيه المذكّرة التقديمية للمشروع من اعتبار الأمازيغية «آلية لدعم قيم التماسك والتضامن الوطني»، في الوقت الذي اختار فيه هذا المشروع استعمال رسميتها بشكل فئوي وطائفي، ينذر بتفكيك التماسك والتضامن الاجتماعي، ويهدد بتصدّع وحدة الهوية الوطنية المتلاحمة، لأن هذا القانون يخصّ المغاربة الناطقين بالأمازيغية بتمييز طائفي يحيل ضمنيا على "عرق معيّن"، كما قال عن الأمازيغيين أحد المنتمين إلى نفس المرجعية الأمازيغوفوبية التي يغرف منها هذا المشروع (انظر موضوع: "المقرئ الإدريسي أبوزيد أو الأمازيغوفوبيا بلا حدود" ضمن كتاب "في الأمازيغية والنزعة الأمازيغوفوبية"). فعندما يلاحظ المواطن المغربي أن هناك خدمات خاصة بالمتحدثين بالأمازيغية داخل المحاكم والإدارات العمومية، ولا تخصّ غيرهم من المواطنين ولا تعنيهم في شيء، ماذا سيفهم وماذا سيستنتج؟ سيفهم وسيستنتج أن هناك طائفة من المواطنين، من "عرق معيّن"، تستعمل لغتها الخاصة بها، وتختلف عن طائفة ثانية أخرى، من "عرق" آخر، تتحدث لغة أخرى. هكذا سيساهم هذا القانون، في حالة تطبيقه دون أي تعديل لهذه المقتضيات الطائفية والعرقية، إلى ترسيم الطائفية والعرقية، بدل ترسيم الأمازيغية. ولهذا فهذا المشروع هو ضد الدستور الذي يؤكد في التصدير على «صيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية (المملكة)، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية». فأين هو التلاحم والانصهار بين مقومات الهوية الوطنية ومكوّناتها، إذا كانت مؤسسات الدولة، كما يقضي بذلك مشروع القانون التنظيمي، تُفرد للأمازيغيين تعاملا خاصا بهم يميّزهم عن غيرهم من المواطنين؟ أليس هذا التعامل عزلا وفصلا لهم عن باقي المغاربة، وشرخا، بالتالي، لتلاحم مقومات الهوية الوطنية الموحّدة؟ ثم كيف تكون الأمازيغية «رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء»، كما ينص الدستور، في الوقت الذي يجعل منها هذا المشروع رصيدا خاصا بطائفة خاصة، تمييزا لها ك"عرق معيّن"؟ مع أن الداعي إلى إقرار ترسيم الأمازيغية، هو أن تكون لغة لجميع المغاربة، كما يستلزم ذلك مفهوم اللغة الرسمية للدولة حسب ما سبق أن شرحناه، وذلك حتى يكون هذا الترسيم عاملا لصيانة تلاحم مقومات الهوية الوطنية، كما جاء في تصدير الدستور، و«آلية لدعم قيم التماسك والتضامن الوطني»، كما تقول المذكّرة التقديمية للمشروع. وأن تكون الأمازيغية لغة رسمية للدولة، وبالتالي لغة لجميع المغاربة، فذلك ما لا يتحقق إلا بتدريسها الإجباري والموحّد لجميع المغاربة، حتى يشعروا أن هذه اللغة هي أيضا لغتهم مثل العربية، وأن الخدمات التي تقدّمها الإدارات والمحاكم بالأمازيغية هي لفائدة جميع المغاربة، مثل الخدمات التي تقدّمها بالعربية، وليست مقصورة على طائفة خاصة أو "عرق معيّن"، كما أراد المشروع، حسب ما أوضحنا ذلك. هكذا، أي بتدريسها الإجباري الموحّد لجميع المغاربة، واستعمالها الرسمي لفائدة جميع المغاربة بدون استثناء، تكون الأمازيغية عامل وحدة وتماسك، وفاعلا في صيانة وحدة الهوية الوطنية وتعزيز التماسك الاجتماعي والوطني. هذا المشروع هو إذن ضد الدستور، وضد الأمازيغية، وضد وحدة الهوية الوطنية. وهنا يجدر الانتباه إلى أن الاستعمار، إذا كان قد حاول استغلال ما كان يعتبره اختلافا بين العرب والأمازيغ لضرب وحدة الهوية الوطنية للمغاربة، فإن مشروع القانون التنظيمي يخلق هو نفسه هذا الاختلاف عندما يفرّق، بالطريقة التي تبنّاها لتفعيل ما اعتبره ترسيما للأمازيغية بالإدارات والمحاكم، بين الناطقين بالأمازيغية كمعنيين وحدهم بهذه اللغة، وبين غير الناطقين بها المتحدثين بالدارجة، الذين لا يشملهم تفعيل هذا الترسيم للأمازيغية. بل يمكن القول إن "الحركة الوطنية"، إذا كانت قد اختلقت أسطورة "الظهير البربري" بادعاء أنه يرمي إلى زرع الفرقة والفصل العنصري بين العرب والأمازيغ، فإن أصحاب المشروع يزرعون، رسميا وقانونيا، هذه الفرقة وهذا الفصل، عندما جعلوا "ترسيم" الأمازيغية بالمحاكم والإدارات العمومية، مقصورا على طائفة خاصة و"عرق معيّن"، مفترق ومنفصل عن الطائفة الأخرى من المغاربة، المشكلين "لعرق آخر"، لا يعنيه ترسيم الأمازيغية من قريب ولا من بعيد. إنه مشروع يستحثنا على قراءة "اللطيف"، طلبا لوقفه وإلغائه، وعياذا من التفرقة والعرقية اللتين يؤدّي إليهما تطبيقه. الغائب الأكبر: هذه الطائفية والعرقية اللتان يتضمنهما مشروع القانون التنظيمي، هما نتيجة منطقية لحصر ترسيم الأمازيغية، داخل المحاكم والإدارات العمومية، في الاستعمال الشفوي لهذه اللغة من طرف فئة المتحدثين بها دون غيرهم من المغاربة. في حين أن المشروع كان سيتجنّب هذا التوجه الطائفي والعرقي لو التزم بالتعريف الحقيقي والسليم للغة الرسمية للدولة، والذي يشترط حتى تكون لغة ما لغة رسمية للدولة أن تكون، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لغة الاستعمال الكتابي الموحد لجميع مؤسسات الدولة ووثائقها الرسمية، وأن تكون لغة جميع مواطني هذه الدولة وليس فقط طائفة منهم. هذه اللغة الرسمية، عندما تكون لغة مؤسسات الدولة ووثائقها الرسمية، فذلك يعني أن موظفي هذه الدولة ومسؤوليها العموميين الممثلين لها، يشتغلون بهذه اللغة، أي بها يحررون ويقرأون الوثائق الرسمية. وهو ما يعني كذلك أن هؤلاء الموظّفين والمسؤولين العموميين سبق لهم أن درسوا هذه اللغة لمدة كافية وضرورية لأن تجعلهم متمكّنين من استعمالها الكتابي الموحَّد، ومؤهّلين لقراءة وكتابة مختلف الوثائق الرسمية بهذه اللغة، وفي جميع مناطق وجهات الوطن حيث يمكن تعيينهم للعمل هناك. كل هذا يبيّن أن الشرطين الأولين اللذيْن يجعلان من لغة ما لغة رسمية، هو استعمالها الكتابي والموحّد (الكتابة والتوحيد). وهو ما يتطلب تدريسها لتعليم هذا الاستعمال الكتابي الموحّد، كما هو شأن كل لغات العالم التي تُستعمل كلغات كتابية ورسمية. هذا التدريس للأمازيغية كلغة كتابية وموحّدة، حتى تقوم بوظيفتها مستقبلا كلغة رسمية للدولة بالمعنى الذي شرحنا، هو الغائب الأول والأكبر في مشروع القانون التنظيمي. وغيابه شيء منطقي ومفهوم، لأن هذا القانون يفهم ويحصر ترسيم الأمازيغية في ما سماه التواصل، بمدلوله الذي يعني الاستعمال الشفوي لا غير (المذكرة التقديمية للمشروع، التي تقول: «ويهدف هذا القانون التنظيمي إلى تعزيز التواصل باللغة الأمازيغية في مختلف المجالات العامة ذات الأولوية، باعتبارها لغة رسمية للدولة») والذي يهم، كما سبق شرح ذلك، فئة المتحدثين بالأمازيغية فقط ولا يشمل غيرهم ، ولا يدخل في ذلك إذن استعمالها الكتابي كلغة لمؤسسات الدولة ووثائقها الرسمية. وهذا ما يبيّن، بشكل جلي، أن الغاية من المشروع هي، كما سبقت الإشارة، ترسيم الطابع غير الرسمي للأمازيغية بصفتها لغة تواصل شفوي لفئة محدودة من المواطنين، وهو ما يعني إعدام ترسيمها الحقيقي، الذي يتوقف على الاستعمال الكتابي. يضاف إلى ذلك أن الفقرة الثانية من المادة الأولى توضّح أن الأمازيغية المعنية في هذا القانون هي «مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب، وكذا المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة». وهو ما ينسجم تماما مع تفعيل الطابع غير الرسمي للأمازيغية حتى تبقى لغة لهجية تختلف من منطقة إلى أخرى، وهو ما لا يمكن أن ترقى معه إلى وضع لغة رسمية من شروطها أن تكون موحدة ومعيارية. ولنلاحظ التكامل بين تفعيل الطابع التواصلي، أي الشفوي، للأمازيغية والتعامل معها كتعبيرات لسانية متداولة بمختلف مناطق المغرب. فكلتا الحالتين التواصل الشفوي والتعبيرات اللهجية تنفيان الطابع الرسمي للأمازيغية، الذي يشترط الكتابة، التي يتوقف تعلمها وإتقانها على تدريس الأمازيغية، الذي من شروطه التوحيد والمعيرة التي لا تتحقق إلا بالمدرسة. كل هذا يبيّن ويعني في النهاية أن اللغة الرسمية الوحيدة، حسب هذا القانون، تبقى هي العربية. وهو ما يؤكد ما قلناه من أن أصحاب المشروع حرروه استنادا فقط إلى الفقرة الأولى من الفصل الخامس، مهملين الفقرة الثالثة منه، الخاصة بترسيم الأمازيغية. ولهذا تعاملوا مع هذه الأخيرة على أنها لن تكون هي أيضا لغة رسمية للدولة، وهو ما يخالف، بل يلغي ويعطّل، الفقرة الثالثة من الدستور، كما سبقت الإشارة. فكل ما يمنحه هذا المشروع للأمازيغية، كمظهر كتابي رسمي لها، هو استعمالها الخارجي الديكوري والرمزي من خلال تثبيت حروفها على النقود والأوراق المالية ومجموعة من البطائق والشواهد، وهو ما لا علاقة له، رغم أهميته الرمزية، بتحرير مختلف الوثائق الرسمية للدولة بالأمازيغية، بما فيها الأحكام القضائية، كما سبق أن ناقشنا ذلك. وهذا الغياب لتدريس إجباري وموحد الأمازيغية، يجعل ما تنص عليه المادة 23 من إصدار السلطات الحكومية والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية وسائر المرافق العمومية لوثائق وشواهد بالأمازيغية لمن يطلبها ضحكا على الذقون. لماذا؟ أولا، من هو هذا المواطن الذي سيطلب وثيقة إدارية محررة بالأمازيغية وهو لم يدرس اللغة الأمازيغية ولا يعرف قراءتها ولا كتابتها؟ ثم وهذا هو بيت القصيد من هو هذا الموظف الذي سيحرر شواهد باللغة الأمازيغية إن لم يكن متمكنا من الاستعمال الكتابي للغة الأمازيغية، وهو ما يفترض أن هذا الموظّف قد درس الأمازيغية كلغة كتابية، مدرسية وموحّدة، لمدة كافية لأن تجعله قادرا على تحرير وثائق إدارية رسمية بها. فالتدريس الإجباري والموحّد والجدّي للأمازيغية كلغة كتابية، هو ما سيمكّنها، مع الوقت، أن تحقق دورة Cycle إعادة إنتاج نفسها كلغة كتابية، تنتقل من جيل إلى جيل بفضل المدرسة والكتابة، وهو ما لن تعود معه مهددة بالموت بسبب اقتصار استعمالها على الكلام الشفوي الذي يتناقص جيلا بعد جيل، مهددا بزوالها وانقراضها عندما لن يكون هناك من يتكلّمها، كما سبق أن شرحنا ذلك. وإعادة إنتاج الأمازيغية لنفسها كلغة كتابية، سيؤدّي إلى انتشار استعمالها الكتابي، مع ما يعنيه ذلك من توفر المنشورات والوثائق الإدارية والرسمية المحررة بالأمازيغية. وهذا ما سيساهم في خلق طلب اجتماعي على الأمازيغية يجعل المواطنين يطلبون المنشورات والوثائق المكتوبة بها، لأنها تصبح ذات قيمة "نفعية" مثلها مثل المنشورات والوثائق المكتوبة بالعربية أو الفرنسية. فخلق هذا الطلب الاجتماعي على الأمازيغية شرط لانتشار استعمالها وتوظيفها الكتابي، ويساهم بالتالي في تحقيق دورة إعادة إنتاج نفسها كلغة كتابية، كما قلت. ولا يمكن أن يكون هناك طلب اجتماعي على الأمازيغية إلا بإرادة سياسية تعمل، بصدق وجدية، على أن تكون الأمازيغية هي أيضا لغة رسمية للدولة. وليس هناك من تدخّل سياسي إرادي لخلق طلب اجتماعي على الأمازيغية، مثل التنصيص على شرط إتقان الاستعمال الكتابي لهذه اللغة لشغل المناصب العمومية (الوظيفة العمومية)، بعد مدة معقولة من انطلاق عملية التدريس الإجباري لها، والتي يمكن تقديرها بخمس عشرة سنة أو أكثر، حتى يخصّ هذا الشرط فقط المتخرجين الجدد الذين يكونون متمكّنين من الاستعمال الكتابي للأمازيغية بعد أن يكونوا قد درسوها لأكثر من خمس عشرة سنة. وهذا الشرط يدخل في تعريف اللغة الرسمية، إذ لا يُعقل أن موظفا يمثّل الدولة في الإدارات العمومية التي يشتغل بها، وهو يجهل لغة هذه الدولة، فضلا على أنه (الشرط) يحفّز ويشجّع على تعلمها وإتقانها، لربطها بالمهام العمومية. وأين «كيفيات إدماجها في مجال التعليم»؟ (يُتبع)