'كم يحزن المرء أن يكون شريفاً دون مقابل'(الشاعر الروماني أوفيد) وبما أنه "لاكرامة لنبي في وطنه"، فلا كرامة أيضا لشريف في وطنه، خاصة إذا كان هذا الشريف إنسان يصدع بقول الحق، لا يأبه في ذلك لومة لائم. تلك هي حال المهندس أحمد ابن الصديق، أحد ضحايا الفساد وشهوده أيضا، وعلى أعلى مستوى. رفض ومازال يرفض السكوت عن الظلم الذي تعرض له، والذي جعله يكتشف بدواخله رجل مبادئ يرفع لواء الدفاع عن الحق ويستنكر الظلم، حاملا قلمه مثل لواء يرفض صاحبه أن يمرغه في التراب. هذه الشهادة من كاتب أردني هو مروان العياصرة، عن فارس يأبى أن يترجل، ذاع صيت معركته ضد الفساد حتى عاد إلينا صداها في هذه المقالة من الأردن. --- قبل ثلاثة وأربعين عاماً قبل الميلاد قال (أوفيد) الشاعر الروماني: "كم يحزن المرء أن يكون شريفاً دون مقاب". وكأن الزمان هو الزمان حين يكون الفرد محكوما عليه سلفاً بأنه متهم بالحياة وبالكرامة، لذا عملت السلطات على إدانته وعقابه وحصاره أيضا، نعم، كم يحزن المرء أن يكون شريفا دون مقابل، ولكن أحمد بن الصديق كان يؤمن أكثر بما قاله ذات يوم توماس كاريل بأن السؤال الحقيقي في كل مجالات الحياة ليس هو ما نربحه، ولكن ما نفعله، أحمد بن الصديق، المعارض المغربي الأول، المحاصر والمتهم دون تهمة، والمدان بمشاغبة السلطة والذي يقضي سنوات عمره مسجونا خارج القضبان.. لا نستغرب هذا، فإن السلطة المستبدة التي استمرأت انحناء الناس وركوعها أمامها وتقبيل يدها تستطيع أن تحول الحياة كلها إلى سجن كبير، وتستطيع أن تدخل مدينة كاملة في ثقب إبرة. في عالمنا العربي وحده يولد الفرد متهما حتى لا تثبت براءته، لهذا مارست السلطات قسوتها واستبدادها وحصارها، فالعربي محاصر بقوت يومه، ووظيفته، وهو المجني عليه دائما، ولقد لقنه علماء السلطان درسه الديني الأول (أن تكون مظلوماً خير لك من أن تكون ظالماً)، خاصة إذا كانت السلطة صاحبة خصوصية دينية، ولهذا، بقينا على هذه الفكرة المسطحة من المظلومية زمنا عربيا مليئا بالخيبات والفقر والألم، حتى خرج البوعزيزي عن الطور وشب عن الطوق، وأعلن أننا كل يوم كنا نحترق من أجل أن نموت، واليوم صار لزاما أن نحترق من أجل أن نحيا، تماما كما هو حال أحمد بن الصديق الذي تدفعه السلطة كل يوم لإحتراقات داخلية كثيرة، ولأنني أعرفه عن قرب رغم ما بيننا من مسافات حدودية عربية كثيرة، فهو يعيش اليوم حالة من الحصار القاسي واللاأخلاقي حين يترك نهباً للتجويع والتضييق والخذلان، وكل جريمته أنه حين كان مديرا عاما لمؤسسة طبية للاستشفاء بالمياه المعدنية قريبة من مدينة فاس عمل على تطويرها علميا، ثم مديرا عاما لمشروع (فاس 1200 سنة) اكتشف كما في كل بلاد العرب، أن المشروعات الكبيرة كقطعة السكر تجلب الحشرات المتطفلة من كل صوب، فتحول المشروع لدى البعض إلى وسيلة تكسُّب، وأبان عن لصوصية ممن هم في مقام الحكم، وخيانة ممن هم في مقام السلطة، وحين كشف الغطاء عن مثل هذا رموه بالخيانة والجرأة على مقام الملك، وهو الذي التقى الملك وحدثه بصراحة دون تملق، ثم بعث برسالة له يخبره فيها حقيقة ما جرى من تعدٍ على الحق وجور على الحقيقة وتهديد حياة المواطنين، ولما لم يستقم الأمر معه في غاية الإصلاح وتحقيق العدالة، واجه استبداد السلطة بصدر أعزل، وبقي يمارس تعرية وزيف مؤسسة الحكم وفسادها، وحين قال له أحد كبار المستشارين الملكيين بأن الملك لا يحب الظلم ولكن يصعب عليه إنصافك إن ظلمك أحد الطغاة المحيطين به، فقد قرر خلع البيعة، وكتب للملك (لقد يئست من عدلكم، فالآن أخلع بيعتكم). قصة المهندس أحمد بن الصديق مع (مسامير المائدة الملكية) ليست قصة مغربية، ولكنها أيضا قصة أردنية بإمتياز، سورية بإمتياز، جزائرية بإمتياز.. وفوق هذا فهي رواية واقعية عربية بإمتياز أيضا، أحداثها ممتدة، وشخصيات أبطالها متوارثة، فلم يكن ابن الصديق سوى مثالا على ( حصار المحاصر )، فالفرد العربي المحاصر بالفقر والفاقة والظلم والقمع، محاصر بالإدانة كلما رفع رأسه، أو أدار لسانه برأي، ولكنه أيضا دافع عن نفسه الحصارَ بالحصار، كما قال الراحل درويش ذات قصيدة ( حاصر حصارك لا مفر). كان ولا يزال ابن الصديق يلتزم برأي الثوري، أقصد سفيان الثوري حين قال ثلاثة من الصبر، لا تحدث بمصيبتك ولا بوجعك، ولا تُزكّ نفسك، فصبر حتى مله الصبر، ومثله من أبناء الأمة من لم يُحدّث بوجع أو مصيبة، حتى تعدت حدود المصيبة الفرد إلى المجتمع بحجة الدولة والملك والسلطان، وبحجة الدين أيضا، إذ ان الدين في العرف المغربي والعربي عموما وفي دساتير الملوك والحكام، قديمها و جديدها، في كتاب ميكافيلي ( الأمير)، ضرورة للحكومات لا لخدمة الفضيلة، وإنما لتمكينها من السيطرة على الناس، وهذا سر معارضة ابن الصديق لسياسات الدولة التي سخرت مقوماتها المادية والمعنوية لخدمة السلطان ومنتفعي السلطة ممن هم مسامير الموائد الملكية وأرجل كراسي الحكم. ألم نفاجأ برئيس الحكومة المغربي (وهو يعرف معاناة ابن الصديق بالتفصيل) وهو يصرح على قناة الجزيرة أن المغرب إما يكون بالملكية أو لا يكون؟ ألم يصرخ بملء فيه ضد الفساد والاستبداد قبل حصوله على المنصب فإذا به بعد ذلك يتودد لنفس المسامير ويعتذر لهم ويعفو عن المفسدين ويتراجع أمام العفاريت ؟. المحارب في زمن الإمبراطورية البريطانية العظمى في الفيلم الأمريكي وقف على شواهد قبور رفاقه وقال: لقد قضيت عمري في خدمة التاج الامبراطوري، والآن لم يعد لدي شيء لأقدمه، ولم يعد لدي شيء لأخسره أيضا.. وهذا المحارب المغربي يقف على شواهد محطات القمع والتعذيب المعنوي التي تعرض لها، ليقول: لم يعد لدي ما أخسره، لكن لدي ما يجب أن أربحه كجزء من هذا الشعب الذي وعى أنه صار فقيرا بالمجان، وصار ظهرا لمن ظهورهم لا تحسن الانحناء أيضا بالمجان. ربما يقول قائل لماذا كاتب من الشرق العربي يكتب عن مظلوم من المغرب، ربما لأن الظلم واحد، ولكن بالتأكيد لأن الظلم في مكان ما هو تهديد للعدل في كل مكان كما قال ذلك يوما مارتن لوثر كنج. --- * كاتب اردني المصدر: القدس العربي