خلال هذا الأسبوع تمر سنة على استقالة المبعوث الاممي الخاص بالصحراء، إذ أعلن عن استقالته في 22 ماي من السنة الماضية بشكل مفاجئ وغير متوقع، استقالة جاءت في الوقت الذي كان ينتظر فيه تحديد موعد لعقد الطاولة المستديرة الثالثة بعدما تمكن من جمع الأطراف الأربعة (المغرب، الجزائر، موريتانيا، البوليساريو) خلال جولتين سابقتين في جنيف، الأولى في دجنبر 2018 والثانية في مارس 2019. المبعوث كولر تم تعينه في يونيو 2017، لكن، بعد أقل من عامين(18 شهر) كانت كافية ليعلن عن استقالته بعد دينامية ملفتة وزخم كبير عرفه الملف في عهده، إذ ارتكزت إستراتيجيته على ثنائية "الضغط والحشد"، تمثلت بالأساس عبر مستويين، الأول، محاولة الضغط على الأطراف، حيث مورس هذا الضغط بشكل كبير على المغرب من خلال تغيير مضمون ثلاث قرارات في عهده (2414 و2440 و2468)، من خلال اعتماد التمديد نصف السنوي بدل السنوي الذي ظل معتمدا منذ بداية مسار التسوية الاممي، ولم يتم العودة إلى التمديد السنوي من طرف مجلس الأمن إلا بعد استقالته ضمن القرار الأخير 2494 الصادر في أكتوبر من السنة الماضية. أما على المستوى الثاني، فقد اعتمد كولر على آلية الحشد والاختراق، بغية خلق إطارات موازية للأمم المتحدة ومجلس الأمن، محاولا بذلك إحداث انزياح مؤسساتي للخروج عن التوازنات الجيوبولتيكية الكلاسيكية المتصلة بالدول الخمسة الكبار، والانتقال إلى توازنات شمالية/جنوبية تكون فيها أوربا جيوبولتيكيا أكثر قوة، لاسيما وأن ألمانيا تعتبر القوة الاقتصادية الأوربية الأولى، مقابل فرنسا التي تمثل القوة العسكرية النووية الأوربية الأولى. وقد ارتكزت هذه الآلية على محاولة إيجاد إسناد إقليمي ودعامات خارج إطار مجلس الأمن، من خلال توسيع دائرة التشاور، وإشراك فاعلين إقليميين ودوليين خاصة الاتحادين الأوربي والإفريقي. لكن سيظهر فيما بعد، رغم رحيل كولر، أن تصوره لإدارة ملف النزاع، لا يزال قائما، حيث عبر الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الذي قدمه في أكتوبر من السنة الماضية لمجلس الأمن، عن أمله على الحفاظ على الزخم السياسي رغم عدم وجود مبعوث خاص مكلف بالملف. نفس الاتجاه، صار عليه رئيس بعثة المينورسو ستيوارت ضمن الإحاطة التي قدمها في التاسع من أبريل الماضي أمام مجلس الأمن، من خلال التأكيد على ضرورة عقد الطاولات المستديرة بين أطراف النزاع. سيناريو الاستقالة لم يكن متوقعا بالنظر إلى بروفايل وتجربة وخبرة هذا الرجل، حيث يجر وزرائه مسار طويل، إذ شغل منصب رئيس ألمانيا، وكان يلقب بكبير المفاوضين في مفاوضات ماسترخت، المتعلقة بتوحيد العملة الأوروبية الموحدة، كما أشرف وخاض مفاوضات مع حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية بشأن توحيد عملة ألمانيا، بالإضافة كذلك، إلى قيادته المفاوضات مع روسيا لسحب قواتها من جمهورية ألمانيا الديمقراطية. إن فشل المبعوثون الامميون الخاصين بالصحراء صار أمرا عاريا وروتينيا منذ أن دخل هذا الملف مسار التسوية الأممي سنة 1991، وذلك بالنظر إلى تعقيدات وصعوبات هذا المسار السياسي الذي بات خاضعا لتقلبات موازين القوى داخل مجلس الأمن، بالإضافة إلى تشبث خصوم المغرب بمطالب وشعارات باتت متجاوزة وغير واقعية تجتر من رواسب الماضي وذكريات الحرب الباردة، كرفع شعار الاستفتاء ومحاولة ربطه بشكل متعسف وطوباوي بمبدأ تقرير المصير. لكن، الملفت في حالة استقالة المبعوث كولر، أنه مرت سنة كاملة دون تعيين أو إيجاد بديل. وبقاء هذا المنصب شاغرا طوال هذه الفترة، لربما يناقض الدينامية التي عرفها ملف النزاع طيلة السنتين الماضيتين خلال مهمة كولر، حيث كان الملف في تلك الفترة مطروحا بشكل مكثف على طاولة مجلس الأمن بطريقة تكاد تكون دورية وتعطي الانطباع بأنه بات ملفا أساسيا على أجندة مجلس الأمن. تعقيدات ملف الصحراء إقليميا ودوليا، وتعنت الأطراف التي ما تزال تتشبث بمواقف تناقض الواقع والحقائق الموجودة على الأرض، ما كان ليساعد المبعوثين السابقين على تقريب وجهات النظر، حيث ظلت مهمتهم استقصائية وشكلية في بعض الأحيان، وذات طابع إخباري روتيني أحيانا أخرى. و لم يعد ممكنا رفع إيقاع مسار التسوية السياسية وإحداث اختراق في ظل جمود المواقف، وصارت تبعا لذلك، مهمة المبعوثين تتقاطع مع مهمة طاقم المينورسو في الحرص على تتبع ومراقبة وقف إطلاق النار وتقديم إحاطات وتقارير دورية لمجلس الأمن على سيبل الإخبار والاستئناس. ليس مهما بعد سنة الخوض في أسباب استقالة كولر وإن كانت غلفت بدواعي صحية لم تقنع حتى الأمين العام للأمم المتحدة، لكن، المرجح أن الإدارة الأمريكية لم تعد ترغب في مسايرة الإيقاع والنهج المعتمدين منذ مجيئه، لاسيما وأن هذا المبعوث بحكم فطنته وذكائه وخبرته ونزعته البراغماتية، يعي جيدا أن عدم وجود دعم أمريكي لتحركاته يعتبر مضيعة للوقت أو الدوران في حلقة مفرغة مثل سابقيه. غير أن المثير في عدم تعين مبعوث جديد طيلة سنة، هو المسار الجديد الذي دخله الملف، حيث لم يعد مدرجا على أجندة مجلس الأمس بنفس الاهتمام كما السابق، وهو الأمر الذي يؤشر على وجود نوع من الفتور وعدم الاهتمام على مستوى تعاطي القوى الكبرى مع مسار التسوية السياسية. مسار جديد دخله ملف النزاع، عنوانه الجمود والتهميش وانحسار وتوقف مسار التسوية الأممي، وهو ما يطرح علامات استفهام حول خلفيات هذا الوضع، ومن المستفيد من حالة الجمود هاته، لاسيما وأن الطرفين، المغرب والجزائر تعاملا بشكل مختلف مع الوضعية الراهنة. فالمغرب طيلة هذه السنة لم يصدر عنه أي موقف معلن بخصوص عدم تعيين مبعوث جديد، وهو سلوك يبدو ويستشف منه أنه مرتاح لهذا الوضع، بعكس الجزائر والبوليساريو، حيث مافتئت الجارة الشرقية باعتبارها الحاضنة وصاحبة مشروع الانفصال، أن تطالب وتندد بتأخر تعيين مبعوث لشغل هذا المنصب الشاغر، حيث لا تفوت الجزائر الفرصة في أية مناسبة دون أن تطالب بضرورة تدارك هذا الفراغ الذي تعتبره يهدد وقف إطلاق النار والمنطقة. إن شغور منصب المبعوث الشخصي للامين العام للأمم المتحدة، دفع الجزائر رفقة البوليساريو إلى توجيه مراسلات متعددة مطالبتين بتعيين مبعوث جديد بشكل مستعجل، كما أن اللقاءات الدبلوماسية الجزائرية لم تخلو بدورها من هذا " المطلب الملح ولاستعجالي" سواء في الكواليس أو في العلن، كان آخرها اللقاء الذي جمع وزير الخارجية بوقادوم مع نظيرته الاسبانية في شهر مارس الماضي، حيث قال بلهجة مليئة بالحسرة والإحباط أن " المشاكل تتراكم والاتهامات يمكن أن تنبت من هذا الوضع، على الأمين العام أن يعين مبعوثا في أقرب وقت". الموقف والإصرار الجزائري يمكن فهمه أو تفهمه بالنظر إلى حالة الاحتقان والانفلات السائدتين في مخيمات تندوف، لاسيما وأن حالة الجمود باتت تنذر بوقوع تمرد وشيك داخل المخيمات، خاصة وأن مسار التسوية الأممي قبل توقفه، كان يوظف كورقة و"مسكن" ظرفي لإيهام صحراويي المخيمات بأن الاستفتاء لا يزال خيارا قائما، بغية كسب الوقت ولامتصاص مظاهر الغضب والسخط واليأس المستشرية في تلك الأوساط . أما عدم استعجال تعيين مبعوث جديد من طرف مجلس الأمن، فمن المحتمل أن يكون مرتبط بثلاث خلفيات أساسية، الأولى، تناقض وتعارض وعدم توافق الدول الكبرى على شخصية جديدة لتشغل منصب المبعوث الشخصي، الثانية، لكون ملف الصحراء بات ثانويا على أجندة مجلس الأمن في ظل اشتعال بؤر جديدة(الملفين الليبي والسوري..)، لاسيما وأن مسار التسوية الأممي بشعاراته ومحدداته السابقة لم يعد بساعد ولا يصلح لإيجاد حل واقعي. أما الخلفية الثالثة، فترتبط ربما بحرب لوبيات ومواقع داخل أمريكا، والتي يخوضها المغرب والجزائر بشكل روتيني، حيث أن اتساع نفوذ طرف يكون عادة على حساب الطرف الأخرى، وهي معادلة تعكس بشكل أو آخر طبيعة المواقف واتجاهات المصالح وقوة التأثير داخل دوائر صناعة القرار في البيت الأبيض. إن استمرار الوضع الراهن، من المتوقع أن يدفع الجزائر إلى الضغط بشكل أكبر في مرحلة لأولى، ومن الممكن أن تستعين في ضغطها بلوبيات بعض الأطراف الخليجية داخل أمريكا في إطار المساومات حول الملف الليبي، وفي مرحلة ثانية، يظل سيناريو محاولة جر المنطقة للمواجهة العسكرية قائما، وذلك من خلال دفع مليشيات البوليساريو للكركرات أو المناطق العازلة أو التهديد بالعودة إلى السلاح. وفي الأخير، إن عدم تعيين مبعوث جديد في ظل الشرخ الموجود داخل مجلس الأمن، يشكل فرصة مواتية للمغرب، من أجل المطالبة بضرورة إجراء تقييمات موضوعية لمهمة المبعوثون الامميون، تنطلق من محددات أكثر واقعية مضمونا (تجاوز مطلب الاستفتاء) وشكلا(تحديد طرفي النزاع، المغرب والجزائر)، فموجب ميثاق الأممالمتحدة، يجوز لمجلس الأمن التدخل في إطار تتبع بعض الملفات أن يضع مبادئ جديدة من أجل تسوية سلمية. خاصة بعد فشل وإخفاق سبعة مبعوثين منذ بداية المسار الاممي سنة 1991، أي منذ أول مبعوث جوهانس مانس إلى استقالة كولر، لاسيما وأن مهمة هؤلاء ظلت مسيجة ومؤطرة وفق أدبيات كلاسيكية ومقومات باتت متجاوزة قانونيا وواقعيا. وهو ما أفضى إلى الفشل المحسوم مسبقا، إذا ما حاول المبعوث الخروج عن ما هو سائد على المستوى الدعائي/التداولي/الشعاراتي، حيث يتهم ويصير المبعوث "منحازا" في حالة ما أراد أن يؤسس وساطته وفق أسس واقعية ومنطقية. بالمقابل، تحول بعض المبعوثين إلى موظفين دبلوماسيين يمثلون مصالح ومواقف بلدانهم تجاه ملف النزاع، أكثر من بحثهم عن حلا يرضي الأطراف، وهو الأمر الذي لم يفطن له المغرب إلا متأخرا، عندما سمح بتعيين كولر، وذلك بالنظر إلى المصالح الكبرى التي تربط بلاده ألمانيا مع الجزائر، هذه الأخيرة التي على ما يبدو أنها حريصة على عدم تعيين مبعوث فرنسيا، وهو ما يؤكده خلو لائحة المبعوثين(السبعة) الذين تعاقبوا على الملف من أي اسم فرنسي. أستاذ العلوم السياسية، جامعة القاضي عياض