يقول المتنبي في عِيشةِ الذلّ وتمني الموت : كَفَى بك دَاءً أن ترى المَوتَ شافِياً *** وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا إِذا كُنتَ تَرضى أَن تَعيشَ بِذِلَّةٍ *** فَلا تَستَعِدَّنَّ الحُسامَ اليَمانِيا حينما يُصبحُ الموت شفاءً من العيش مذلولاً، وحينما تصبح طالباً الموت بدل تقديم طلب تشغيل لدى عباس الفاسي، وحينما تشتد إختلاسات هذا الوطن من كُل صوب. حينما تلتف عائلاتٌ حول عُنق الوطن كالجراثيم لخنقِهِ، فيكون أنذاك الموت أمنية المُتمني للرحيل والنجاة. لقد إحترق البوعزيزي يأساً وألماًً وفي المقابل تنفست تونس حريةً وأملاً. وقبلهُ إحترقت أمال ثلاثون ألفاً من الشباب المغربي على يد عباس الفاسي وفي المقابل، ترقى إلى وزير أول. لقد فكر البوعزيزي وإقتنع، فآختارته الموت ليكون قُرباناً للحرية بتونس وآحترق لعل شباب تونس ينعم بحال أفضل. ولم ينتظر أحداً لأن يُسمِعَهُ بيتاً للمتنبي وهو يقول : إذا لم يكن من المَوتِ بُدٌ فمِن العَارِ أن تموت جباناً. ولم يقرا بيتاً لشاعر مُتصوف إحترق هو أيضاً إسمه "الحلاج"، قائلا لمُعذبيه الذين إتهموه بالإلحاد : أقتلوني يا ثقاتي إن في موتي حياتي. عندما يُصبح خبز الشعير مذموماً لِرَبطهِ بالفقر في الوقت الذي يصِيرُ فيه نفس الخبز مطلوباً من الجميع لفوائده. حينما يثور الثور الهائج وسط الحلبة ولا يعترف بأحد وإن كان مُروضهُ. حينما يَصِيحُ عُملاء طاغية مِصر بالأزهر فيُحَرمُون الإحتجاج حرقاً ولا يقدمون بديلاً لاقتلاع الطغاة. حينما تكون الأنظمة الجبانة أسُوداً على شعوبها المقهورة، فيما هي نعامات في الحُروبِ. حينما تستعين الأنظمة الطاغية بأزلام الطغيان لحكم الشعوب، بينما تستحق أن تدرس سيرتها الذاتية بالجامعات كرموز للفشل بتلك الأوطان. حينما يجتهدُ ساسة البلدان التي تحترم نفسها لرفع دخل الفرد من أبناء الشعب، بينما ساسة بلداننا لا تدخرُ جُهداً لرفع ثروة بضعة أفراد. حينما يقول المتنبي لحاكمٍ : يا أَعدَلَ الناسِ إِلاَّ في مُعامَلَتي *** فيكَ الخِصامُ وأَنتَ الخَصْمُ والحَكَمُ حين ينطق سياسيو الأحزاب النكِرة شعراً لِقهر ثورة الشعوب : أنا في السياسة نذلٌ خِسّيس *** أحب اللألئ أهوى النفيس وأعشقُ مادُمْتُ لَعْقَ النِِّعَالِ *** وَبِذُلّ الكرامةِ حتَّى أَسُودْ حريصٌ على الاختلاس مادمتُ حيَّا *** وحَقِّ الملايينِ ألاّ يَعُودْ حين يصير شعرُ الحَماسَة في الموت لأجل الكرامة مَبدءاً للشعوب، وحين تكون دواوين المتنبي والشابي مرجعاً لها. حين تهون الحياة وتضيق السنين بتواجد أمثال عباس، فيُصبحُ طَعْمُ الموت في أمرٍ حقير سَيّانَ كالموتِ في أمرٍ عظيم. حين يُعاقب شعب عظيم ببلدٍ إسمه المغرب بتسليط وزير أول مَاكِر، حينها يكُون هذا الشعب قد أدى ثمن وَفائِهِ. من يستطيع مُجرد التفكير أن مُواطناً بَسيطاً أطاح بدكتاتور عنِيد إسمه بن علي؟ من كان ينوي يوماً أن الدكتاتورية التي ضربت عروقها عميقاً بتونس منذُ أعوام ستنهار أمام ثورة لم تدم غير بضعة أيام؟ من كان يعتقد أن بن علي وقبله صدام ستنتهي قصص حكمهم الفرعونية بالمهانة، الأول على أيدي الإحتلال والثاني عبر سواعد البُسطاء من الشعب؟ كيف لمن كان يُستقبل إستقبال الرؤساء وتصطف لقدومه فرق قوات الشرف ويُبسط لهبوطه اللون الأحمر في المطارات، وفي الأخير يرفض الجميع إستقباله وحتى "أم الدنيا" رفضت أحد أبنائها والطغاة أمثاله أصبحت هواتفهم لا ترن وفرنسا البرغماتية تنكرت له وجمّدت ودائعه لديها ليُترك الرئيس في السماء تائهاً مُطالباً إذناً بالمرور فوق سُحب بلدان جارة يحكمها أصدقائه الطغاة؟ حتى طاغية طُغاة إفريقيا لم يعرض إستقبال صديقه في الطغيان، وبدل ذلك بدأ يمتدح "صديقه" ويتحسر على هروبه متوعداً شعب الحرية بأوخم العواقب على طرد الرئيس "الأصلح" لتونس. وفي إنتظار سقوط طغاة جُدُد، لا أحد يعلم الطريقة لكن لا أحد سينكر حتمية ذلك. فرغم أن الإحتجاج بجعل الجسد (شواءً) لم يُعطي بعد أكله بقطف رؤوس الطغيان بالجزائر ومصر وموريطانيا، إلا أنه سيبقى طريقة البُسطاء في إسقاط الظلم والتعبير عنه. فكما أصبح تاريخاً رمي أحد الشبان العراقيين للمجرم جورج بوش بحذائه، دخل الشاب البوعزيزي تاريخ النضال في المغرب الكبير من أبوابه الواسعة، في آنتظار إبتكار أسلوب جديد لإسقاط طاغية أو طغاة جدد. على الطغاة المتبقين أن يتعلموا ويعلمُوا أن شعوبهم تكرهُهُم ولا أحد يُكن لهم قطرة حُب، لسبب بسيط، أنهم يُمارسون التسلط عوض السلطة، وسيجدُون أنفسهم مَرمِيُون كسابقيهم بمجرد الإطاحة بهم ولا أحد سينظر إليهم بعين الرحمة آنذاك، فما عليهم سوى الإستقالة والخروج بقليل من الكرامة قبل فقدانها كاملة كما حصل مع الطاغية بن علي. على الطغاة المتبقين أن يجهروا بظلمهم للشعوب ويطلبوا مِنها الصفح قبل فوات الأوان، لأنها مئواهُم وملاذهُم الوحيد القادر على حِمَايتهم قبل أن يُطردوا كالأنذال. على من يعشق الطغيان أن يعلم أن قضاء الليالي بالقصور الفخمة لن يكون ذات يوم سوى ذكريات من الماضي ومُستقبله سيكون حُلماً ذات يوم للظفر بليلة هادئة عوض قضائها بين السّحُب بحثاً عن مأوى. على جبابرة الحكم أن يعلموا أن هذه الشعوب ضاقت منهم ذرعاً ولا يطلبون منهم سوى أن يغربوا عن وجوههم ويجعلوا الشعب يبني مستقبله الذي خربُوه. على الطغاة أن يعلموا أن الأصدقاء في مُعجم الجبابرة مُصطلح لا مُرادف له غير الزيف والسّراب، فمصيرُ من يعتبرونهم أصدقائهم هو مَصِيرُهم، فكيف سيستنجد غريق بغريق؟ أليس عيباً على ما تبقى من الجبابرة إطباقهم الصمت الرهيب حتى إعتقد معه الجميع أن الشباب المُتساقط واحداً تلو الأخر برصاص بن علي ليس سوى ذباباً مُزعجاً ترش عليه المُبيدات؟ عجباً، كيف لأنظمة ضلت تتفرج لأيام على شعب يُقتل من أجل الحرية ويقدم شهداء واحداً تلو الأخر ولا أحد أرسل برقية تنديد أو بث خبراً في تلفازه المملوك لأسرته، يُعبّر فيها عن عدم رضاه لتقتيل الشعب وسيلان الدم كما سارع وفعل طُغاة الجزائر وليبيا في أحداث العيون بالمغرب. ألا يعلم الطغاة أن الشعب التونسي لا يُريد كلمات مَكرِهِم ولا مُسانداتهم الماكرة، ويُريد فقط أن يرى ثورات مثل ثورته على باقي الجبابرة لتحلم الأمم بالحرية والكرامة.